شهد هذا الأسبوع فصولاً جديدة في مسلسل دراما الطفل الكوبي إليان غونزاليس. وعلى رغم أن هذا المسلسل مرشح ان يستمر لفترة طويلة قد تشهد تطورات وتقلبات تعيد خلط الأوراق، إلا أنه أصبح بالإمكان جرد حسابات الربح والخسارة حتى اليوم. فتفاصيل قصة الطفل لم تعد غريبة على أحد، بعد أن قدمتها معظم وسائل الإعلام الأميركية ورديفاتها في أرجاء العالم على مختلف المواضيع، المحلي منها والدولي. غير أنه لا بد من الإشارة إلى بعض مقومات هذه القصة، والتي اكسبتها أهمية فائقة، لأسباب متفاوتة، في العديد من الأوساط الاجتماعية والثقافية الأميركية. فإليان، ابن الأعوام الستة، قد انتشله صياد في تشرين الثاني نوفمبر الماضي من مياه المحيط، حيث كان قد أمضى نهارين وليلتين يصارع الموت، إثر انقلاب الزورق الذي أقله وأمه وصحبها في مسعاهم إلى بلوغ شاطئ الولاياتالمتحدة. وحده إليان نجا من الغرق، بل كان عليه، فيما العائلات الأميركية ملتئمة مولمة تحتفل بعيد الشكر في الوقت الذي يجري فيه عبور مركبه، أن يشهد مصرع والدته وسائر من معها، الواحد تلو الآخر. والمعروف ان هذا العيد عيد مبهم يؤسس لممارسة شبه دينية، أميركية بحتة، تتجاوز طقوس الطوائف والديانات المختلفة. ولا شك ان التعارض المؤلم بين تخمة العيد ومصاب الطفل العائم في مياه المحيط والمتشبث بخشبة خلاص واهية وبأشلاء الحياة، قد ساهم في إضفاء أهمية خاصة لدى الجمهور الأميركي على هذه الحادثة. ولكن لا شك ان التداخل بين هذه المأساة الإنسانية الفردية والحالة الكوبية في الولاياتالمتحدة هو الذي جعل منها قضية شائكة يصعب حلها. فمنذ أن اعتنق فيديل كاسترو المنحى الاشتراكي والنهج التأميمي في ثورته الكوبية قبل أكثر من أربعين سنة، متسبباً بفرار العديد من أصحاب الأموال والأعمال من بلاده، وسياسة المقاطعة والحظر والحصار هي السياسة الأميركية المتبعة إزاء كوبا. وحتى بعد أن انتهت الحرب الباردة، وزال معظم الأبعاد الدولية والموضوعية المبررة لهذه السياسة، فإن الموقف الرسمي الأميركي لا يزال مصراً على العزل والحصار، ما يشكل في واقع الأمر إقراراً وحسب بالنفوذ القاطع للجالية الكوبية في الولاياتالمتحدة. فهذه الجالية حققت نجاحاً اقتصادياً واجتماعياً بارزاً، فيما تشكلت في وسطها أطر مؤسساتية قادرة على توظيف هذا النجاح وتقديم الدعم المالي الانتخابي لكافة الجهات التي تؤيد موقفها الداعي إلى تشديد الخناق على النظام القائم في كوبا. كما أن الوجود العددي الكوبي الكثيف في ولاية فلوريدا خصوصاً وفي بعض الولايات الأخرى، لا سيما نيو جيرسي، جعل من الفوز بالصوت الكوبي حاجة ملحة للمرشحين في الانتخابات المحلية، وكذلك في الانتخابات الرئاسية، حيث لفلوريدا حصة كبيرة وفق النظام الانتخابي الذي يعطي كل ولاية عددا من المندوبين يتناسب وعدد سكانها، ويمنح الفائز بالأكثرية النسبية في كل ولاية كافة أصوات المندوبين عنها. وقد نشأت مؤسسات الجالية الكوبية في خضم المواجهة الحادة مع النظام الاشتراكي الكوبي. وكان مؤسسوها من الذين تضرروا بشكل ملموس من هذا النظام، والذين حاولوا على مدى العقود الماضية مواجهته بشتى الوسائل، من المناورات القضائية والتشريعية إلى الحرب الاقتصادية، بل المناوشات التخريبية والصدام العسكري. فلا عجب إذن ان يكون العداء