تراجع أسعار النفط إلى 73.62 دولارًا للبرميل    "الأرصاد"استمرار هطول الأمطار على جازان وعسير والباحة ومكة    محافظ بيش يطلق برنامج "انتماء ونماء" الدعوي بالتزامن مع اليوم الوطني ال94    الأمم المتحدة تؤكد أنها نفذت خطط الاستجابة الإنسانية ل 245 مليون شخص    الأخدود يتعادل سلبياً مع القادسية في دوري روشن للمحترفين    محافظ حفرالباطن يرأس المجلس المحلي    محافظ الزلفي يلتقي مدير إدارة كهرباء منطقة الرياض    أبها تستضيف منافسات المجموعة الرابعة لتصفيات كأس آسيا تحت 20 عاماً    «الجيولوجيا»: 2,300 رخصة تعدينية.. ومضاعفة الإنفاق على الاستكشاف    «المجنون» و«الحكومة» .. مين قدها    5 محاذير عند استخدام العلم السعودي    محمد القشعمي: أنا لستُ مقاول كتابة.. ويوم الأحد لا أردّ على أحد    وظيفةُ النَّقد السُّعودي    جمعية النشر.. بين تنظيم المهنة والمخالفات النظامية المحتملة    حصّن نفسك..ارتفاع ضغط الدم يهدد بالعمى    احمِ قلبك ب 3 أكوب من القهوة    احذر «النرجسي».. يؤذيك وقد يدمر حياتك    هدف متأخر من خيمينيز يمنح أتليتيكو مدريد على لايبزيغ    جوشوا ودوبوا يطلقان تصريحات التحدي    مصادرة صوت المدرجات    النصر وسكّة التائهين!    قراءة في الخطاب الملكي    ماكرون: الحرب في لبنان «ليست حتمية».. وفرنسا تقف إلى جانب اللبنانيين    قصيدة بعصيدة    شرطة الرياض: القبض على مواطن لمساسه بالقيم الإسلامية    حروب بلا ضربة قاضية!    دراسات على تأثير غطاء الوجه على صحة الإناث..!    سوق المجلس التراثي بشقراء يواصل استعداداته للاحتفاء باليوم الوطني 94    أدب تختتم ورشة عمل ترجمة الكتاب الأول بجدة    التزامات المقاولين    الذكاء الاصطناعي يقودني إلى قلب المملكة    ديفيد رايا ينقذ أرسنال من الخسارة أمام أتلانتا    أمانة الطائف تكمل استعداداتها للإحتفاء باليوم الوطني 94    جازان: إحباط تهريب (210) كيلوجرامات من نبات القات المخدر    صحة جازان تدشن فعاليات "اليوم العالمي لسلامة المرضى"    الاستثمار الإنساني    سَقَوْهُ حبًّا فألبسهم عزًّا    هيئة الأفلام تطلق النسخة الثانية من "منتدى الأفلام السعودي" أكتوبر المقبل    نائب أمير جازان يطلق البرنامج الدعوي "انتماء ونماء" المصاحب لليوم الوطني ال 94    محافظ الأحساء: الخطاب الملكي يحمل حرصا شديدا على حماية هويتنا وقيمنا    أكثر من 5 ملايين مصلٍ يؤدون الصلوات في المسجد النبوي خلال الأسبوع الماضي    الكويت ترحب بتبني الأمم المتحدة قرارًا بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي المحتلة    فريق طبي بمستشفى الملك فهد بجازان ينجح في إعادة السمع لطفل    برعاية خادم الحرمين.. «الإسلامية» تنظم جائزة الملك سلمان لحفظ القرآن    فريق بحثي سعودي يطور تكنولوجيا تكشف الأمراض بمستشعرات دقيقة    أمطار متوسطة إلى غزيرة مصحوبة بالبرد وتؤدي لجريان السيول على 5 مناطق    المواطن عماد رؤية 2030    اليابان تحطم الأرقام القياسية ل"المعمرين"    تعزيز التحول الرقمي وتجربة المسافرين في مطارات دول "التعاون"    الأمير سعود بن مشعل يشهد اجتماع الوكلاء المساعدين للحقوق    إلى جنَّات الخلود أيُّها الوالد العطوف الحنون    برعاية وزير الداخلية.. تخريج 7,922 رجل أمن من مدن التدريب بمناطق المملكة    وفد من الخطوط السعودية يطمئن على صحة غانم    المهندس الغامدي مديرا للصيانة في "الصحة"    سلامة المرضى    كلام للبيع    كسر الخواطر    هيئتا الأمر بالمعروف في بلجرشي والمخواة تفعّلان برنامج "جهود المملكة العربية السعودية في محاربة التطرف والإرهاب"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



طفل في السادسة: انتصار القانون الانساني
نشر في الحياة يوم 27 - 04 - 2000

المسألة هي طفل في السادسة. الطفل بشوش ومحبوب من زملائه ومجتهد في دراسته. الطفل ايضاً تعلم السباحة في المدرسة ويهوى الرسم بالألوان في البيت بعد أن يستذكر دروسه. وعلى رغم أن والديه انفصلا بالطلاق قبل سنتين. إلا أنهما اتفقا ودياً على ان تستمر رعاية الطفل مسؤولية مشتركة بينهما. طوال الاسبوع هو في مدرسته ومع أبيه، وفي عطلة نهاية الاسبوع هو مع أمه وأسرتها في المدينة نفسها.
