في زمن تتسارع فيه وتيرة الاستهلاك، وتُهدر فيه كميات هائلة من الموارد لأجل مواكبة صيحات لا تنتهي، ظهرت على الساحة مبادرات إنسانية تعيد تعريف معنى العطاء، وتحوّل ما نراه زائدًا عن الحاجة إلى فرصة لصنع فرق حقيقي في حياة الآخرين، في عالم لم يعد فيه التخلص من الملابس أمرًا ثانويًا، بل سلوكًا متكررًا، برزت نماذج ملهمة أعادت الحياة لآلاف القطع عبر مبادرات خيرية تنبض بالتنظيم والإبداع، وتُعلي من قيمة الإنسان، سواء كان متبرعًا أو مستفيدًا. هذه المبادرات لم تعد تقتصر على جمع الملابس فحسب، بل تمرّ بسلسلة دقيقة من العمليات تبدأ من لحظة الاستلام، مرورًا بالفرز والتصنيف، ثم التنظيف والتعقيم والإصلاح، لتُقدَّم في نهاية الرحلة بتغليف أنيق يليق بالمستفيد ويحترم كرامته، وهنا لا نتحدث فقط عن أثر اجتماعي يلامس حاجات الأسر ذات الدخل المحدود، بل نتناول نموذجًا متكاملًا تتقاطع فيه الأبعاد البيئية والاقتصادية والإنسانية. إن مثل هذه المبادرات ترسخ ثقافة العطاء الواعي، وتشجع على التبرع بما هو صالح وجميل، لا ما نريد التخلص منه، فالمتبرع يشعر أن ما يقدّمه يمرّ برحلة مدروسة ويصل إلى من يحتاجه بالفعل، والمستفيد لا يتلقّى دعماً بائساً، بل يحظى بتجربة تليق بإنسانيته وتلامس احتياجاته، ومن بين أبرز النماذج المحلية التي لمع نجمها في هذا المضمار، تبرز "جمعية كسوة فرح" ومؤسسة احتواء التطوعية، وهما جهتان تعملان بشكل مستقل لكن تتقاطع رسالتهما في مضمار واحد العطاء المؤسسي المستدام. قيمة فعلية في بدايتها، كانت جمعية "كسوة فرح" مبادرة محلية هدفها إدخال البهجة على الأسر المحتاجة عبر توفير كسوة العيد، لكن هذه المبادرة سرعان ما تطورت إلى كيان مؤسسي يُحتذى به، بعد أن أثبتت أن العطاء يمكن أن يكون منظمًا، راقيًا، ومُلهمًا في آنٍ واحد، ففي عام 2019 أعلنت الجمعية عن تحقيق إنجاز عالمي غير مسبوق بدخولها موسوعة "غينيس" للأرقام القياسية، بعدما جمعت أكثر من 1.5 مليون قطعة ملابس بوزن فاق 59 طنًا، لتصبح بذلك أكبر حملة لجمع تبرعات الملابس في العالم، وللمرة الثانية لا تكتفي "كسوة فرح" بجمع الملابس، بل تطبق نموذجًا رياديًا في العمل الخيري، يعتمد على أنظمة دقيقة لفرز الملابس وتعقيمها وتصنيفها بحسب الفئة العمرية والجنس، ثم تقديمها من خلال معارض موسمية تُحاكي تجربة التسوّق التجاري، ما يمنح الأسر حرية الاختيار ويُعزز من كرامة التلقي. وقالت أشواق النشوان -عضو مجلس إدارة الجمعية-: إن أكثر من ستة آلاف متطوع ومتطوعة ساهموا في هذا النموذج، مضيفةً أن الجمعية تشجّع على التبرع بما نحب، وتعمل على تحويل الفائض إلى قيمة فعلية، وتعتمد على شراكات مع جهات حكومية كوزارة الشؤون البلدية والقروية والإسكان، والمركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي، ما يمنحها بعدًا استراتيجيًا ومؤسسيًا في تحقيق أهدافها. معارض موسمية تُحاكي "التسوّق" وتمنح الأُسر