محافظ بيش يطلق برنامج "انتماء ونماء" الدعوي بالتزامن مع اليوم الوطني ال94    البنك الدولي يعزز تمويلاته المخصصة لتخفيف آثار التغير المناخي    محافظ الزلفي يلتقي مدير إدارة كهرباء منطقة الرياض    الأمم المتحدة تؤكد أنها نفذت خطط الاستجابة الإنسانية ل 245 مليون شخص    الأخدود يتعادل سلبياً مع القادسية في دوري روشن للمحترفين    محافظ حفرالباطن يرأس المجلس المحلي    أمطار متوسطة على منطقة المدينة المنورة    أبها تستضيف منافسات المجموعة الرابعة لتصفيات كأس آسيا تحت 20 عاماً    «الجيولوجيا»: 2,300 رخصة تعدينية.. ومضاعفة الإنفاق على الاستكشاف    «المجنون» و«الحكومة» .. مين قدها    5 محاذير عند استخدام العلم السعودي    محمد القشعمي: أنا لستُ مقاول كتابة.. ويوم الأحد لا أردّ على أحد    وظيفةُ النَّقد السُّعودي    جمعية النشر.. بين تنظيم المهنة والمخالفات النظامية المحتملة    حصّن نفسك..ارتفاع ضغط الدم يهدد بالعمى    احمِ قلبك ب 3 أكوب من القهوة    احذر «النرجسي».. يؤذيك وقد يدمر حياتك    هدف متأخر من خيمينيز يمنح أتليتيكو مدريد على لايبزيغ    جوشوا ودوبوا يطلقان تصريحات التحدي    مصادرة صوت المدرجات    النصر وسكّة التائهين!    قراءة في الخطاب الملكي    ماكرون: الحرب في لبنان «ليست حتمية».. وفرنسا تقف إلى جانب اللبنانيين    قصيدة بعصيدة    شرطة الرياض: القبض على مواطن لمساسه بالقيم الإسلامية    حروب بلا ضربة قاضية!    دراسات على تأثير غطاء الوجه على صحة الإناث..!    سوق المجلس التراثي بشقراء يواصل استعداداته للاحتفاء باليوم الوطني 94    أدب تختتم ورشة عمل ترجمة الكتاب الأول بجدة    التزامات المقاولين    الذكاء الاصطناعي يقودني إلى قلب المملكة    ديفيد رايا ينقذ أرسنال من الخسارة أمام أتلانتا    أمانة الطائف تكمل استعداداتها للإحتفاء باليوم الوطني 94    جازان: إحباط تهريب (210) كيلوجرامات من نبات القات المخدر    صحة جازان تدشن فعاليات "اليوم العالمي لسلامة المرضى"    الاستثمار الإنساني    سَقَوْهُ حبًّا فألبسهم عزًّا    هيئة الأفلام تطلق النسخة الثانية من "منتدى الأفلام السعودي" أكتوبر المقبل    نائب أمير جازان يطلق البرنامج الدعوي "انتماء ونماء" المصاحب لليوم الوطني ال 94    محافظ الأحساء: الخطاب الملكي يحمل حرصا شديدا على حماية هويتنا وقيمنا    أكثر من 5 ملايين مصلٍ يؤدون الصلوات في المسجد النبوي خلال الأسبوع الماضي    الكويت ترحب بتبني الأمم المتحدة قرارًا بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي المحتلة    فريق طبي بمستشفى الملك فهد بجازان ينجح في إعادة السمع لطفل    برعاية خادم الحرمين.. «الإسلامية» تنظم جائزة الملك سلمان لحفظ القرآن    فريق بحثي سعودي يطور تكنولوجيا تكشف الأمراض بمستشعرات دقيقة    أمطار متوسطة إلى غزيرة مصحوبة بالبرد وتؤدي لجريان السيول على 5 مناطق    المواطن عماد رؤية 2030    اليابان تحطم الأرقام القياسية ل"المعمرين"    تعزيز التحول الرقمي وتجربة المسافرين في مطارات دول "التعاون"    الأمير سعود بن مشعل يشهد اجتماع الوكلاء المساعدين للحقوق    إلى جنَّات الخلود أيُّها الوالد العطوف الحنون    برعاية وزير الداخلية.. تخريج 7,922 رجل أمن من مدن التدريب بمناطق المملكة    وفد من الخطوط السعودية يطمئن على صحة غانم    المهندس الغامدي مديرا للصيانة في "الصحة"    سلامة المرضى    كلام للبيع    كسر الخواطر    هيئتا الأمر بالمعروف في بلجرشي والمخواة تفعّلان برنامج "جهود المملكة العربية السعودية في محاربة التطرف والإرهاب"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"الخطر والفرصة" لإدوارد دجيرجيان ... الديبلوماسية الأميركية وقضايا الشرق الأوسط . اسحق رابين وطرق السلام الوعرة وتفسير بيريز لقصيدة نزار قباني 6 من 8
نشر في الحياة يوم 17 - 01 - 2009

تنشر "الحياة" مقاطع من كتاب DANGER AND OPPORTUNITY"الخطر والفرصة"للديبلوماسي الأميركي ادوارد دجيرجيان الذي عمل في سفارة بلاده في بيروت، وكان سفيراً في دمشق ثم في تل أبيب في عهدي حافظ الأسد واسحق رابين، قبل أن يتولى مسؤوليات في وزارة الخارجية تتعلق بالشأن العراقي وسائر شؤون الشرق الأوسط.