ذات ليلة لم يعد الطفل الى منزل أبيه. في البداية لم ينزعج الأب كثيراً، فربما تكون الأم قد رأته ينعس مبكراً ففضلت الذهاب به مباشرة الى المدرسة في الصباح. لكن الأب فوجئ في اليوم التالي بأن طفله غير موجود في المدرسة لأن الأم لم تذهب به أصلاً الى هناك. الآن بدأ القلق. ذهب الأب الى منزل زوجته السابقة فوجد الباب مغلقاً بالضبة والمفتاح. مزيد من القلق.
بالسؤال والتقصي فوجئ الأب بصدمة عمره. الأم صحبت طفلهما وآخرين للإبحار ليلاً الى الولايات المتحدة على بُعد تسعين ميلاً. عند هذا الحد عاد الأب الى منزله قائلاً لزوجته الجديدة: اليوم... انتهت حياتي.
لم تنته حياته. لكن الذي بدأ هو كابوس طويل مرعب سرعان ما سيتحول الى أزمة دولية غير مسبوقة، طرفاها الولايات المتحدة ورئيسها بيل كلينتون في جانب وكوبا ورئيسها فيديل كاسترو في جانب آخر. وفي ما بينهما أصبحت صحف العالم ومحطاته التلفزيوينة تتابع يومياً ما يجري على مدار الساعة وسواء كان العنوان هو أزمة أو مأساة، فإن اسم بطلها اصبح طوال الشهور الخمسة الأخيرة أشهر من نار على علم. الاسم هو: إليان.
المسألة هي طفل في السادسة، والطفل إليان صحبته أمه الى الساحل ليلاً حيث يوجد قارب صغير طوله اقل من ستة أمتار. في هذا القارب الصغير احتشد 14 شخصاً فيهم عجائز فوق السبعين وفيهم ايضاً إليان وأمه، ثم مقاول تلك الرحلة السرية الذي هو أيضاً صديق حميم لوالدة إليان جعل من مثل تلك الرحلات السرية مهنته، يتقاضى من الشخص الواحد ألف دولار حتى يبحر به الى الشاطئ الآخر في البحر الكاريبي - الشاطىء الأميركي - حيث الفكرة الرائجة عنه هو أنه شاطىء اللبن والعسل والغنى والثراء والمليون دولار في لمح البصر. كثيرون عبروا هذا الطريق البحري من قبل، وبالبدائية والسرية نفسها، بعضهم وصل فعلاً الى الأرض الاميركية واستقر هناك، ومعظمهم هزمته أمواج البحر العالي فغرق في الطريق.
من هنا قال والد إليان منهاراً: "اليوم انتهت حياتي"... قالها لأن قلبه ارتج فوراً من شبح الموت غرقاً لطفله ذي الست سنوات وبغير أي فرصة تتخيلها له أمه ليصبح مواطناً أميركياً في أرض اللبن والعسل والدولارات على قفا من يشيل.