المستميت للنظام الكوبي ولشخص رئيسه كاسترو قد طبع الإطار المؤسساتي للجالية الكوبية الأميركية، وذلك على الرغم من التبدل الاجتماعي والجيلي الذي شهدته الجالية الكوبية: ذلك ان أعداداً وفيرة من الكوبيين الذين وفدوا إلى الولاياتالمتحدة في العقود الماضي، لم يهجروا كوبا هرباً من الاستبداد على رغم ان التفرد بالقرار السياسي حالة قائمة في كوبا، بل قصدوا الولاياتالمتحدة بغية تحسين أحوالهم الاقتصادية بعد ان وصل الوضع الاقتصادي في كوبا إلى شفير الهاوية، في أعقاب انهيار الكتلة الاشتراكية واستمرار المقاطعة الاقتصادية الأميركية. فهؤلاء الكوبيون، على رغم رغبة معظمهم بحصول اصلاح للنظام السياسي في وطنهم الأم، قد لا يشاطرون الآخرين عداءهم العقائدي للنظام الكوبي بشكل عام ولشخص كاسترو بشكل خاص. وهكذا فالمواقف ضمن الجالية الكوبية ازاء قضية الطفل إليان غونزاليس قد تفاوتت، على الرغم من محاولة احتكار الناشطين في مؤسساتها للصوت الكوبي في الإعلام. أما الموقف المعادي لكاسترو، وهو الموقف "الرسمي" للجالية الكوبية، فاستفاد من حركة شعبية قامت أساساً على الجيل الأول من المهاجرين. وعملت تلقائياً على تشكيل روائية خلاص ترتقي بالطفل من وضع الضحية إلى حال روحي غيبي. فإليان، وفق هذه الروائية، لم يعد مجرد طفل تقاذفته الأقدار والأمواج، بل هو موسى الجديد الذي احتضنه الدلفين ومنع عنه أذى أسماك القرش، تحقيقاً لإرادة الهية مؤداها أن يصل إلى شاطئ الحرية ليعود في غد عتيد إلى وطنه ويخلص شعبه. هكذا رفعت صور إليان تحتضنه السيدة العذراء، والسيدة العذراء نفسها ألقت بصورتها على زجاج منزله، وفق شهادة من رأى الصورة وفهم المغزى. ثم ظهر إليان والأم تيريزا، وإليان والطفل يسوع... فإليان لم يعد في حضانة أقرباء والده في هافانا الصغيرة في ميامي، بل ان الحشود المتدافعة التي أحاطت بمنزل هؤلاء الأقرباء أصبحت هي الحاضنة، وعلى نية إليان في ميامي قدّمت طائفة السانتريا، ذات الاصول الكوبية الافريقية، أضحيتها، وكان اتباعها على يقين بان إليان رسول خير يريد كاسترو دحره وطمسه. وإذا كانت هذه الظاهرة لا تخلو من قدر من العبثية التي غالباً ما تتحكم بالتصورات الغيبية في الولاياتالمتحدة وغيرها، فإنها تكشف من جهة أخرى عن عمق العداء لدى بعض الكوبيين الأميركيين لكاسترو، وتؤكد صعوبة التوصل إلى التسوية معه أو مع من يدعو إلى هذه التسوية. وفي المقابل، ففي أوساط خجولة ضمن الجالية الكوبية وفي معظم شرائح المجتمع الأميركي، فإن الاعتبار الحاكم إزاء هذه القضية كان الإقرار المبدئي بحق الطفل بالعودة إلى والده وبحق الوالد بحضانة طفله، لا سيما بعد اتضاح صدق الوالد بالمطالبة بإعادة طفله إليه. وهذا على الرغم من المواقف السياسية التي اجتهدت في التنافس على التزلف للموقف "الرسمي" للجالية الكوبية. ومن المفارقات التي أبرزتها هذه القضية ان وجهاء التيار المحافظ الذين يصدحون عادة بقدسية الرابط بين الأهل والأولاد ويدينون اقحام السلطات في أي دور داخل الأسرة، وجدوا اليوم في هذه القضية ما يبرر منع الوالد عن ولده، والتزموا المواقف التي كانوا إلى أمس قريب يشمئزون منها، أي مطالبة المحاكم بالفصل بين رغبة الوالد بحضانة طفله، وحق الأقرباء بتحقيق صالح الطفل بالحرية، عبر منحه اللجوء