غرّد الصحافي التقدمي المتمرس غدعون ليفي، أحد أبرز كتاب الأعمدة في صحيفة"هآرتس"، وحيداً خارج السرب، عندما نشر مطلع الأسبوع الجاري مقالاً جريئاً يتهكم فيه على"افراط المجتمع اليهودي واغراقه في تمجيد"شخصية رئيس الحكومة الأسبق اسحق رابين ويعيب على مؤسسات الدولة تهافتها على تخليد ذكراه بشتى الطرق. ويزخر المقال، الذي جاء تحت العنوان الساخر"الدولة على اسم رابين"، بالمآخذ الجمة على جوقة التهليل المستمرة لمسيرة رابين وشخصه التي وصلت إلى حد التقديس على أقل تقدير. ويقلب الكاتب في مقالته رأساً على عقب كل المسلمات والثوابت حول الطابع الذي ارتسمت به شخصية رابين في أذهان المجتمع الإسرائيلي. ويتزامن مقال ليفي مع القرار القاضي بإنشاء بلدة جديدة على خط التماس الفاصل بين الأراضي الإسرائيلية والفلسطينية، تحمل اسم"تسور صخرة اسحق"والتي وُضِع حجر الأساس لها قبل ثلاثة أسابيع، تخليداً لاسم رابين بمناسبة قرب حلول ذكرى اغتياله العاشرة. واعتبر الكاتب أن احياء ذكرى رئيس الحكومة الذي اغتيل أثناء تأدية مهمات منصبه وتخليد اسمه أمر بديهي، ولكن ليس إلى حد العظمة ودرجة الإفراط،"وإن كان المغدور جنرالاً ممجداً وصاحب أول اتفاق سلام مع الفلسطينيين"، إذ يقول بهذا الصدد:"اليوم، وبعد مرور عشر سنوات على برامج التخليد، يحق لنا التساؤل: ألم نغال ونبالغ؟ هل كان رابين فعلاً في حياته شبيهاً بالشخصية الميثولوجية الأسطورية التي بنيت حول ذكراه؟". ويجيب ليفي عن هذا التساؤل بتهكم مرير ولاذع:"ليس صدفة أن تكنّ إسرائيل كل هذا الحب لرابين وتفرط في تخليد ذكراه، فالرجل جسد لها خيرة نزواتها الدفينة وخلاصة شهواتها المكبوتة، كيف لا وقد أثبت أنه بالإمكان أن يأكل من الكعكة ويتركها كاملة؟ فقد كان رجل حرب وصانع سلام". ويضيف:"كان معلماً في تكسير عظام الفلسطينيين وصار يجلس معهم على طاولة المفاوضات. كان يبني المستوطنات ويشجب أعمال المستوطنين وقّع على إتفاق سلام مع الفلسطينيين ولم يخلِ ولو بيتاً واحداً من المستوطنات. كان يتفاوض مع عرفات ولا يخفي نفوره منه. أعرب عن صدمته من المجزرة التي نفذها باروخ غولدشتاين ولم يجرؤ على إخلاء مستوطني الخليل الذين كانت الفرصة مواتية لإخلائهم بفعل هذه الجريمة النكراء، فهو لم يكن يمتلك الشجاعة لتنفيذ هذه الخطوة وبدا في أضعف حالاته، مما أدى إلى اتساع رقعة الاستيطان اليهودي في الخليل إلى حد بات اليوم يهدد الوجود الفلسطيني بابتلاع الأرض واقتلاع السكان". ويواصل المعلق تعداد مآثر رابين وتبيان مثالبه والغوص في خبايا شخصيته وكشف النقاب عمّا تم الاصطلاح على تسميته ب"تراث رابين"بقوله:"حتى في إتفاقات أوسلو التي كانت مثار فخر بطل السلام اسحق رابين وكانت غّرة في جبين الوطن وعلامة فارقة في تاريخ الدولة، لم يقدم رابين على فعل ما فعله"رجل سلام"أصغر منه بكثير، هو ارييل شارون، بعد عشر سنوات خلت. فرابين لم يجرؤ على إدراج قضية إخلاء المستوطنات ولو من قطاع غزة على جدول أعمال حكومته، رغم قناعته بواجب إخلاء جزء منها على الأقل". ويخلص ليفي في هذا المضمار إلى القول:"إن فشل أوسلو يمكن أن ننسبه، في ما ننسبه، إلى انعدام الجرأة من جانب رابين. وحتى وإن تخوف الفلسطينيون أنفسهم، لأسباب غير واضحة، من المطالبة بإصرار بإخلاء المستوطنات، كان من الحري بسياسي مثل رابين أن يعي أن مصلحة إسرائيل تكمن في تنفيذ مثل هذه الخطوة، وكان يفترض به أن يبادر إلى الإخلاء لتعزيز الإتفاق مع منظمة التحرير الفلسطينية الذي لم يكلف إسرائيل أي ثمن وشكل فقط فرصة لالتقاط الصور الجانبية مع العاهل الأردني". ويستطرد ليفي قائلاً:"رابين كان يميل إلى التوصل الاتفاقات المرحلية، وكان يرى أن هوة الخلاف مع الفلسطينيين يمكن جسرها بالحوار، انه كان ينشد السلام ولكنه مثل غالبية الإسرائيليين لا يريد أن يدفع الثمن. إن هذا الزعيم الذي ظهر كإنسان شجاع نصيراً للسلام لم يكن يملك الجرأة الكافية ليقبض على الجمر في محاولة لإيجاد حل شامل. وينهي ليفي مقاله بتوجيه اهتمام أنصار رابين إلى الحقائق الكاملة عن رئيس الحكومة"الذي غدا محبوباً ومعظماً بعد موته، فهو صحيح تم تقديمه قربانًا على مذبح السلام، ولكنه عمل من أجل السلام قليلاً وجاء عمله متأخراً كثيراً".