هنا حلقة سادسة:
في الثاني عشر من كانون الثاني يناير 1994، بدأ فصل جديد من حياتي على رغم قصره، عندما وصلت إلى مطار بن غوريون في تل أبيب للبدء في مهمتي سفيراً للولايات المتحدة في إسرائيل. وكنت أصطحب زوجتي فرانسواز وطفلينا غريغوري وفرانشيسكا. وبينما تقدمت طائرة TWA واقتربت من البوابة، قيل لنا أن ننزل من الطائرة أولاً لأن الصحافيين تجمعوا على الطريق ....
وأدركت بسرعة أن السفير الأميركي في إسرائيل يأتي في المرتبة الثانية بعد القيادة الإسرائيلية من حيث الأهمية. كان السؤال الأول الجاد حول الرئيس كلينتون ولقائه المرتقب مع الرئيس السوري حافظ الأسد في جنيف. فأجبت إننا نأمل في التوصل إلى نتائج حقيقية تمكن من تقدم المفاوضات على المسار السوري - الإسرائيلي. أدخلونا بعد فترة قصيرة إلى قاعة كبار الزوار حيث كانت مجموعة أخرى من المصورين الذين التقطوا صوراً لعائلتي مع التركيز على فرانشيسكا وقطتها التي كانت تحتضنها بين ذراعيها. وفي اليوم التالي من وصولنا نشرت الصحف صورنا مع تعليق طويل يفيد بتشجيعها عودة اليهود إلى إسرائيل، ذلك أن قطة فرانشيسكا كانت هدية من اصدقاء لنا يهود في نيويورك.
وفهمت بسرعة شيئاً آخر عن الحياة في إسرائيل، عندما أخذوني أنا وفرانسواز وفرانشيسكا إلى مكان قريب من السفارة لتجهيزنا بأقنعة للغاز كان ابني عاد إلى الولايات المتحدة للالتحاق بكليته هناك. كان هذا الإجراء إجراءً احتياطياً إجبارياً، وشعرت بالخوف والاستغراب - إسرائيل تحت تهديد الغاز على رغم تفوّقها العسكري في المنطقة وهيمنتها الإقليمية.
وكان حفل تقديمي أوراق الاعتماد في اليوم التالي لوصولي، وأستطيع القول إنّ المهمة التي أوكلت إليّ كانت في غاية الأهمية.
قمت بأول زيارة لي سفيراً لمكتب وزير الدفاع الإسرائيلي في تل أبيب. كان اسحق رابين، إضافة إلى رئاسته للحكومة احتفظ لنفسه بحقيبتي الدفاع والشؤون الداخلية والدينية. حيّاني هو ورجال مكتبه، وتصافحنا أمام عدسات الكاميرا قبل أن نجلس ونبدأ مناقشة مطولة. أخبرت رابين أنني قدمت إلى إسرائيل لمتابعة الحوار عن كثب بين إسرائيل وسورية في هذه المرحلة المهمة وأمامي هدفان: الأول هو المساعدة على الدفع بالمحادثات قدماً بين إسرائيل وجيرانها العرب، والهدف الثاني تعزيز العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل على كل المستويات وخصوصاً الاقتصادية والتجارية والتعاون التكنولوجي. عبرت أيضاً عن مدى الاحترام الذي أكنه له وأخبرته بأنني أتطلع للعمل معه عن كثب. ولقد عبّر رابين عن تقديره لي وتمنى لي التوفيق وقال إنّه يتطلع أيضاً إلى العمل معي عن كثب وأنّه سيكون حاضراً عند الضرورة.