حرية الاختيار مسارات متعددة وتعمل مؤسسة احتواء التطوعية منذ تأسيسها في رمضان عام 1433ه كواحدة من أبرز النماذج الخيرية المؤسسية في العاصمة الرياض، وهي تركز على دعم الفئات الأكثر احتياجًا، من أسر محدودة الدخل وأيتام وذوي الاحتياجات الخاصة، عبر مسارات متعددة تشمل تقديم الدعم العيني، وتنظيم المبادرات المجتمعية، وتمكين المتطوعين عبر التدريب والتطوير، ومن أبرز مبادرات المؤسسة حملة "رحماء بينهم"، التي تهدف إلى توزيع السلال العينية، بالإضافة إلى المعارض الخيرية لتوزيع الملابس الشتوية، ولا تقتصر أهداف المؤسسة على سد الاحتياج، بل تسعى إلى تعزيز وعي المجتمع بثقافة العطاء الواعي، من خلال ورش العمل، وتدريب المتطوعين على إدارة الحملات والتواصل مع المستفيدين، وإشراكهم في رحلة العطاء من بدايتها إلى نهايتها. روح واحدة وفي مشهد يشبه خلية نحل، كان العشرات من المتطوعين والمتطوعات يعملون بتناغم لافت داخل قاعات الفرز والتجهيز؛ أياد تفرز، وأخرى تطوي، وأخرى تغلف، وكل حركة كانت تُدار بإيقاع منتظم لا يعرف الفوضى. وأوضحت هدى الزير -متطوعة- أنها بدأت رحلتها مع مؤسسة احتواء التطوعية منذ أكثر من أربعة أعوام، حين كانت طالبة جامعية، والتحقت بالجمعية عن طريق ابنة خالتها التي سبقتها في التطوع، ولم تكن تتوقع حينها أن تتحوّل التجربة إلى جزء أساسي من حياتها، وتروي بداياتها قائلةً: في أول يوم لي معهم، كنت مترددة وخائفة من عدم قدرتي على التكيّف، لكن ما إن دخلت مستودع الملابس ورأيت فريق الفرز يعمل بروح واحدة، حتى شعرت أنني وجدت مكاني، لم يكن الأمر مجرد ترتيب ملابس، بل شعرت أن كل قطعة تحمل رسالة، وكنت أساهم في توصيلها، ومع مرور الوقت، أصبحت ضمن الفريق الأساسي المسؤول عن تنظيم المعارض الخيرية التي تُقام في رمضان وقبيل العيد، مضيفةً أن أكثر ما يلامسها في هذه التجربة هو لحظة دخول الأسر إلى المعرض، وابتسامة الأم حين تختار فستاناً لابنتها، أو دمعة الرجل حين يُمنح حرية اختيار ما يناسب أسرته دون أن يُشعر بأنه متلقي صدقة، مشيرةً إلى أن ما تعلمته في الجمعية لا يمكن أن تدرسه في أي كتاب، عرفت معنى المسؤولية، والتنظيم، والرحمة الفعلية، نحن لا نوزّع ملابس فقط، بل نمنح الأسر شعورًا بالاحترام. أثر العطاء وبدأ فيصل العلي -19 عامًا- رحلته مع التطوع قبل عامين، حين اقترح عليه أحد أساتذته في المرحلة الثانوية الانضمام إلى إحدى المبادرات المجتمعية، لكنه لم يكن يتصور حينها أن تلك الخطوة الصغيرة ستفتح له باباً واسعاً للانتماء، يقول: في البداية كنت متردد، وما كنت أعرف ماذا أقدم، لكن أول ما التحقت خضعت لدورة تعريفية عن أهداف الجمعية، وأساسيات العمل الخيري، وكيفية التعامل مع المستفيدين، بعدها حضرت ورش تدريبية على مهارات الفرز، وتصنيف الملابس، وأساسيات العرض والتنسيق في المعارض الخيرية، حتى طريقة الحديث مع الأسر، كان لها تدريب خاص، لكي نحترم مشاعرهم، ومع