انكشفت اللعبة الديبلوماسية التي يديرها الرئيس عرفات مع حكومة ايهود باراك، بعدما خرجت المفاوضات السرية التي يديرها ابو العلاء وابو مازن الى العلن. وتهمش من جديد دور "كبيرالمفاوضين" الفلسطينيين صائب عريقات، وأفل نجم "عميد" المفاوضين ياسر عبدربه، وتوجهت الانظار الى مفاوضات ستوكهولم انتقلت الى اسرائيل اخيراً التي يديرها من الجانب الاسرائيلي وزير الامن الداخلي شلومو بن عامي بتفويض من باراك مقابل المفاوض الاكبر ابو العلاء قريع وحسن عصفور بتفويض من "امير المفاوضين" وبالتنسيق مع "المفاوض المجهول" أبو مازن، وبتشجيع من الاسرائيليين الذين ابدوا رغبتهم بمفاوضة ابو العلاء بدلاً من بقية الديبلوماسيين الفلسطينيين. واعتبر الاسرائيليون ان قريع الذي برهن في اوسلو على انه رجل المهمات الصعبة، ذو الخيال الواسع والقادر على تخطي الصعوبات التفاوضية عن طريق تأجيلها او افراغها من مضامينها. وهو الرجل الكفيّ لادارة مفاوضات الوضع النهائي المعقدة ليتم التوصل الى اتفاق اطار في الاسابيع المقبلة على منوال "اوسلو" السابق، او بتعبير آخر "اوسلو جديد" يتم التفاوض في كلٍ من بنوده على روزنامة عمل طويلة المدى في حين يتم تأجيل قضايا اخرى "معقدة" الى اجل غير مسمى أو لربما مسمى فقط من اجل التسمية. ثم ان المفاوضات السرية علقت بعدما جرح طفل اسرائيلي، مع انها كانت تجري في "اجواء ايجابية وبناءة" فيما كان جيش الاحتلال يطلق النار على مئات الفلسطينيين بل قتل ستة شبان منهم. كان الاسرائيليون والفلسطينيون انجزوا اوسلو اتفاقاً يحتاج كل بند فيه الى تفاوض على مراحل وتطبيق على مراحل، في ظل هيمنة فيتو اسرائيلي على اي اقتراح فلسطيني. وعلى مدى السنين السبع الماضية، اضطر الفلسطينيون الى الخضوع للضغوط الاميركية والاسرائيلية وارغموا على التوصل الى ست اتفاقات لاحقة، وعلى عدد لا يحصى من المفاوضات الميدانية واللجان المشتركة التي تحتاج في عملها الى ضوء اخضر اسرائيلي لإحراز اي تقدم لدى تنفيذ أي تفصيل في اي من الاتفاقات. وبما ان اتفاق المبادئ في اوسلو افتقد الحد الادنى من التفاصيل والدقة ولم يستند الى مراجع قانونية او دولية في القضايا المهمة، فقد استطاع الاسرائيليون على سبيل المثال ان يوسعوا الاستيطان، وان يزيدوا من "تهويد" القدس، وان يصروا على تعريفات خاصة بهم بشأن اعادة الانتشار وليس الانسحاب او تحرير السجناء او الممر آلامن الذي هو أبعد عن ان يكون ممراً أو آمناً!، وان يستمروا في عقاباتهم الجماعية وفي مصادراتهم الاراضي وفي عمليات الاغلاق والحصار الاقتصادي، وان يعتبروا ان موضوع اللاجئين قد انتهى عملياً، وكذلك القدسالشرقية باعتبار أنه اصبح فيها اكثرية يهودية. ومنذ اتفاقات اوسلو لم تلتزم اسرائيل المواعيد ولا التواريخ ولا النصوص ولا روح الاتفاقات، وكل ما فعلته كان بخيارها وبحسب اولولياتها الامنية والسياسية، والزمت الفلسطينيين بكل شيء على الرغم منهم بما في ذلك الامن الوطني لاسرائيل، بل أمن كل مستوطن اسرائيلي. ومنذئذ ظل الاستيطان في تصاعد لا سابق له، والاقتصاد الفلسطيني في هبوط، واسرائيل تهيمن على معظم الاراضي