قبل ثمانية ملايين سنة، لم تكن رمال السعودية الذهبية تبحث عن ظلٍّ يقيها لهيب الشمس، بل كانت تُنبتُ أنهارًا، وتُربتُ على ظهور التماسيح، وتُطلُّ من بين أشجارها على قوافل بشريةٍ سارت من أفريقيا إلى آسيا، حاملةً معها بذور الحضارة. اليوم، تخرجُ «دحول الصمّان» عن صمتها، لتحمل إلينا رسالة من أعماق الزمن: هذه الأرض التي نراها صحراءً، كانت يوماً ما مهداً للخصوبة، وجسراً للتنوع الحيوي، وشاهداً على تحولاتٍ مناخيةٍ صنعت مصائر الشعوب. إنه الاكتشاف الذي لا يكتفي بإثبات مجد التاريخ، بل يفتح نافذةً على مستقبلٍ يُعيدُ للجزيرة العربية بهاءها كحاضنةٍ للوجود البشري. لم تكن الكهوف التي حلّلها العلماء مجرد تشكيلاتٍ جيولوجية، بل كانت أرشيفاً طبيعياً سجّلَ بتفاصيل دقيقةٍ كيف نبضت هذه الأرض بالحياة. تُخبرنا ترسباتُ كربونات الكالسيوم، التي حللتها تقنيات اليورانيوم والثوريوم، بقصة مناخٍ متقلب: أمطارٌ غزيرةٌ حوّلت الصحاري إلى سهولٍ خضراء، وأنهارٌ اختفت تحت الرمال، وكائناتٌ انقرضت تاركةً أحافيرها كشواهدَ على عصرٍ ذهبي. إنها نفسُ الأرض التي شهدت أولى هجرات الإنسان القديم، والتي احتضنت حضاراتٍ اندثرت تحت طبقات الزمن، لتُذكرنا بأن تاريخ السعودية ليس مجرد رمالٍ متحركة، بل جذورٌ ضاربةٌ في عمق الإنسانية، جعلت من هذه البقعة مركزاً لالتقاء القارات، ومختبراً طبيعياً لتكوين الحياة. هذا الاكتشاف العظيم ليس حدثاً علمياً عابراً، بل هو تأكيدٌ على أن الجزيرة العربية كانت - ولا تزال - مسرحاً لأعظم الملاحم الإنسانية. فكما حوّل أسلافنا الأمطارَ إلى أنهارٍ، والطينَ إلى قرى، نحن اليوم أمام تحدٍّ جديد: كيف نُحوّلُ هذا الإرث إلى فنونٍ تروي حكايات الأرض، وإلى مساراتٍ سياحيةٍ تأخذ الزائر في رحلةٍ زمنيةٍ من عصر الميوسين إلى الحاضر؟ تخيّلوا متاحفَ تفاعليةً داخل الكهوف، تُعيد بناء مشهد التماسيح التي سبحت هنا ذات يوم، أو مهرجاناتٍ فنيةً تُجسّدُ الهجرات البشرية عبر المنحوتات والضوء. إن كل حجرٍ في «دحول الصمّان» يمكن أن يصير لوحةً، أو قصيدةً، أو مقصداً للعالمين بالتاريخ والطبيعة. كما إنها دعوةٌ لرؤية تراب الوطن بعينٍ جديدة: فما كان يوماً جسراً للكائنات، يجب أن يصير اليوم جسراً بين الماضي والمستقبل. لن تكون السياحة هنا مجرد زيارة مواقع، بل ستصير حواراً مع الزمن، ولن يكون الفن مجرد زخرفة، بل لغة تُحيي ذاكرة الأرض. كما تحوّل كهف «لاسكو» في فرنسا إلى تحفةٍ فنيةٍ تعود لعصور ما قبل التاريخ، يمكنُ ل«دحول الصمّان» أن تصير أيقونةً ثقافيةً تروي للعالم أن هذه الرمال كانت يوماً أرضَ الخصب، وأن مستقبلها سيُكتب- مرة أخرى- بلونٍ أخضر.