ناقشنا اجتماع جنيف المقبل بين الرئيسين كلينتون والأسد وأوضحت له أن الولايات المتحدة لن تذهب إلى الاجتماع على حساب إسرائيل ولن نقول للأسد إذا فعلت كذا وكذا فإن إسرائيل تفعل كذا وكذا. وسنركز على ما تحتاج سورية للتقدم في مفاوضات السلام. فضلاً عن ذلك، لن نخرج عن التزامنا بأن تكون المفاوضات وجهاً لوجه، الأمر الذي كنت أعتبره مهماً بالنسبة إليّ ولإسرائيل.
وبينما كان رابين يعتقد أن الولايات المتحدة هي صديق وحليف إلا أنه لم يكن مرتاحاً لوضع مصير إسرائيل بالنسبة لقضايا الحرب والسلام في أيدي الآخرين من دون الانخراط المباشر والمستمر في العملية. وفي هذه المرحلة من الديبلوماسية كانت الولايات المتحدة تلعب دوراً أساسياً كوسيط نزيه بين إسرائيل وسورية وذلك بهدف تمهيد الطريق لمحادثات مباشرة"ولأن الرئيس الأسد يصر على أن نكون في غرفة المحادثات فإننا سنلتزم بذلك.
أظهر رابين ارتياحه لهذا المنحى إلا أنه عبّر عن قلقه بالنسبة لعدة أمور"فهو يعتقد أن البعض في إسرائيل يشعر أن الرئيس الأسد سيعمل على تبادل السفراء وتأسيس سفارات إلا أنه ليس مستعداً لإرساء علاقات طبيعية. فالتطبيع سيواجه مشاكل الإدراك الحسي، فهو يظن أن الأسد يجد صعوبة في تقبّل مسألة التدفق الحر للأفراد من سورية وإليها. هل يستطيع أن يتعامل مع 50.000 ألف سائح في سوق الحميدية السوق المركزي في دمشق. وكان رابين يأمل في أن يوفّر اجتماع جنيف تعريفاً أكثر وضوحاً للسلام، إلا أن شكوكه كانت واضحة عندما قال"لا بد أن ننتظر ونرى ما سيحدث".
وعبّر رابين عن خيبة أمله الكاملة من ياسر عرفات الذي قال عنه إنّه لا يزال يحاول المراهنة على إعلان المبادئ والدخول في مناقشة قضايا الحل النهائي. وكان رابين يظن أن عرفات يفسّر مصلحة إسرائيل في التحرك إلى الأمام للتطبيق كعلامة ضعف. كان على عرفات أن يفهم أننا ما زلنا في المرحلة الأولى من عملية تتكون من مرحلتين. فقضايا الأمن المتضمنة في نقل السلطة - تذاكر مرور للانتقال بين القطاعات، بناء الجسور واستخدامها، والأهم هو موضوع المستوطنات - كل هذه الأشياء ما زالت تشكل مشاكل. وأصر رابين على أن إسرائيل لا بد لها أن تستمر في السيطرة على الأمن الخارجي أثناء هذه الفترة.
وظن رابين أن تأجيل المحادثات المقبلة في واشنطن والتي يرأسها رؤساء الوفود من العرب والإسرائيليين أو اشتراك الجيران من الأردنيين والسوريين يمكن أن يدفع عرفات إلى منحى أكثر موضوعية. كان رابين يشك في تكتيكات عرفات فهو يظن أن أبو مازن وأبو علاء وهما رفيقا عرفات في"فتح"ومنظمة التحرير أكثر جدية كمحاورين، إلا أن الانقسامات العميقة داخل منظمة التحرير نتج عنه ضياع الفرص.
غادرت مكتب رابين وأدركت من جديد كيف أن طريق محادثات السلام صعب وشاق، إذا أخذنا في الاعتبار الشكوك العميقة التي يشعر بها كل من العرب والإسرائيليين.
رأيت هذا مرة أخرى عندما جاء طاقم المفاوضات إلى إسرائيل لإفادة رابين في الحال بعد مقابلة الأسد وكلينتون في 16 كانون الثاني يناير 1994. شاهد رابين المؤتمر الصحافي في نهاية اللقاء وأخبرني أنه لم يستجب لما سمعه. كان يأمل في أن يقول الأسد الكلام الذي قاله كلينتون بالنسبة إلى السلام الإسرائيلي ? السوري، ففي رأي رابين هناك فرق كبير.
كان هدف الولايات المتحدة من الاجتماع أن نصل إلى نهاية عامة، خصوصاً أننا أردنا أن يقول الأسد شيئاً عن إنهاء الصراع وتحقيق السلام مع سورية وتسمية إسرائيل باسمها، وأن يعلن خياره الاستراتيجي للسلام ويدخل"علاقات طبيعية"في لغته وملاحظته. وأفاد الموجودون رابين بأن صحافياً سأل كلينتون عما إذا كان سمع الأسد يقول إنّه ملتزم التطبيع فكان رد كلينتون بالإيجاب.