في بحر القلق تذكر خوان غونزاليس - والد إليان - ان له عماً هاجر من كوبا سابقاً مع اقرباء آخرين واستقر منذ سنوات في مدينة ميامي الاميركية. المدينة نفسها التي اصبح فيها عشرات الآلاف من المهاجرين السابقين الذين حصلوا على الجنسية الاميركية من وقتها واصبحوا يشكلون جالية كبيرة.
واتصل الأب من كوبا هاتفياً بعمه في مدينة ميامي الاميركية: هل عندكم أي اخبار عن وصول مهاجرين جدد من عندنا؟ هل هناك - حتى - أي أخبار بحالات غرق أو انتشال جثث؟ طمئنوني من فضلكم... فابني إليان مع أمه دخلا طريق الموت هذا.
كان التاريخ هو 22 تشرين الثاني نوفمبر 1999. العم ليست عنده أخبار. لكنه وعد بالمتابعة و: قلت لي ابنك اسمه ايه؟ متى أنجبته؟
المسألة هي طفل في السادسة. وخلال ثلاثة أيام فرضت الحقيقة نفسها بغير جهد من أحد. فالذي حدث هو أن تلك الرحلة السرية فشلت في المحاولة الاولى فعاد القارب بركابه الى الساحل الكوبي سعياً الى إصلاح موتور القارب بسرعة، بعيداً عن عيون السلطات الكوبية. هنا أفاق بعض الركاب على هول المغامرة فتراجعوا. الطفل إليان هو الآخر بكى وصرخ مستعطفاً أمه مناشداً اياها تركه يعود الى مدرسته. الأم هدأته وناولته دواء يحميه من دوار البحر: أركب يا حبيبي وبعد كام ساعة ستصبح في مدرسة أكبر وأجمل وأغنى.
وسط البحر تعطل موتور القارب من جديد. تعطل تماماً. وقرر الرجال في القارب التخلص من هذا الموتور اللعين تخفيفاً للحمولة فألقوا به في عرض البحر. في تلك اللحظة اختل توازن القارب بشدة فانقلب بالجميع. ولأنه قارب بدائي اشتراه المقاول ب 250 دولاراً فقط فلا توجد فيه أي وسائل للنجاة سوى انابيب مطاطية هي ثلاث إطارات داخلية من عجل السيارات منفوخة الهواء، اثنان من المسافرين تشبثا بأحد الإطارات، إطار آخر اختفى. الطفل إليان ذو الست سنوات تشبث بالإطار الثالث غير مدرك في الظلام ان مياه البحر ابتلعت كل الآخرين بمن فيهم والدته نفسها. ربما لأن القارب متهالك، لكن أيضاً لأنهم لا يعرفون السباحة.
إليان الصغير يعرف السباحة. وبتلك المعرفة اختار له القدر مصير آخر.
في الساحل الاميركي شاهد صيادو الاسماك جثة طافية. وبخبرتهم السابقة أدركوا فوراً أنهم أمام مأساة جديدة مما اعتادوا عليه طوال سنوات. خرجوا يبحثون في عرض البحر حيث الجو نهار والشمس حارقة والامواج عالية، من بعيد لمحوا شيئاً طافياً يتأرجح مع الأمواج، وحين اقتربوا هالتهم المفاجأة، هذا طفل صغير مستلقٍ على ظهره فوق إطار السيارة المنفوخ، الطفل ملتهب الوجه والجسم بفعل الشمس والمياه المالحة، الطفل ايضاً غائب عن الوعي.
في مدينة ميامي الاميركية بذل اطباء المستشفى جهدهم لمعالجة الطفل الناجي لتوه بمعجزة، وبمجرد أن استرد وعيه بدأوا يستفهمون منه.
في البيت دق جرس الهاتف فاختطف والد إليان السماعة مذعوراً ومتلفهاً للرد: هل لك طفل اسمه إليان؟ هل عنوان منزلك هو...
صرخ الاب الملتاع مقاطعاً: نعم، نعم، ماذا جرى لإليان؟
هدأ الطبيب الاميركي من روعه. إليان هنا في المستشفى تحت العلاج ونريد الاستفسار منك عن سجله الطبي حتى نحتاط لكل احتمال. في الواقع إليان هو الذي أعطانا رقم هاتفك في كوبا وعنوان المنزل والمدرسة. نرجوك ان تهدأ قليلاً لأن انفعالك هذا قد يضرّ بالطفل.