السياسي إلى معقل الحرية الدائم، أي الولاياتالمتحدة طبعاً. وهذا فيما كان الطفل سجين منزل تحيط به الحشود الصارخة وآلات التصوير التي تراقب كل حركة يقدم عليها. أي في وضع يعيد إلى الأذهان فيلم Show Truman The أو حتى أقفاص حدائق الحيوانات. وقد انضم آل غور، نائب الرئيس الأميركي والمرشح عن الحزب الديموقراطي في الانتخابات الرئاسية المقبلة، بدوره، إلى جملة المطالبين بالتروي وإحالة القضية إلى المحكمة الأهلية، على الرغم من صدور الأمر من الجهة الرسمية المختصة إلى الأقرباء الذين يحتجزون الطفل بوجوب تسليمه لإعادته إلى والده. ونفى غور طبعاً ان يكون لموقفه المتميز عن سائر الحكومة الأميركية أية علاقة بأهمية عدم التفريط بفرصه للفوز بولاية فلوريدا في الانتخابات الرئاسية المقبلة. لم تكتمل فصول هذه القصة، والمفاجآت الجديدة قد لا تتأخر. ولكن ثمة رابحين وخاسرين لتوهم في هذه القضية. الرابح الأول هو من دون شك الطفل إليان الذي عاد إلى والده وعادت إليه بعض خصوصيته. ثم الوالد رابح كذلك، سواء اختار العودة إلى كوبا مع أسرته، حيث ينتظره وضع اجتماعي مميز في بلد يعاني من أزمة اقتصادية حادة، أو اختار الدرب الأكثر مشقة، إنما الأدرّ ربحاً، أي البقاء في الولاياتالمتحدة. أما الزعيم الكوبي كاسترو، فعلى الرغم من تشكي الناشطين الكوبيين الأميركيين، فليس اليوم في عداد الرابحين، ولن يكون منهم ما لم تطأ قدم إليان ووالده أرض كوبا، إذ من شأن بوادر الانتصار الذي يتمناه كاسترو، كما يتوق إليه جمهور كوبا، بعودة إليان، ان تستحيل نكبة منهكة تصل به وببلاده إلى إحباط خطير في حال استجاب والد إليان لإغراء الولاياتالمتحدة الفاتن. أما الخاسرون، فربما كان في طليعتهم الجالية الكوبية الأميركية، سواء حققت هذه القضية الشرخ بين أجيال هذه الجالية والفئات المكونة لها، أو مكنت القيادة "الرسمية" من تعزيز نفوذها وصناعتها لقرارها. وليست هذه القيادة على أي حال من الرابحين حتى لو تمكنت من تحقيق بعض النتائج الآنية، اذ ان صورتها الشعبية قد تضررت. ومن الخاسرين كذلك عموم وجهاء التيار المحافظ الذين غلّبوا عداءهم لكاسترو ورغبتهم بتوثيق تحالفهم مع الأصوات والأموال الكوبية على موقفهم المبدئي، يضاف إليهم طبعاً آل غور، صاحب الموقف المحرج والمتلكئ. وأخيراً لا آخراً، لا بد أن نذكر جانيت رينو، وزيرة العدل في حكومة الرئيس كلينتون، في صفوف الرابحين. فقد اتخذت قرارها بانتشال الطفل من منزل الأقرباء، بعد ان اقتنعت بأن هدف هؤلاء الأقرباء من المفاوضات هو المماطلة لتكريس أمر واقع، هو احتجازهم للطفل، على أمل أن يتمكنوا في وقت لاحق من شرعنته. لكنها بذلك انتهكت احد أهم مقومات التعامل السياسي والاجتماعي في الولاياتالمتحدة، أي افتراض حسن النية لدى الطرف الآخر، فعرضت نفسها لموجة من النقد والتجريح ولسيل من الاتهامات المختلفة، والتهديدات بالملاحقة القانونية. إلا ان قرارها، وفق شهادتها ووفق القراءة الموضوعية للخطوات التي اتخذتها، كان نابعاً من تقييمها لصالح الطفل المحتجز قبل كل اعتبار آخر. والواقع ان جانيت رينو قد تكون من أقلية على الساحة السياسية الأميركية اليوم يجوز أن يقال عنها ان ما تقدم عليه من خطوات ينبع من تصوّرها المبدئي من دون اعتبار لربح وخسارة سياسيين. حسن منيمنة