إلا أن رابين الذي كان طليقاً في اللغة العربية، أخبرني أن الأسد استخدم عبارات مختلفة عن التطبيع"العلاقات العادية"وليس"العلاقات الطبيعية". وأصر رابين على أنه لا يمكن السير في المفاوضات مع السوريين إلا إذا كان هناك"حزمة محددة"تحدد طبيعة السلام، بما في ذلك الانسحاب من الجولان وترتيبات الأمن ودور الولايات المتحدة"فقد كان في ذهنه الانسحاب على مراحل خلال 3 سنوات، مثل اتفاق السلام مع مصر.
وبالنسبة الى رابين فإنّ المفاوضات مع سورية كانت مختلفة نوعياً عن تلك التي تعقد مع الفلسطينيين. فالثمن لتحقيق السلام مع سورية هو الانسحاب من هضبة الجولان بشرط أن يكون على مراحل ويخضع لمطالب الأسد، أما بالنسبة الى الفلسطينيين فالمنحى الذي يجب على إسرائيل أن تسلكه ينحصر في اتفاق موقت وليس نهائياً. وكما اعترف رابين، فإن الإسرائيليين أدركوا أنّ هناك مشاكل مع منظمة التحرير في المفاوضات إلا أنهم لن يتخلوا عن شيء في هذه المرحلة، بسبب الطبيعة الموقتة لإطار التفاوض، وهذا هو السبب في أن رابين كان يريد من الأسد أن يعلن علانية وسراً عن طبيعة السلام مع إسرائيل، حتى يحصل على موافقة الإسرائيليين على"الانسحاب من الجولان"فهي قطعة استراتيجية من الأرض إلا أن أهميتها تقل في عصر الصواريخ الباليستية.
وكان رابين مستعداً لاستكشاف المسار التفاوضي للسوريين حتى يرى إلى أي مدى يستطيع الأسد أن يصول ويجول. وطبقاً لرؤيته، فهو يصيب الفلسطينيين بالعصبية إذا ما تخطتهم المفاوضات السورية. وفي سياق هذه الصعوبات مع الأسد وعرفات في مفاوضاتهم وقلقه بالنسبة للولايات المتحدة ومبدئها"في التفاوض باسمنا"مع سورية، بدأ رابين النظر بجدية إلى إنهاء معاهدة سلام مع الملك حسين، خصوصاً لأنه ليس هناك مشاكل تتعلق بالأرض بين إسرائيل والأردن، علاوة على أن اتفاق السلام يمكن أن يكمل المسار الفلسطيني، ومن ثم نضع ضغطاً على السوريين.
وفي الحقيقة دخل رابين في مفاوضات وجهاً لوجه مع الملك حسين"في 25 تموز يوليو عام 1994 وقعا إعلاناً في البيت الأبيض بانتهاء حال العداء بين الأردن وإسرائيل ووضعا إطاراً لمعاهدة سلام. وتم التوصل إلى معاهدة سرية بين إسرائيل والأردن وقّعت رسمياً في 26 تشرين الأول أكتوبر 1994 عند الحدود بينهما ، وأعلن الطرفان"نهاية عصر الحروب"بين الدولتين.
في اجتماع كانون الثاني يناير 1994 مع الأسد قال الرئيس كلينتون إن رابين أكد الالتزام الذي قدمه للأسد من طريق وزير الخارجية وارين كريستوفر وحصل على تأكيد الأسد التزامه لرابين بما يفيد فتح الحدود للتجارة والسياحة وتأسيس علاقات ديبلوماسية وتبادل السفراء، وأشار كلينتون أيضاً إلى تفاهمات، على أن تكون ترتيبات الأمن كافية.
أجاب الأسد مؤكداً ما التزم به إلا أنّه قال إن الترتيبات الأمنية لا بد من أن تكون متكافئة، وشدد على أن الأمن المتوازن"يجب أن يكون على قدم المساواة"مبدياً ملاحظة تفيد بأن دمشق أقرب إلى الحدود مقارنة بتل أبيب أو القدس. قال كلينتون إن الولايات المتحدة مستعدة لتوفير ضمانات ناجحة في الأمن الى جانب وجود قوات أميركية إذا كان ذلك مفيداً للطرفين. وأشار إلى المفاوضات الإسرائيلية - الفلسطينية، وقال إنّه إذا كان الهدف هو السلام الشامل فالتقدّم في مفاوضات جرش يمكن أن يشجع التحرك على المسار الفلسطيني، فأومأ الأسد برأسه لكنه لم يعلق على ما قيل. أما بالنسبة إلى التوقيت فعلى الجانبين العمل ليصلا إلى اتفاق عليه.