المحتلة. لعل "جردة حساب" سريعة لمخلفات اوسلو توضح الصورة اكثر. فبين السنوات 1993 و 1996 ازداد عدد المستوطنين في الضفة الغربية من 95 الف مستوطن الى 147 الفاً، وهي السنوات التي حكم فيها اسحق رابين وشمعون بيريز -الرجل الذي وضع احمد قريع ثقة الفلسطينيين بوعوده بدون اي مبرر او برهان على اي تغيير في شخصية هذا الاسرائيلي المخادع والمناور والكاذب. وعلى مدى السنوات السبع الماضية تضاعف عدد المستوطنين في الضفة الغربية، وازداد خلال عام في الاراضي المحتلة من 280 الف مستوطن الى 400 الف، حسب ما جاء في آخر الاحصاءات. وازداد عدد المستوطنات بالعشرات في الفترة ذاتها، في حين ان اسرائيل اعترفت رسمياً بأكثر من 30 مستوطنة جديدة بعد اتفاق اوسلو، ليرتفع عدد المستوطنات الى اكثر من 180 . وتوسعت رقعة العديد من المستوطنات وتحولت اثنتان منها هما معالي ادوميم في منطقة القدس وارئيل في الوسط الى مدن. كل ذلك تحت سقف "اوسلو"! واستطاع الاسرائيليون ان يتمموا عملية تهويد القدس من دون اهتمام عالمي او محلي يذكر، سوى الاثارة التي ادى اليها اعلان نتانياهو بشأن بناء ضاحية جديدة للقدس على اراضي بيت لحم وبيت ساحور في جبل ابو غنيم. ولكن حتى هذه الضاحية قد اصبحت شبه جاهزة للسكن، وكانت حكومة باراك قد اعلنت في اليوم الذي صوتت فيه على تسليم ابو ديس الى الفلسطينيين، عن بناء 580 شقة جديدة فيها، ما يعني ان اسرائيل استطاعت في عهد اوسلو ان تطوق القدسالشرقية تماماً بالمستوطنات اليهودية وتمنع عنها التواصل الجغرافي الطبيعي مع الضفة الغربية. وحتى تلك الانجازات القليلة التي حصل عليها الفلسطينيون في الاراضي المحتلة جاءت فقط بعد تنازلات اضافية من جانب الفلسطينيين. نذكر على سبيل المثال انه بعد اربع سنوات من اوسلو، اي بين 1993 و 1998 لم تتسلم السلطة الفلسطينية سوى 2 في المئة فقط من الاراضي التي سمّيت منطقة أ. في حين انه بعد سبع سنوات من المفاوضات لم يحصل الفلسطينيون على اكثر من 2.17 في المئة من الاراضي المحتلة. وحتى يومنا هذا لا يزال نحو 10 آلاف مستوطن في قطاع غزة يسيطرون على 20 في المئة من هذه المنطقة الضيقة التي يعيش فيها اكثر من مليون فلسطيني، اكثريتهم من اللاجئين. وبسبب الاغلاقات وافتعال الازمات والتأخير على الحدود، اضافة الى عملية الحصار اليومي على الاقتصاد الفلسطيني ومنتجاته والهيمنة على مصادر المياه ومنع الفلسطينيين من الوصول الى الاراضي الزراعية وغير الزراعية في مناطقهم، ادت الحرب الاسرائيلية في مجالات الصناعة والزراعة ورعاية المواشي والتجارة الى انسداد الافق الاقتصادي، والى منع الكثير من العمال الفلسطينيين من الوصول الى القدس او اسرائيل عموماً على خلفية فرض الاولويات الامنية الاسرائيلية على الفلسطينيين. كل ذلك أدى الى تراجع الاقتصاد الفلسطيني وتردٍ في مستوى المعيشة عموماً مع ارتفاع نسبة البطالة الى اعلى النسب منذ السبعينات، ما عدا في ايام الانتفاضة. وعملياً تراجع عدد الفلسطينيين الذي يعملون في اسرائيل من 116 الفاً سنة 1993 الى 57 الفاً سنة 1997، على حد ما جاء في تقرير المحامي الاسرائيلي