«الفكرة هي أشبه بطلب انضمام إلى صف الحقيقة كسبيل اعتصام مسبق ضد صفاقة الواقع ومداهمته المطلقة. ذاك أن الفكرة تراهن على الحقيقة كواقعة تتجاوز المبذول من الوقائع المباشرة. كأن الحقيقة ليست معطاة. وهي دائماً محتاجة إلى فعل استحقاق، والفكرة عندما تراهن على الحقيقة تتخذها ملجأً لها مقابل الوقائع، حتى عندما يحلو للفكرة أن تجهر بإعلان الحقيقة، أو الالتجاء إلى اسمها، فإنها لا تستثني نفسها من كونها واقعة، ولكنها تدعي واقعيتها أكثر من الواقع بالذات، إذ إن الأفكار عامة وبالجملة، تريد أن تبني عالماً لا يكتفي أن يكون موازياً لعالم الوقائع، بل يدخل معه في تشابك وتداخل وصراع، من هنا جاء جيل أيديولوجيا الذي أراد من الأفكار أن تغير الواقع، فليس هناك محايدة بين العالمين، وأحدهما، وهو عالم الأفكار، يشن حرب اللامتعين على المتعين، إنه لا يتقبل الآخر كما هو، هكذا امتلأ تاريخ الفكر بمشاريع تغيير العالم، وأُتخم التاريخ بصراع الأديان فالأيديولوجيات. وجيل الأيديولوجيا لا يزال متحكماً رغم ظهور الجيل الثاني الذي أعطى للفكرة ليس مهمة تغيير العالم، بل فهمه فحسب أي تأويله. وأما الجيل الثالث الذي لم تره الدنيا بعد، ولا يزال في حكم النداء عليه فقط، فهو الذي لن يرفع شعار التغيير، ولا شعار الفهم من بعده، لكنه يريد أن يفعِّل الفكرةَ نفسها، أي أن يحولها إلى تفكير، أن يردها إلى جنينها الأول، وهو السؤال. ذلك ما يعنيه حقاً أننا لم نفكر بما يكفي بعد» «راجع: مطاع صفدي/ ماذا يعني أن نفكر اليوم: البيان من أجل الفلسفة الأخيرة، ص75-76. هل مطاع صفدي حاول في السطور أعلاه اختزال هيجل، وفويرباخ وماركس، في حديثه عن (الديالكتيك/الجدلية) بين الفكر والواقع، وهل نستطيع اختصار التاريخ العالمي في «روحانية الشرق، ومادية الغرب» من فيتنام التي هزمت فرنسا ثم هزمت أمريكا بإذلال كبير لكليهما بالمعنى النيتشوي للسوبرمان ماثلاً في هو تشي منه، مروراً باليابان المهزومة وفق المعيار الغربي النيتشوي، والمنتصرة وفق المعيار الشرقي الشنتوي/ البوذي «لا تعد الهزيمة أمراً سلبياً بحد ذاتها، بل هي جزء من مسار التعلم والتطور الروحي، البوذية تدعو إلى التخلي عن التعلق بالنتائج، حيث إن الانتصار الحقيقي هو في التغلب على المعاناة والجهل والرغبات المفرطة» فكان النصر الحضاري/الياباني. وهنا ينبثق استفهام ما بين شرق وغرب، يحسمه «الصامت البليغ» لصالح الأقوى علمياً باستعارة مجازية تجزم أن (داريوش شايغان خسر أمام فريدريك نيتشه)، فكيف نسي: أن الشرق هو كل آسيا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بل يمتد أحياناً ليشمل أجزاء من أوروبا الشرقية، والدليل أن أوروبا الغربية شرقت بتركيا فلا هي تركتها خارج الناتو، ولا هي استدمجتها في الاتحاد الأوروبي، كقدر برزخي يخفي تحت رماد حربه الأولى جمر التحالفات القديمة، تراها في ضخامة الجالية التركية بألمانيا على خلاف بقية دول أوروبا الغربية. هل عبدالناصر كبرياء عربية «فوق اللزوم»؟ وهل السادات براجماتية عربية «فوق اللزوم»؟ وكيف يمكننا الحديث عن هذا «اللزوم» المنفلت من عقاله في تاريخنا العربي، والذي يتعمد العالم تهذيبه بنصلين لمقص إمبريالي واحد، لم يسلم منه قلب أوروبا عدا أن يسلم منه الشرق، لنرى وقد أصبحت ألمانيا الواحدة ألمانيتين (شرقية وغربية)، وكوريا واحدة لتصبح كوريتين (شمالية وجنوبية).. الخ من عقابيل الحرب العالمية الثانية، ولا تزال أنصال المقص تتناوب الأيديولوجيا ما بين (سادية ومازوخية، بيوفيليا ونيكروفيليا وفق معايير إريك فروم في التشريح السريري لسادية جوزيف ستالين ونكروفيليا أدولف هتلر/ راجع: تشريح التدميرية، إريك فروم، الجزء الثاني ص28، ص149) وعليها قس مآلات (العسكريتاريا العربية) في تشريحك السريري، مع مراعاة أن الواقع العربي لا يملك طبقة برجوازية روسية ولا ألمانية، فصراعه ليس طبقياً بالمعنى (الصناعي الرأسمالي) بل الصراع ولا يزال مع مفاهيم (القرون الوسطى) في العقل العربي (القروسطي) الذي (لا يرى جديداً تحت الشمس) عاجزاً عن إدراك المعنى في (لا يمكنك عبور نفس النهر مرتين). هل غريزة الحياة تبدد الخوف من المستقبل؟ غريزة الحياة لوحدها لا تفعل شيئاً لمجتمع لا يعرف معنى (المستقبل)، كلمة (المستقبل) لا معنى جذرياً لها في تربة الحياة عند المجتمع العربي، فالمستقبل عنده ضارب الجذور في الموت/الآخرة، فهل هو مجتمع أقرب للنكروفيليا من حب الحياة؟! هكذا يتحرك اللاوعي العربي التقليدي في نظرته إلى كلمة (المستقبل)، وأقصى الإدراك في كلمة (المستقبل) لن يتجاوز تحقيق الكفاية في دورة حياة الثدييات (مأكل، مشرب، مأوى، تكاثر)، فكيف نرجو من الرأسمالية العربية (الطفيلية) أن تسمو إلى (دعم البحث العلمي) القائم على (مجتمع مدني) يسير باتجاه المستقبل، هنا ندرك فضل الدولة المتجهة للحداثة، كعقل أعلى يرشد نظر الشعوب التقليدية إلى مستقبلها، فنجدها تطرح (رؤية عشرية للمستقبل) وتربطها بالواقع عبر (جودة الحياة) على هذه الأرض، ويبقى طموح المواطن في بعض الدول العربية وأهمها (ليبيا، سوريا، اليمن، السودان) أن يتجاوز من (بيدهم مصادر القوة) قلة إيمانهم (بأن جميع المواطنين شركاء في سياسة بلدهم، شراكة جذرها امتلاكهم تراب الوطن، وأن هذه الشراكة مصدر لحق المواطنين في شراكة مماثلة في الشأن العام... الشراكة المتساوية بين المواطنين هي القاعدة الأولى لما يعرف في علم السياسة بالإجماع الوطني، والإيمان بها هو الأساس لكل مجتمع سياسي حديث.../ راجع جريدة الشرق الأوسط، توفيق السيف: من الفوضى إلى الدولة المطلقة). وأخيراً: إلى «فيلسوف التنوير العربي» مطاع صفدي هل يمكن الإجابة على تساؤلكم: لماذا لم نفكر بما يكفي بعد؟ نجيبكم ونحن نتفيأ ظلال كلماتكم: لقد طال أمد الفكرة الواقفة بباب العالم العربي منذ قرون خلت تحت «احتلال العثمانيين»، طالبةً الانضمام إلى صف الحقيقة، وعندما فُتِح لها الباب بعد «سايكس بيكو» كي تدخل وجدت الحقيقة عارية ينفر منها الجميع فلقد سرق الكذب ملابسها بعد أن أغراها بالسباحة معه في بحيرة الأيديولوجيا العربية «قومية، ماركسية، إسلامية»، فاعتصمت الفكرة الحرة عن الحديث خوفاً من «صفاقة الواقع» الذي تعيشه، ولروحكم السلام.