وأثار الرئيس الأسد الدوافع الإسرائيلية وشكوكه في ما إذا كانت إسرائيل تريد حقاً أن تعقد صفقة معه، وأفاد بأنه لا يرغب في أن يخدع. أكد الرئيس كلينتون أنه تحدث مع رابين مرات بأن صفقته مع سورية أمر ضروري للتوصل إلى تسوية سلمية. وعبر الرئيس الأسد عن أمله في أن تكون ثقة الرئيس كلينتون في رابين مبررة. قال له كلينتون إن الولايات المتحدة تفضل أن ترى إعلاناً للمبادئ يكون ناجحاً سراً ويعلن عندما يتفق عليه الجانبان. قال الأسد إنّه يود أن يرى تاريخاً يمكن أن يعلن فيه هذا الاتفاق. وكلينتون يود أن يرى التوقيت جزءاً من التفاوض. وأثار الأسد قضية وديعة رابين عام 1993 وصمّم على أن تكون ملزمة للطرفين.
ولإدراكه أن الرئيس الأسد كان قلقاً من التزام سورية عملية السلام ويكتشف بعد ذلك أن إسرائيل تتملص منها، أكد كلينتون للأسد أن هذا ليس انطباعه عن رابين. ثم أخبر كلينتون رابين هاتفياً أن الأسد مرتاب بالنسبة لأية مفاوضات، خصوصاً بعد خبرته مع هنري كيسنجر في السبعينات عندما تُركت سورية جانباً واستمرت إسرائيل ومصر في عملية السلام التي انتهت بتوقيع المعاهدة . فهم رابين ذلك، وفي الحقيقة فقد حضّه بعض كبار مستشاريه على التركيز على المسار الفلسطيني وجعل السوريين ينتظرون.
تحدث الأسد عن إعلان مبادئ كإطار لاتفاق مع ملاحق يمكن أن تكون أساساً لكل شيء ومن دون أي التباس أو غموض، فأكد له كلينتون أن هذا هو رأيه وهو يصدق رابين أيضاً. وافق رابين على ذلك سراً إلا أنه قلق من أن أي التزام سري سيعلن عنه قبل التوصل إلى التفاصيل ويولّد بعد ذلك انشقاقات ومعارضات، مما يؤدي إلى إفشال أي صفقة طويلة الأمد.
وقال لكلينتون:"أنت تفاوض باسمنا"و"هذا يعد مشكلة، إذ اتفقت على شروط معينة - اتفاق ثنائي ينفذ على مراحل"، وبانفتاح للحدود مثلما حدث من جانب مصر قبل الانسحاب الكامل، كانت هناك مشكلة كبيرة هي بحيرة طبرية واتفاق سايكس بيكو بالنسبة الى تعديلات صغيرة على الحدود - وكل ذلك يمكن أن يُحدث مشاكل كبيرة إذا أعلن قبل الأوان. فبالإضافة إلى مصر، كان هناك ظهور للسادات في إسرائيل، شعر رابين بأن الأسد لم يقم بأي تحرك نحو سلام يؤمن به الناس. واعترف كلينتون بشرعية قلق رابين وأخبر الأسد أننا في حاجة إلى الديبلوماسية العامة وأنه بمجرد موافقة سورية وإسرائيل على التبليغ عن"إعلان المبادئ"وإذاعته فإن الحاجة ماسة للقاء رابين وذلك بهدف وضع الاتفاق في شكل رسمي وأنه أي كلينتون سيستضيف الاجتماع، وأضاف أن رابين وافق مسبقاً على عقد الاجتماع.
بناء السلام خطوة خطوة
لاحظ الأسد أن الموقف يتدهور في المنطقة وأن الوقت ليس في جانب السلام، فطلب من كلينتون أن يقول لرابين:"لا أعرف كم من الوقت لدينا... موقفي يصعب". وعندما سأل الأسد وارين كريستوفر عما إذا كان يعتقد أن 6 أشهر وهي المدة التي عرضت كافية لتنفيذ مراحل العملية أجاب كريستوفر بأن هذا الأمر يعود إلى كل من سورية وإسرائيل.
وفي لقاءاتي معه عبّر رابين عن قلقه من وضعية المفاوضات. وأكد أن تحقيق السلام الشامل مع العرب يتطلب من إسرائيل بناءه خطوة خطوة على أساس ثنائي مع كل دولة عربية الأردن وسورية ولبنان وفلسطين، وتعهد بالوفاء بالتزاماته كاملةً بالنسبة الى عدد من القضايا في المفاوضات الفلسطينية، وإذا فشل في مسعى الترتيبات الأمنية على المسار السوري فسيشعر"بالشلل"ويفقد قدرته التفاوضية"هذه هي المشكلة عندما تفاوض من خلال وسيط""فعندما توضح استعدادي للانسحاب الشامل، فإنك تدمر قدرتي على التفاوض. وبمجرد أن تتسرب المعلومات قبل الحصول على كل ما تريد فهناك مشكلة ستواجهني. في رأي رابين، أنّ الأسد يقدم التزامات شفهية وعامة بطبيعتها ويمكن أن ينقضها، بينما رابين نجده ملتزماً الانسحاب الكامل الملموس من مرتفعات الجولان.
