الذاكرة قد تخون صاحبها، وتقنعه بوجود وقائع غير موجودة من الأساس، والمسألة مثبتة علمياً ولا يمكن الالتفاف عليها، ومع ذلك يشكك بعض القانونيين الغربيين فيها، لأن اعتمادها سيقلل من قيمة الشهادة كدليل قضائي مريح بالنسبة لهم، وبعض نظرائهم السعوديين يشاركونهم ما سبق.. قبل أعوام قامت إليزبيث لوفتس، أستاذة علم النفس الإكلينكي والذاكرة، في جامعة واشنطن الأميركية، وبالشراكة مع مجلة سلايد الإلكترونية، بعمل دراسة واسعة شملت قرابة خمسة آلاف شخص، لاختبار قدرتهم على تذكر أحداث سياسية معينة، وعرضت عليهم أربع صور، من بينها واحدة مفبركة وقد كانت لمصافحة بين الرئيسين الأميركي باراك أوباما والإيراني أحمدي نجاد، ورغم أن المصافحة بين الرجلين لم تحدث، وأنهما لم يسبق وأن تقابلا خلال فتراتهم الرئاسية، فقد قال المشاركون إنهم يتذكرون ما ظهر في الصورة المفبركة، ولدرجة تناولهم لبعض تفاصيلها ومشاعرهم نحوها. في المقابل كثيرون يتصورون أن لوحة الموناليزا، تحمل وجها جامدا بلا تعابير، معتمدين على انطباعات نقلها إليهم غيرهم، ومن ثم سجلوها في ذاكرتهم كحقائق، والصحيح أنها ترسل ابتسامة خفيفة، وما قيل يثبت قابلية الذاكرة للتضليل والخداع، بفعل الإيحاء، ونتيجة للتلاعب بالألفاظ، أو الثقة بما يقوله الآخرون، لأنهم أعلم وأقرب، وفي الوقت الحالي تمارس سرديات وأخبار الفضائيات ومنصات السوشال ميديا دورا مركزيا يؤثر في تصورات الناس، وفي تشكيل ذكرياتهم الكاذبة. حتى ظاهرة الديجافو، التي يتخيل فيها الشخص أنه شاهد موقفاً حالياً في فترة سابقة، لا تتجاوز كونها خطأ وقع فيه الدماغ، وتسبب في خلطه بين الإشارات التي يستقبلها، وبين الموجود في مستودع ذاكرته، ويدخل في الذاكرة الكاذبة، التوتر والضغوط والصدمات النفسية، وكلها تجعل الشخص يلجأ إليها كآلية دفاع، ومعها الأوهام الإدراكية، واعتقاد صاحبها بوجود أشياء ليست موجودة إلا في مخيلته، والذاكرة الخاطئة ترتبط بالتقدم في السن، وبالاضطرابات النفسية كالوسواس القهري، والمختصون يرون أنها حالة نفسية وعقلية، يخترع فيها الشخص تفاصيل وحكايات لم تحدث معه على الإطلاق، ويتمسك بصحتها، لأنها عرضت عليه بلغة تحفزه على التصديق، وعلى خلق أحداث لم تحصل، وهذه المسألة يقع فيها معظم الأشخاص، وبصرف النظر عن أعمارهم أو مستواهم التعليمي أو درجة ذكائهم. سول كاسين، من جامعة ويلماس كوليدج الأميركية، نشر دراسة في التسعينات الميلادية، تبين فيها أن من يتهمون زوراً بارتكاب الجرائم والمخالفات، قد يقرون ويعترفون بارتكابها، لمجرد حضور شخص والقول إنه شاهدهم يقومون بذلك، والأصعب أن بعضهم يشعر بالذنب، ويزيد تفاصيل من عنده تنسجم مع الخطأ المتخيل، وهذا يشير إلى أن ذاكرة المتهمين أنفسهم قد يتم تشويهها، بالشهادة الكاذبة أو بالأدلة الملفقة، وربما صدقوا أنهم تورطوا في أمور لم يفعلوها، وفي الأوساط الطبية، إذا طلب المريض رأياً ثانياً، وعلم الطبيب الجديد بالتشخيص الأول، فإنه قد يتأثر به وإن كان خاطئا، ويكون ذكريات وخبرات عنه باعتباره حقيقة، ما يؤثر في رؤيته الذاتية أو يغيرها بالكامل، بما يتوافق وأفكار الطبيب الأول، والحالة السابقة لا تقبل التعميم ولكنها تحدث، وثبت علمياً أن أربعة من كل عشرة أشخاص يختلقون ذكريات طفولتهم المبكرة، لأن الدماغ البشري لا يستطيع تخزين ذكريات الأحداث الشخصية، وبالأخص قبل سن العامين. أكدت دراسة أجريت في أميركا، ونشرت في الثمانينات الميلادية، وجود قرابة ثلاث مئة شخص اتهموا وسجنوا بالخطأ في الولاياتالمتحدة، بعد إجراء اختبارات الحمض النووي عليهم، وبعض هؤلاء سجن لمدة تصل إلى 30 عاماً، ولوحظ أن 75 % من الإجمالي، تم تأكيد الاتهام الموجه لهم، استنادا لذكريات كاذبة قدمها شاهد عيان، والسبب أن المخ لا يخزن الأحداث بكامل تفاصيلها، لأنه ليس إلكترونياً كما الكمبيوتر، وإنما حيوياً يخزن ما يستقبله في الأعصاب، والمعنى أنه يقوم بعملية بناء الوقائع ويعوض نواقصها، بحسب ما يراه منطقيا من وجهة نظره، أو بما حدث في مواقف مشابهة، ومصطلح الذاكرة الزائفة بدأ مع "أبو التحليل النفسي"، النمساوي سيغمون فرويد، وزميله الفرنسي بيير جانيت، بعد وقوفهما على على حالات لمجموعة من الأشخاص، قالوا فيها إنهم تعرضهم لتحرش ومضايقات في طفولتهم، إلا أنهما لم يجدا دليلا أو مؤشرا واحداً على وقوعها، وينظر عالم النفس آرثر كلارك، لهذا النوع من الذاكرة، بوصفه طريقة يعيد فيها المخ صناعة الماضي مجدداً، طبقاً لمنظوره الخاص. ما يعني أنه يكمل القديم بالجديد، وبالتالي فما يقوم به متخيل وافتراضي في الغالب، ولا تربطه علاقة بالواقع، والذاكرة الإنسانية التي يمكن وصفها بالترميمية، تتأثر بالايحاءات، وبالخبرات الشخصية، وبآراء المحيطين بأصحاب الذكريات، والسابق يسمونه في علم النفس، الانحيازات المعرفية، وهذه إشكالية فعلاً، وبالأخص في القضايا الحقوقية والجنائية، وفي شهادة الشهود أمام المحاكم، والأنسب أن يتم الاعتماد على التوثيق الكتابي المسبق، ومن قبل الأجهزة العدلية، وخصوصاً في أمور الميراث وإثبات الملكية والتعاملات المالية، لأن الذاكرة قد تخون صاحبها، وتقنعه بوجود وقائع غير موجودة من الأساس، والمسألة مثبتة علميا ولا يمكن الالتفاف عليها، ومع ذلك يشكك بعض القانونيين الغربيين فيها، لأن اعتمادها سيقلل من قيمة الشهادة كدليل قضائي مريح بالنسبة لهم، وبعض نظرائهم السعوديين يشاركونهم ما سبق.