عندما قتل باروخ غولدشتاين أكثر من أربعين من المصلّين الفلسطينيين في الحرم الابراهيمي الشريف في الخليل أصاب أيضاً اتفاق أوسلو. ومثلما جاءت المفاوضات السرية في أوسلو بين اسرائيل ومنظمة التحرير ومهدت لاعلان المبادئ بسبب الصعوبات التي اعترضت محادثات مدريد فإن التحدي الذي يواجه رابين وعرفات والولاياتالمتحدة أيضاً هو التوصل الى "خلَف" ناجح لاتفاق أوسلو. لكن الزيارة التي قام بها رابين أخيراً الى واشنطن لم تحقق أي تقدم في هذا الاتجاه. فمع أن الزيارة كانت في الأصل للاحتفال بالمصالحة الاسرائيلية - الفلسطينية ولمتابعة المحادثات التي جرت بين الرئيس بيل كلينتون والرئيس حافظ الأسد في قمة جنيف في شهر كانون الثاني يناير الماضي، فإنها تركزت في الواقع على محاولة إيجاد مخرج ديبلوماسي من الورطة التي نجمت عن مذبحة الخليل. ذلك أن رابين أصرّ على عدم اجراء أي تغيير في اعلان المبادئ، إذ قال: "لقد وقعنا على اعلان المبادئ الذي ينص بمنتهى الوضوح على أن القضايا التي يجب حلّها بمجرد أن نتفاوض على حل دائم لن تكون موضع بحث الآن. كما أنه يرد بكتابة واضحة جداً كأمثلة على هذا النوع من القضايا: القدس والمستوطنات والحدود واللاجئون وغير ذلك". ومع أن مذبحة الخليل أثارت تساؤلات عن معنى تفسيرات رابين المستقبلية فإن من الاجحاف إلقاء اللوم في الأزمة الراهنة على المذبحة. إذ أن أوسلو واعلان المبادئ الذي انبثق عنها استندا الى عدد من الافتراضات التي بات من الواضح انها لن تخرج الى حيز الوجود منذ أسابيع بل وأشهر قبل وقوع المذبحة. وكانت أوضح حالات الفشل عجز الطرفين عن التزام المواعيد التي حددها اعلان المبادئ من أجل التوصل الى اتفاق يغطي فترة السنوات الخمس الانتقالية قبل تسوية الوضعية النهائية للأراضي التي احتلتها اسرائيل في حرب عام 1967. فمثلاً عندما مر التاريخ المحدد في شهر كانون الأول ديسمبر الماضي أعلن رابين أنه ليس هناك أي "تاريخ مقدّس". وهكذا فإن هذا الاستهتار بذلك العنصر الأساسي من الاتفاق لم يساعد إلا على تغذية مشاعر عدم الرضا الشعبي عن الاتفاق نفسه. كذلك تزعزعت الثقة الشعبية بين الاسرائيليين والفلسطينيين على السواء نتيجة التنكّر لافتراض أساسي آخر في أوسلو وهو أن الاتفاق سيكون بداية سلسلة من اجراءات بناء الثقة التي ستسهل عملية المصالحة وتعززها، إذ أن الذي حدث في واقع الأمر كان العكس تماماً. فالاسرائيليون يرون الآن أن المزيد من أبنائهم يؤدون الخدمة العسكرية في الأراضي المحتلة، بل وأصبح عددهم يفوق ما كان عليه في أي وقت مضى. أما بالنسبة الى الفلسطينيين الذين يعيشون في الأراضي المحتلة فإن الاتفاق لم يساعد على شيء، اللهم على المزيد من تدهور أوضاعهم الاقتصادية المتدهورة أصلاً. فقد تعرض الفلسطينيون خلال الأشهر التي أعقبت اتفاق أيلول سبتمبر الى المزيد من التردي الاقتصادي والمزيد من القيود على دخولهم اسرائيل للعمل هناك، كما أن الفوضى أخذت تضرب أطنابها في شوارع مدن قطاع غزة والضفة الغربية. ولم يصل أي شيء على الاطلاق تقريباً من تلك الملايين التي تعهد بها المتبرعون بحماسة شديدة في المؤتمر الدولي الذي رعته الولاياتالمتحدة في شهر تشرين الأول اكتوبر الماضي لمساعدة الأراضي المحتلة، اضافة الى ان اسرائيل لم تخفف إطلاقاً من قبضتها العسكرية، فيما واجهت منظمة التحرير اتهامات بالعجز عن ادارة الحكم