سألت رابين ماذا يمكن أن يحدث إذا لم يغير السوريون المسلك الذي اتخذوه، وكانت إجابته:"على الأسد أن يتخذ قراراً. فهو يريد من الولايات المتحدة أن تقوم بالمهمة نيابة عنه حتى يكون في وضع المتفرج. إذ إن هناك قضايا أخرى، فبحيرة طبرية هي مستودع الماء لإسرائيل، واتفاق سايكس بيكو لم يعط السوريين أية حقوق في"مياهنا"، ومن ثم فنحن نريد انسحاباً وترتيبات أمنية على مراحل""لا يمكننا أن نتخلى عن نفوذنا".
أجبته قائلاً إن وديعته قد بُلّغت للسوريين وأننا الآن الحافظون لهذه الوديعة، ووفقاً لمعرفتنا أنه لم يتفق الأطراف على شيء من دون الاتفاق المسبق على كل شيء، فإسرائيل لا يمكنها التخلي عن نفوذها. سألته عن الكيفية التي تمكننا من التوصل إلى أسلوب خلاق يتجنب الإخفاق الكامل للوصول إلى اتفاق، وكان لدى رابين إجابة جاهزة :"ما أقترحه هو أن يرسل الأسد شخصاً إلى مكان يمكننا فيه استكشاف هذه المواقف بعمق وسرية تامة، وإذا استمرّينا في محادثاتنا مع الفلسطينيين وأبقيناها سرية لخمسة أشهر يمكننا أن نفعل ذلك مع السوريين".
وفي مناقشاتي مع القادة الإسرائيليين دهشت لشدة حماستهم للانخراط مباشرة مع السوريين وخصوصاً مع الرئيس الأسد. وقد قال لي الرئيس وايزمان إنّه والأسد بصفتهما ضابطين في سلاح الجو يمكنهما أن ينخرطا في حوار صريح يمكن أن يؤدي إلى نتائج مشابهة لما تم إنجازه مع الرئيس المصري أنور السادات. وعبر شمعون بيريز أيضاً عن اهتمامه المستمر هو وباراك بالمحادثات المباشرة. وعندما كان باراك رئيساً لهيئة أركان حرب قوات الدفاع كان يحضني سراً للترتيب لاجتماع بينه وبين رئيس هيئة أركان حرب الجيش السوري حكمت الشهابي. واجتمع الرجلان لاحقاً، إلا أن محادثاتهما لم تؤد إلى نتائج إيجابية.
قصيدة نزار قباني
تأثرت كثيراً بقدرة بعض القادة الإسرائيليين الذين حاولوا بحق فهم"الآخر". وبالتأكيد هذا لا ينطبق على كل الإسرائيليين، خصوصاً المتطرفين منهم. فعلى سبيل المثال هناك رابين ووايزمان وبيريز، كل بطريقته الخاصة، كانوا جادين بدرجة كبيرة في محاولة فهم العرب. فهم يعرفون اللغة العربية ودرسوا تاريخ العرب وثقافتهم وسعوا للاتصال المباشر بهم كلما سنحت الفرصة إلا أن حالة الحرب أعاقتهم عن الاتصال المستدام وتبادل الآراء عن عمق وخبرة، وفي كثير من الأحيان حرمتهم هذه الحالة من صوغ سياسات أكثر جرأة وجسارة.
ففي أمسية كنا نتناول طعام العشاء في منزل بيريز في القدس، ذهب شيمون إلى مكتبه وأخذ كتاباً يتضمن قصائد لنزار قباني وبدأ يقرأ قصيدة عنوانها"من أنت""أدركت أن هذا أمر عادي. فنحن هنا في منزل أحد الشخصيات التاريخية السياسية الإسرائيلية وها هو يقرأ لنا شعراً عربياً. وبعد الانتهاء من قراءة بعض السطور من القصيدة الرومانسية بدأ يوضح بأسلوب رشيق وجهة نظر تتعلق بالسياسة"كان يريد أن يعبّر عنها ليؤكد حالات الإحباط لديه حديثاً بالنسبة لتقدم المفاوضات مع الفلسطينيين والسوريين، ثم قال"إن العرب يحبون التزحلق على الكلمات"، ثم ردد كلمات الشاعر قباني"إن أسعد لحظات حياتي هي تلك التي يحاول فيها قلبي أن ينتصر على عقلي""وبأسلوب ساخر قال:"العرب يحبون استخدام الكلمات كالحلي والزينة عوضاً عن استعمالها كأدوات للتعريف الدقيق".