الوقت بدأ يشعر أن العمل التطوعي لم يعد نشاط جانبي، بل أصبح جزءاً من شخصيته. وأضاف: عندما شاهدت طفل يضحك وهو يختار لبس العيد، أحسست أن هذه اللحظة تستاهل كل التعب، مبيناً أن كثير من الناس يتبرعون بملابسهم ولايعلمون أين تذهب، لكن أنا أشاهد الرحلة من البداية للنهاية، مختتماً: العطاء الحقيقي ليس في الشي الذي نعطيه، لكن في كيفية أن نعطيه، وفي الأثر اللي نتركه. فرحة عيالي ومن بين زوّار معرض "كسوة العيد"، كانت أم نواف -أم لأربعة أطفال- تقف بهدوء تتأمل الملابس المعلّقة بعناية، تتنقل من قسم إلى آخر بعينين مليئتين بالامتنان، عبّرت عن مشاعرها بكلمات بسيطة لكنها عميقة الأثر: "ما كنت أتخيل إن فيه مكان ممكن أدخل فيه واختار لأولادي ملابس جديدة بهذا الشكل، حسّيت أننا في محل راقي، وليس جمعية خيرية، أنا ما كنت أبحث عن صدقة، كنت أبغى أفرّح عيالي، وأعطيهم إحساس إنهم مثل غيرهم يلبسون جديد في العيد"، مضيفةً: "أنا ربة بيت، وزوجي راتبه بسيط، كانت الفكرة الوحيدة في بالي هي كيف أقدر أوفر لهم شيء بسيط يدخل السرور لقلوبهم، ولما وصلتني رسالة من الجمعية وشرحوا لي عن المعرض، جيت وقلبي يدعي لهم، التنظيم، الابتسامة، طريقة التعامل، كل شيء كان مريح"، مشيرةً إلى أن أكثر ما أثر فيها هو طريقة تقديم الملابس، فبدلاً من توزيع عشوائي أو أكياس جاهزة، أُتيح لها الاختيار بنفسها، وكأنها تشتري بمالها الخاص. وعي مجتمع وعلى الرغم من أن الهدف المباشر من هذه الحملات هو إسعاد الأسر في موسم العيد، إلاّ أن الأثر يمتد إلى ما هو أعمق، حيث تكشف المبادرات عن تحوّل لافت في وعي المجتمع تجاه ثقافة التبرع، تقول أم لجين -موظفة وأم لثلاثة أبناء-: إنها تحرص كل عام على فرز ملابس أبنائها والتبرع بها في نهاية كل موسم، خاصةً قبل رمضان والعيد، مضيفةً أنها أصبحت تخصص وقتاً في نهاية كل شهر لترتيب خزانة أولادها، وأفصل ما لم يعودوا بحاجة إليه، ثم أغسل القطع وأكويها وأغلفها بنفسي، وأجمعها لتكون جاهزة للتبرع، ولم تكتفِ بذلك، بل امتد تأثيرها إلى من حولها، حيث أوصت شقيقاتها ووالدتها بالانضمام إلى هذه المبادرة، وأصبحت تجمع منهن أيضاً ما يفيض عن حاجتهن من ملابس وأحذية وحقائب، ثم تتولى بنفسها تسليمها إلى الجمعيات المعتمدة. وفي وقت تتسع فيه دوائر الاحتياج، وتزداد فيه أهمية التكافل المجتمعي، تظل هذه المبادرات الخيرية دعوة مفتوحة لكل من يستطيع أن يساهم، سواء بقطعة ملابس نظيفة، أو ساعة تطوع، أو حتى كلمة دعم، فكل يد تُمدّ بالعطاء، وكل قلب يُنصت لحاجة غيره، يصنع فرقاً لا يُقاس بالأرقام، بل يُقاس بالأثر، ولأن العطاء لا يحتاج وفرة، بل نية، فإن الانضمام إلى هذا المسار الإنساني متاح لكل من يؤمن أن في الفائض حياة، وفي التنظيم كرامة، وفي البذل سعادة لا يعرفها إلا من جرّبها. متطوعات في مرحلة تسجيل محتوى الصناديق فرز الملابس حسب العمر موقع الفرز والتجهيز تعقيم الألعاب المستعملة