أصرّ الأب على أن يسمع أولاً صوت طفله لكي يصدق ويطمئن، أخيراً، هذا إليان يتكلم باكياً: بابا أنا شاهدت ماما أمامي وهي تضيع في المحيط، ماما غرقت، حقيبة كتبي غرقت، لبس المدرسة غرق ايضاً. بابا...
تمزق الأب في التو واللحظة بين اطمئنانه على طفله وبين حال التشوش الطاغية في كلماته المقتطعة، لقد تقمص الهدوء وهو يرد: لا يا إليان، لا يا حبيبي، لبسك المدرسي وحقيبة كتبك موجودة أمامي هنا في المنزل، بل إن إحدى مدرساتك كانت تسأل عنك بنفسها قبل لحظات.
ابتهج إليان للمرة الاولى وقال لوالده فرحاً: صحيح يا بابا؟ طيب قل لها ان تحافظ على دُرجي في الفصل سأعود بسرعة.
لم يعد إليان حتى اللحظة. لا بسرعة ولا ببطء. ففي الظروف العادية تقرر قواعد القوانين الدولية أن على الدولة المعنية - هي الولايات المتحدة في حالتنا هذه - ان تعيد الطفل إليان الى ابيه في كوبا فوراً، مع اقصى درجات الشكر لكل أميركي اهتم انسانياً بإسعاف الطفل وعلاجه.
لكن الذي حدث هو أن هذه الحالة الانسانية انقلبت بفعل فاعل الى أزمة دولية كبرى اختلطت فيها السياسة بالإنسانية، والكراهية بالمحبة، والاسرة بالدولة. هكذا قام أقرباء الأب في ميامي بتسلم الطفل إليان لرعايته، موقتاً. لكن عم والد إليان - ويعمل سمكري سيارات في مدينة ميامي - أصر على الاحتفاظ بالطفل، بينما العم الآخر لوالد إليان ويعمل بائع سمك اختلف مع شقيقه مصمماً على أن الحق والأصول والقانون والإنسانية تحتم إعادة إليان الى ابيه في كوبا. ولأن الأول رفض الفكرة تماماً فقد تشاجر معه الثاني مقرراً مقاطعته نهائياً لقسوة قلبه وفظاظة أسلوبه.
في الجالية الكوبية في مدينة ميامي وكل ولاية فلوريدا انتشر الخبر كالهشيم في النار. الجالية في معظمها هاربون سابقون من كوبا إما تعبيراً عن السخط على فيديل كاسترو ونظامه، أو بحثاً عن حلم الثراء في اميركا بغمضة عين، أو بمزيج من الاثنين معاً. في الجالية ايضاً أعضاء في عصابات "المافيا" الاجرامية، و"المافيا" لها ثأر قديم مع كاسترو ونظامه في كوبا.
كوبا هذه جزيرة صغيرة في البحر الكاريبي سكانها عشرة ملايين. في سنة 1959 قامت في كوبا ثورة شعبية استولت على السلطة من نظام فاسد ومتحالف مع عصابات المافيا. اميركا كدولة كبرى لم تقبل بتمرد كوبا الصغيرة هذه ضدها فأعلنت عليها الحصار، فكان رد كاسترو على ذلك هو التحول الى الشيوعية حتى يغري الاتحاد السوفياتي بالقدوم الى مساعدته. تلك كانت ذروة سنوات الحرب الباردة حيث يناوش كل معسكر المعسكر الآخر. لكن اميركا ترفض المناوشة. وترفضها قطعاً إذا كانت على مسافة ثمانين ميلاً من حدودها ومن "حشرة" صغيرة اسمها كوبا يمكن ان يؤدي تمردها الى تشجيع كل "الحشرات" الاخرى من دول اميركا الجنوبية على تقليدها. هكذا بدأت محاولات متتابعة لاغتيال كاسترو، ثم لغزو كوبا، ثم لإغراء اكبر عدد ممكن من شعب كوبا بالتمرد على حكومته، ولو بالهجرة الى اميركا.