كانت سياسة رابين أمراً بغيضاً بل لعنة بالنسبة الى المتطرفين اليهود. فبعد أسابيع من تسلمه منصب رئاسة الوزراء عام 1992، ألقى خطاباً في حفلة عسكرية لتوزيع الجوائز والأوسمة قائلاً:"على الإسرائيليين أن يتخلوا عن أوهامهم بدين لدولة إسرائيل الكبرى. تذكروا أن هناك شعب إسرائيل ومجتمعاً وثقافة واقتصاداً وأن قوة الأمة لا تقاس بالأرض، الأرض التي تسيطر عليها، وإنما بإيمانها بقدرتها على دعم أنظمتها الاقتصادية والاجتماعية والدفاعية".لاقت وجهة نظر رابين السياسية تحدياً كبيراً في 25 شباط فبراير عام 1994 عندما اقتحم مستوطن يهودي أميركي المولد، يدعى برنارد غولدشتاين مسجداً في الخليل وهو يرتدي زي جيش الدفاع الإسرائيلي وأطلق النار على جمع من المصلين في يوم جمعة في شهر رمضان. أدّت هذه الحادثة إلى وفاة 40 شخصاً على الأقل وجرح آخرين"وحتى غولدشتاين أيضاً توفي. وأشعل هذا الحادث مشاعر الكراهية المتأججة وكان سبباً في قيام العديد من المظاهرات والاحتجاجات في الأراضي العربية المحتلة مما كان له أثر على مسيرة السلام، وعرَّض فرص الاستمرار في المفاوضات الفلسطينية للخطر.
وأخبر رابين وزير الدفاع وليم بيري ورئيس هيئة الأركان بأنه لا يوجد أي زعيم عربي يمكنه أن ينخرط في مفاوضات مع إسرائيل ما دام يظن أنه يستطيع تحقيق أهدافه عن طريق الخيار العسكري أو الإرهاب. وقد توصل رابين إلى قناعة بأن هذه هي القيمة الحقيقية لوضعية إسرائيل العسكرية والدفاعية في مسعاها نحو السلام. فإسرائيل في حاجة إلى قوات مسلحة رادعة، وإذا فشلت في الردع لا بد من أن تحرز انتصاراً حاسماً وسريعاً.
وفي تحليله يرى رابين أن هناك اتجاهين يتصارعان في المنطقة: البحث عن اتفاقات سلام عربية إسلامية، والأصولية الإسلامية والتي وصفها بأنها خمينية من دون خميني، وحاول عبد الناصر تبني النظام السوفياتي فكان مصيره الفشل. أما السادات ومبارك فاختارا الديموقراطية الغربية، وكان مصيرهما أنهما قصرا في الوصول إلى الهدف. وتسببت هذه الإخفاقات في إذكاء جذوة الرجوع إلى القرآن والشريعة، وإيران تحاول نشر أيديولوجية لا تتعارض وأفكار القومية العربية، وهي تسعى للاضطلاع بدور قوة عظمى في المنطقة. تحليل رابين يدل على دراية بأمور كثيرة.
وداعاً للقدس
استضافني رئيس الوزراء وزوجته في حفل عشاء في مقر إقامته في القدس وذلك بمناسبة مغادرتي إسرائيل عام 1994 . ولقد كان جو الحفل مفعماً بالدفء والودّ والصداقة. فرابين وزوجته كانا على قدر كبير من الكرم والسماحة، وشارك في الحفل عدد من أعضاء الحكومة والأكاديميين والكاتب الإسرائيلي آموس أوز وعدد من أصدقائنا الإسرائيليين.
وأفصح لي إيهود باراك بأنه كان يرأس شعبة الاستخبارات العسكرية عندما كنت سفيراً في دمشق،"كنا نراقب نشاطك عن كثب في دمشق منذ وصولك إلى هناك عام 1988 "وفي البداية كنا قلقين بالنسبة للجهود التي بذلتها لتحسين العلاقات السورية الأميركية وخشينا أن يكون هذا التحسن على حساب إسرائيل. إلا أننا عندما أدركنا أنك تحاول أن تؤثر على حافظ الأسد أكثر من محاولته التأثير عليك، شعرنا عندئذٍ بالارتياح والاسترخاء وبدأنا النظر إلى التقارب السوري - الأميركي كعامل إيجابي".