الذاتي. عيوب أوسلو ومع استمرار المحادثات ودخولها شهر شباط فبراير من دون أن تعطي نتائج ملموسة، ومع تلاشي احتمال انسحاب الجيش الاسرائيلي من قطاع غزة وأريحا بدأ مفهوم الفترة الانتقالية الذي يعتبر مفهوماً أساسياً في اتفاق أوسلو يتعرض للانتقاد والهجوم. ومن الطبيعي أن يفضل الفلسطينيون دائماً "القفز" الى مفاوضات الوضعية النهائية لكي يتولوا سلطاتهم وصلاحياتهم بشكل أوسع. لكن الكثيرين من الاسرائيليين كانوا استنتجوا أيضاً ان الفترة الانتقالية لن تكون ناجحة. كما أدركوا أنها لن تُخفق في بناء الثقة بينهم وبين الفلسطينيين فحسب، بل وسيعرض هذا الاخفاق جميع فرص المصالحة التاريخية بين الطرفين الى خطر شديد. فرضية خيالية إلا أن العيب القاتل في أوسلو كشفته وحشية غولدشتاين في الساعات الأولى من فجر 25 شباط فبراير حين ارتكب مجزرة الخليل. فالفرضية التي قامت عليها أوسلو هي أنه يمكن التوفيق بين مصالح مليوني فلسطيني ومصالح 300 ألف مستوطن يهودي بينهم 170 ألفاً في القدسالشرقية، وانه يمكن بناء مستقبل يحمي المصالح الحيوية للطرفين. لكن المحادثات المطوّلة التي تركز منذ أيلول سبتمبر على طرق حماية خمسة آلاف مستوطن يهودي يعيشون بين 800 ألف فلسطيني في قطاع غزة، كشفت بشكل صارخ للجميع، ما عدا مؤيدي الاتفاق الذين شاركوا فيه، مدى استحالة تطبيق تلك الفرضية الخيالية. ولذا فمن الواضح أن مذبحة الخليل جاءت لتؤكد العواقب المأسوية لفشل أوسلو في مواجهة العقبة الأساسية التي تحول دون التوصل الى اتفاق دائم بين الاسرائيليين والفلسطينيين. وكان وزير الخارجية الاسرائيلي شمعون بيريز بين أشهر أولئك الذين أعربوا عن ارتيابهم من جدوى منطق عدم إدراج قضية المستوطنات على جدول أعمال المحادثات. إذ قال قبل أيام قليلة فقط من المذبحة: "سأقول لكم الحقيقة. إن هناك بعض الأسئلة التي يجب علينا أن نوجهها علانية وبصوت عالٍ. فما هي الفائدة من الابقاء على مستوطنة فيها 28 عائلة، وتحتاج الى عمال من تايلاند، كما تحتاج الى سرية من الجيش لحراستها، وتحتاج أيضاً الى دوريات على الطريق المؤدية اليها؟ أين هو المنطق؟ ما هو الهدف؟ وما هي جدوى ذلك؟". كان بيريز يتحدث عن مستوطنة نيتزاريم في غزة، لكن كلامه يمكن أن ينطبق أيضاً على الاستيطان في الخليل، بل وربما كان يتحدث عن الكثير من المستوطنات التي يعيش فيها اليهود في الأراضي المحتلة، التي يزيد عددها على مئتين. العنف سمة الاحتلال وعقب مذبحة الخليل نشرت صحيفة "هاآرتس" افتتاحية طالبت فيها رابين بتجاوز اعلان المبادئ من أجل استئناف المفاوضات. وقالت "إن هذا يمكن تحقيقه باخراج اليهود من مدينة الخليل أو حتى بالسماح لقوة الشرطة الفلسطينية بالعمل قبل توضيح جميع أوجه الاتفاق بين اسرائيل والمنظمة". وإذا كان صحيحاً ان مذبحة الخليل أثارت عاصفة من التساؤلات وقلقاً من المستوطنات والمستوطنين المتطرفين، إلا أن جزءاً كبيراً من هذا السخط انتهازي. فجريمة غولدشتاين ليست فريدة إلا في عدد الضحايا ومكان وقوعها. والعنف الذي يمارسه المستوطنون ضد الفلسطينيين الأبرياء والعزّل سمة أساسية ودائمة من سمات الاحتلال الاسرائيلي التي يتسامح معها المسؤولون الاسرائيليون والقضاء الاسرائيلي. لكن المذبحة كانت الضربة القاضية التي أدت الى انهيار كيان الديبلوماسية الذي أوجدته أوسلو. كما أن اعلان المبادئ لا يسمح بادراج