كاسترو أيضاً، وبمنطق قدرة النملة على مضايقة الفيل، خرج ذات يوم وأعلن بالصوت "الحيّاني" فتح الباب بلا قيد ولا شرط أمام كل الراغبين في الهجرة الى اميركا والاقامة فيها. هكذا وجدت أميركا عشرات الآلاف من الكوبيين يطلبون الهجرة اليها، وفي مقدمهم كل العجائز وأرباب السوابق، هنا فقط تنبهت اميركا الى الفخ الذي ذهبت اليه بقدميها. فالحرية وحقوق الانسان والديموقراطية شعارات جميلة طالما يتحمل الآخرون ثمنها. أما إذا اخذ الكوبيون الكلام بجدية وصدقوا الشعارات وسعوا الى الهجرة الى اميركا فعلاً، فهنا تصبح في المسألة حسابات اخرى. حسابات من نوع حماية العامل الاميركي مثلاً من مزاحمة الاجانب له في بلده على فرص العمل المتاحة.
واختارت أميركا حلاً وسطاً فأصدرت أعجب قانون على الاطلاق. قانون له رقم رسمي لكن له عنواناً شعبياً هو "قانون كوبا". بمقتضى هذا القانون تلتزم السلطات الاميركية عدم تشجيع أي هجرات غير مشروعة اليها. لكن - وهنا جوهر القانون - أي مواطن اجنبي يصبح بقدمه في الارض الاميركية أو في مياهها الاقليمية على مسؤوليته الشخصية، يكون من حقه فوراً الحصول على تصريح حكومي بالإقامة الدائمة تمهيداً لمنحه الجنسية الاميركية.
بكلمات أخرى: اميركا لن تحرض مواطني كوبا على القدوم اليها غصباً عن حكومتهم. بذلك تصبح اميركا ملتزمة حقاً قواعد القانون الدولي. لكن من شاء من مواطني كوبا ان يتحمل المخاطرة ويطب فجأة على الساحل الاميركي فتلك مسؤوليته وهو بمفرده يتحمل وزرها. بعدها فقط تعطيه اميركا جنسيتها من باب الانسانية و... يا بختك يا فاعل الخير.
وفي التاريخ الاميركي كله لم يصدر قانون أميركي تفصيلاً على جنسية محددة إلا هذا القانون. هذا هو السر في استمرار الرحلات البحرية غير المشروعة للهروب من كوبا الى الساحل الاميركي. رحلات فيها من الموتى أكثر مما فيها من الاحياء. وفيها من السياسة أكثر مما فيها من الشرعية.
والآن جاءت مأساة الطفل إليان لكي تلخص هذا كله. لقد خرج الآلاف من الجالية الكوبية في ميامي يطالبون بعدم اعادة إليان الى أبيه في كوبا، وبأن تعطيه الحكومة الاميركية تصريح الاقامة الدائمة فوراً، وبأن تعطي عم والده - السمكري - الحق القانوني في حضانته.
في المقابل خرج مئات الآلاف في كوبا يتظاهرون تضامناً مع الأب وحقه في استرداد طفله. ومع الوقت بدأت المأساة تخرج من نطاق العدل والإنسانية لتغرق في أوحال السياسة. جاء الطفل إليان بقدميه الى اميركا سعياً الى الحرية والديموقراطية والإنسانية والثراء. هذا دليل جديد على عظمة اميركا وبؤس كوبا وحاكمها الديكتاتور. اميركا يجب ألا تعيد الطفل الى أبيه لأن الغني لا يستسلم للفقير والقوي لا يستسلم للضعيف والديموقراطية لا تستسلم للاستبداد. اميركا فيل وكوبا نملة. قد يرى الفيل ان النملة حشرة. وقد ترى النملة أن الفيل حيوان. مع ان الطبيعة في نهاية المطاف تتسع لكليهما معاً.