اليغرا باشيكو الذي نشره اخيراً مركز واشنطن لتحليل السياسة في فلسطين. وعملياً وصلت البطالة رسمياً الى اكثر من 28 في المئة من العاملين الفلسطينيين. في نهاية السنوات السبع اشارت المحصلة الى انخفاض في الناتج المحلي العام نسبة لكل شخص الى ما لا يقل عن 20 في المئة، في حين لا تزال اسرائيل تمارس هيمنتها من خلال قوانينها الطارئة و "شرعيتها" ضمن العملية السلمية - وبموافقة ضمنية من الفلسطينيين لحظها "اوسلو" - على نحو 85 في المئة من الاراضي الفلسطينية على حد ما جاء في تقرير لروجر نورماند، المدير في مركز الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في نيويورك. وفي الوقت نفسه انخفضت مستويات التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية، مقابل ارتفاع في ميزانيات الامن. وجاء في تقارير لاعضاء في المجلس التشريعي اخيراً ان ميزانية الامن اصبحت، بضغوط من الولاياتالمتحدة واسرائيل، تساوي ميزانيات الصحة والتعليم والخدمات الاجتماعية مجتمعة. وعملياً تضاعفت مصادر القهر والسيطرة الامنية على الشعب الفلسطيني لتتشكل اجهزة امنية محلية اضافة الى تلك الاسرائيلية المحتلة. في المقابل، دعمت اسرائيل اقتصاد مستعمراتها في الاراضي المحتلة باساليب غير انسانية. فهي نقلت، مثلاً، نقلت اسرائيل بعض صناعاتها المحلية التي اغلقت بسبب نفاياتها المضرة بالانسان والطبيعة الى الضفة الغربية في اواسط التسعينات ونهايتها، اي بعد اتفاقات اوسلو لتنزل الاضرار بالبيئة الفلسطينية. واذا استطاع الفلسطينيون ان يدخلوا فلسطين بحرية نسبية على مدى سنوات من الاحتلال، فإن "اوسلو" ادى الى عملية اغلاق دائمة للاراضي المحتلة، إذ ان كل انسان بحاجة الى اذن خاص للدخول الى اسرائيل، بما في ذلك القدس. وبالطبع فان شريحة ال VIP التي عملت على التنسيق مع اسرائيل اقتصادياً او امنياً قادرة على التنقل بسهولة لضمان عملية "التعاون" الاقتصادي والامني او بالاحرى عملية التبعية الاقتصادية والامنية. وفي فترة رابين، كان هناك بعض التمييز بين مستوطنات "سياسية" ومستوطنات "امنية"، واذا كان من الممكن التخلي عن الاولى فإن الثانية باقية لا محالة بالنسبة الى حزب العمل آنذاك. اليوم لا نسمع في حكومة باراك مثل هذه الافكار، وحتى وزير العدل يوسي بيلين الذي يفترض انه من المعتدلين، يعتبر ان لا مساس بالمستوطنات. ولكن وجود 400 الف مستوطن بين الفلسطينيين ليس الا قنبلة موقوتة. هذا الا اذا اعطى السيد أحمد قريع في المفاوضات السرية المزيد من الضمانات الفلسطينية او المزيد من الوقت لاسرائيل بخصوص المستوطنات، او يسمح لحكومة باراك بضم الاراضي المحيطة بالمستوطنات. والخطوة الاخيرة اذا ما تمت ستكون على المدى البعيد الطريقة الاشرس والانجع للتضييق على الفلسطينيين وتثبيت نظام "الابرتايد" الذي اخذ يهيمن منذ اتفاقات اوسلو وبسببها على الاراضي المحتلة. اصبح الاحتلال "ابرتايد"، والمناطق الفلسطينية بانتوستانات على الطريقة الجنوب افريقية، وأصبحت الارادة الفلسطينية رهينة العلاقات الامنية، والاستقلالية الفلسطينية رهينة التبعية. بعد كل هذا، الى اي مفاوضات ذهب المفاوضون السرّيون، بعد سبع سنوات عجاف من مخلفات اوسلو على الشعب الفلسطيني؟ الوزير حاييم رامون القريب من باراك يتحدث عن "ترتيبات انتقالية بعيدة المدى"، وبيلين يقترح صيغة تفترض حلاً مع "عناصر مستمرة"، وباراك يقول القريبون منه أنه يميل الى اتفاق نهائي مع الفلسطينيين، اي أنه اقرب الى صيغة بيلين. على هذه الخلفية، فإن المقترحات الاسرائيلية التي وصلت الى الصحافة كبالونات اختبار، تقول بأن باراك مستعد للتخلي عن 80 في المئة من الاراضي المحتلة، 67 منها مع اعلان الدولة والبقية على مدى سنوات طويلة، اضافة الى ضم ال 20 في المئة الباقية والتي تشمل المستوطنات لاسرائيل، هذه التقارير لا تذكر ما يريده باراك بالمقابل، ولماذا لا يمكن القبول بها فلسطينياً. فرئيس الحكومة الاسرائيلي يصر على اتفاق يتضمن مقابل المزيد من الانسحاب الاسرائيلي موافقة الفلسطينيين على اغلاق الملفات المهمة مثل اللاجئين، او القدس التي يقول الاسرائيليون ان عرفات تخلى عنها عملياً عندما وافق على تأجيلها في اوسلو. ولكن الذين يعرفون الرئيس الفلسطيني يعون انه لن يتخلى يوماً من الايام او يوقع رسمياً على وثيقة او اتفاق ينهي المطالب الفلسطينية بشأن اللاجئين او القدس. وبناء على ذلك فإن شرط باراك بأن يتم تنازل الفلسطينيين عن حقوقهم الوطنية المركزية مقابل اعتراف اسرائيل بدولة على 80 في المئة من الضفة أمر صعب التحقيق. وبهذا المعنى فإن انسحاباً اسرائيلياً - وليس فقط اعادة انتشار - من معظم الضفة لا يزال بعيد المنال. لا شك في ان "ابو العلاء" لن يكون قادراً على زحزحة الموقف الاسرائيلي قيد انملة. لا لأنه اثبت في اوسلو انه مفاوض فاشل، وانما لأن فشله السابق مثل فشله المستقبلي هو على العموم نتيجة غياب توازن القوى المحلي والدولي لمصلحة اسرائيل. ولكن المشكلة لم تكن في ما لم يحصله، بل في ما حظيت به اسرائيل من مصداقية تاريخية ودولية، وهيمنة سياسية وسيطرة جغرافية تحول خلالها الاحتلال وبطشه الى مجرد مرحلة من مراحل العملية الديبلوماسية، تسهل على اسرائيل تنفيد مخططاتها وتصعب على الفلسطينيين مواجهتها. والامتحان التفاوضي لا يزال الامتحان ذاته: اذا اعتبرنا ان المفاوض الفلسطيني لن يستطيع ان ينتزع من اسرائيل ما لا ترغب في التنازل عنه، فكيف يستطيع مواجهة الضغوط الاسرائيلية التي تطالبه بتنازلات مقابل ما ترغب في ارجاعه للفلسطينيين بحسب الاتفاقات الموقعة او بحسب ما تنص عليه قرارات الشرعية الدولية. او بالاحرى كيف لا يتخلى المفاوض الفلسطيني تحت الضغوط عن طاقة الفلسطينيين على التغيير والنمو المستقل، او ان لا يقبل بتحديد خيارات الشعب الفلسطيني او خفض مطالبه ولا يقبل بالتخلي عن قدرته على تغيير ميزان القوى المحلي في الاراضي المحتلة من اجل التوصل الى حلول عادلة لقضايا لا يمكن حلها اليوم حلاً عادلاً بالتفاوض مع اسرائيل؟ هذه الامكانية غير واردة عند ابو العلاء كما ثبت في اوسلو. والحقيقة انه اذا ما استعاد المفاوض الفلسطيني كل الضفة الغربية وقطاع غزة وخسر الشعب الفلسطيني استقلاليته وارادته، فكيف ستفيده الارض؟ * كاتب وباحث فلسطيني.