وكان هناك حفل وداع لنا أشرف على ترتيبه القنصل الأميركي العام في القدس إدوارد أبنغتون بالتعاون مع زوجته. وكان الحفل في مقر إقامتهما في القدس مع مجموعة من القادة الفلسطينيين المقيمين في كل من غزة والضفة الغربية. كان هؤلاء القادة يدينون بالولاء لمنظمة التحرير الفلسطينية ولعرفات، إلا أنهم كانوا يدعمون الحكم الديموقراطي ويشجعونه عوضاً عن النموذج السلطوي الذي يمثله عرفات والعالم العربي. وانتقدوا"اتفاق غزة وجرش وهو خطوة انتقالية تعطي للفلسطينيين موطئ قدم في كل من المنطقتين غزة وأريحا، وهي خطوة إلى الأمام حتى يتوصل الطرفان إلى اتفاق شامل.
وفي مناقشة بعد ذلك مع رئيس الوزراء إسحاق رابين قال لي رابين:"إننا ندعم قيام دولة فلسطينية ديموقراطية كهدف على المدى الطويل، إلا أن الديمقراطية في العالم العربي في أيدي قادة يمسكون بالبنادق وأجهزة أمنية واستخباراتية وعسكرية. فالفلسطينيون يريدون أولاً ضرورات الحياة الأساسية - الغذاء والدواء والخدمات الصحية والتعليم - ثم يبدأون في التفكير في الديموقراطية. فالديموقراطية في العالم العربي مثل انتظار المسيح".
وفي زيارة إلى غزة في تموز يوليو عام 1994 قابلت ياسر عرفات الذي كان قد وصل إليها بصفته رئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية. طلب مني أن أركب معه السيارة للإطلاع على مشروع إسكان تبنته حكومة الولايات المتحدة. ولقد ساورني شعور غريب في أن أكون بمعية عرفات وعلم المنظمة يرفرف على مقدمة السيارة وهو يلوح للجماهير المصطفة على الطريق. كان لعرفات سحر على جماهير الشعب الفلسطيني. وسألته ماذا يعني بپ"سلام الشجعان"وهي عبارة كان يستخدمها لوصف السلام الإسرائيلي ? الفلسطيني، فقال إنها تعني أن على الفلسطينيين والإسرائيليين أن ينسوا الكثير من تاريخ الصراع العربي - الإسرائيلي الملطخ بالدماء.
ثم بدأ ينقد بقسوة ويشجب الحكم الإسرائيلي الذي حرم على أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني دخول غزة وذلك لأفعالهم الماضية ضد الإسرائيليين. وأضاف انه في حالة تطبيقه هذه المبادئ لن يتحدث مع القادة الإسرائيليين الذين حاربوا الفلسطينيين في لبنان مثلاً.
رؤية إسحق رابين
في حزيران يونيو 1994 ألقى رابين خطاباً في إسرائيل ومما قال فيه:"إن السلام سيتم بناؤه ببطء، يوماً بعد يوماً، وذلك من خلال ما نفعله بتواضع مع التفاصيل اللانهائية العفوية. سيُبنى السلام على يد الشعب. ونحن نتقدم ببطء وبحرص شديد خطوة خطوة لأن أعداء السلام أكثر عدداً مما نتصور"ولأن المتطرفين على الجانبين ينتظروننا ويترقبوننا، نحن، الإسرائيليين والفلسطينيين على السواء. ومن ثم فلا يجب علينا أن نفشل. وعلينا أن نفكر ونتدبر ونحترس. نحن في عجلة من أمرنا لأننا انتظرنا أكثر من مئة عام حتى اليوم. نحن في عجلة من أمرنا لأننا نود ألا تفقد أم إسرائيلية ابناً لها تبكيه بالدموع، دموع الألم والمعاناة تماماً مثل الأم الفلسطينية التي نريدها أن تتوقف عن ذرف الدموع والتنهد بحرارة... نحن في عجلة لأن نرى الضوء في أعين جيراننا الذين حتى الآن لم يروا يوماً واحداً يتمتعون فيه بالحرية والفرح... نحن في عجلة ومن ثم فنحن نتقدم ببطء. نحن نتقدم بحرص وعناية لأن البعض منّا لن يكون لديه فرصة أخرى.
وبعد سنة من إلقائه الخطاب، أي في 4 تشرين الثاني نوفمبر 1995، اغتيل رابين بيد متطرف يهودي.
* تصدر الترجمة العربية للكتاب أوائل الشهر المقبل عن دار الكتاب العربي في بيروت.
نشر في العدد: 16724 ت.م: 17-01-2009 ص: 28 ط: الرياض


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.