قضية المستوطنين والمستوطنات على جدول أعمال تلك الديبلوماسية. من هنا أعلنت روسيا عودتها الى الدائرة الديبلوماسية لأنها تعتبر أن أوسلو فشلت. ومن هذا المنطلق اقترحت عقد مؤتمر دولي آخر على غرار مؤتمر مدريد. كما أن منظمة التحرير هي أشد الدعاة الى اجراء تغيير في قواعد اللعبة، فهي تطالب باخلاء بعض المستوطنات ونزع أسلحة جميع المستوطنين وتوفير نوع من الحماية الدولية للفلسطينيين كشروط مسبقة لدخول محادثات جديدة. لكن السفير الاسرائيلي في واشنطن ألمح الى أن أي طلب فلسطيني رسمي بإعادة النظر في بنود اتفاق أوسلو سيعرض العملية الديبلوماسية برمتها للخطر. أما رابين الذي لا يواجه مطالب منظمة التحرير فحسب، بل مطالب متزايدة من أعضاء ائتلافه الحاكم، فاكتشف فجأة أن اتفاق أوسلو "مقدس" وبدأ يصرّ على عدم البحث في قضية المستوطنات إلا في إطار مفاوضات الوضعية النهائية في وقت ما من المستقبل، طبقاً لما ينص عليه اتفاق أوسلو! لكن أفعاله تناقض كلامه. إذ أن الخطوات التي اتخذتها الحكومة الاسرائيلية لاحتواء ما وصفه رابين ب "يهود حركات حماس" تعكس الرغبة الاسرائيلية المحدودة في مواجهة العقبة التي يمثلها جميع المستوطنين في وجه السلام. عزلة أميركا ويبدو أن الولاياتالمتحدة التي كانت شبه معزولة تقريباً عن المفاوضات الاسرائيلية - الفلسطينية خلال الأشهر الأخيرة تعتبر مذبحة الخليل بمثابة فرصة لاعادة تأكيد سلطتها على مجرى الأحداث. ولا شك في أن قدرة واشنطن واستعدادها لدخول المعترك يمثلان خروجاً ملحوظاً على الاطار الذي أسسه اعلان المبادئ. ففي الأول من الشهر الجاري أشار روبرت بيليترو مساعد وزير الخارجية الجديد لشؤون الشرق الأوسط في شهادة له أمام الكونغرس، الى أن الاجراءات التي اتخذتها حكومة رابين على رغم ايجابياتها لن تساعد على أكثر من تهدئة منظمة التحرير، "شرط أن تطبقها اسرائيل تطبيقاً كاملاً وأن يتجاوز هذا التطبيق مجرد الرمزية ليشمل معالجة قضية المستوطنين المتطرفين". وهناك علامات تدل الى أن إدارة كلينتون غير راضية عن القيود المحدودة التي فرضتها حكومة رابين على مجموعة من أكثر المستوطنين تعصباً، ولذا فهي على استعداد للضغط على رابين لتجاوز أوسلو. كما أن وزارة الخارجية الأميركية التي لم تخف إطلاقاً شعورها بأن اعلان المبادئ فيه الكثير من النواقص والعيوب، لا تمانع في الحديث عن استخدام جزء من الألفي مليون دولار من ضمانات القروض التي تحصل عليها اسرائيل سنوياً، لتغطية نفقات اخراج المستوطنين من الأراضي المحتلة وتوطينهم في اسرائيل. وهكذا ربما تجد واشنطن نفسها مرغمة على إعادة النظر في تأييدها المطلق للخط الذي ينتهجه رابين واقتراح أوسلو رقم 2 على غرار أوسلو الأولى، لكن مع اجراء تعديلات مهمة تشمل تقديم اسرائيل تنازلات في قضية المستوطنات من أجل اعادة المنظمة الى مائدة المفاوضات. لقد كانت مذبحة الخليل أبعد ما تكون عن ارهاب فردي. فهي تعكس حسابات هادئة وتقديراً مدروساً للأثر الذي ستتركه المذبحة على عملية المصالحة بين اسرائيل والمنظمة. إذ أن روح الرفض لدى غولدشتاين يشاركه فيها معظم المستوطنين الذين يعارضون معارضة مطلقة أي مصالحة مع الفلسطينيين إذا لم تكن باملاء من اسرائيل. هكذا أغرق غولدشتاين أوسلو الأولى. لكن أوسلو الثانية ربما تجبر رابين على الدخول في المواجهة التي كان يأمل في تفاديها مع المستوطنين.