من الناحية الرسمية خرجت اميركا بصوتين. هناك أولاً صوت العقل والقانون والالتزامات الدولية ويمثله الرئيس كلينتون. فبحكم مسؤولية منصبه قال إن القانون الأميركي الداخلي في مثل هذه الحالة يفرض عودة الطفل الى حضانة أبيه. اما نائبه البرت غور فبصفته مرشحاً مقبلاً للرئاسة هو محتاج بشدة الى حشد اصوات انتخابية لمصلحته. واصوات الجالية الكوبية في مدينة ميامي وكل ولاية فلوريدا جاهزة لحساب من يزايد سياسياً. إذن الحل عند البرت غور هو استصدار قانون جديد من الكونغرس خصيصاً بإعطاء الجنسية الاميركية فوراً الى الطفل إليان وأبيه - فوق البيعة - كل اقربائهما الراغبين في مغادرة كوبا والذهاب الى الولايات المتحدة.
انقلبت المأساة إذن رأساً على عقب. في الكونغرس الأميركي، مثلاً، جلسات استماع بشأن إليان، وهات يا مناقشات، كل هدفها ان يثبت كل سياسي لناخبيه المحتملين حرصه على بقاء الطفل في اميركا. في القضاء أيضاً، ومن محكمة الى محكمة، بدأت المناورات. في ما بين المناورات يأخذون الطفل إليان في رحلات ترفيهية تصورها كاميرات التلفزيون وهو سعيد تماماً حاملاً العلم الاميركي وسط بحر من الحلوى والهدايا والألعاب والملابس الجديدة الزاهية، وايضاً وسط مدينة الملاهي الشهيرة "ديزني لاند". انهم حتى خصصوا للطفل الصغير إليان سيارة من طراز "ليكزس" - أفخم من السيارة المرسيدس - لزوم الابهار. بل أعلنوا ايضاً أن ما على الأب الكوبي أن يفعله هو أن يختار لنفسه ولطفله الإقامة في اميركا وساعتها سيحصل الأب فوراً على سيارة خاصة ومنزل ووظيفة مجزية واموال تصل الى مليوني دولار. بالطبع كل هذا فوق قدرات السمكري عم الأب المقيم في ميامي والمختطف - عملياً - للطفل إليان. فهو وأسرته رقيقو الحال ولم يسبق لهم أصلاً أن عرفوا هذا الطفل او سألوا عن أخباره. لكنها السياسة، وعصابات المافيا.
في كوبا اجتمعت جدتا الطفل إليان - جدته من الأب وجدته من الأم - لكي تعلنا بصوت واحد: نحن هنا في كوبا قد لا نكون اغنياء، هم في اميركا يسحرون الطفل إليان بعالم ديزني لاند. ليس عندنا في كوبا مدينة ملاهي مثل ديزني لاند. إلا أن فيها والده وأخاه وأهله واصدقاءه واقرباءه الذين يحبونه.
بعدها سافرت الجدتان معاً الى اميركا بناء على اتفاق مسبق بأن السلطات الاميركية ستسمح لهما بلقاء الطفل إليان لمدة يومين. في التنفيذ لم يسمح لهما بأكثر من ربع ساعة. وبعيون باكية عادت الجدتان لتقولا بلوعة: هذا ليس إليان الذي عرفناه. إليان كان طفلاً ذكياً منطلقاً طبيعياً حبوباً تلقائياً. انه الآن مخلوق آخر. طفل متردد متلعثم يخشى من شيء ما. الآن نحن أكثر إصراراً على أن هذا الطفل لا بد من إنقاذه.
حتى أبوه تولدت لديه المرارة نفسها. في البداية كان يتصل به هاتفياً في منزل الاقرباء في ميامي. لكن خلال المكالمات كان الأب يحس بشيء غير طبيعي قائلاً: كنت أحس أنهم يصيحون في الطفل اثناء حديثه معي، او يرفعون من صوت التلفزيون حتى لا يسمعني جيداً او يدسون الحلوى في فمه حتى يصعب عليّ أن افهم ما يقوله.
في النهاية عرض فيديل كاسترو حلاً رآه الرئيس الاميركي معقولاً. فإذا كانت السلطات الاميركية تقول انها في انتطار حكم قضائي يقرر لمن تكون حضانة الطفل، فإنه يقترح سفر الأب نفسه الى اميركا ليأخذ طفله، ويستمر الاثنان معاً في اميركا حتى يصدر الحكم القضائي الموعود.
لكن الأب ذهب الى واشنطن واقام في بيت ديبلوماسي كوبي محاولاً استعادة طفله، ولم يحدث. اما الذي حدث فأمران. أولاً: فوجيء الأب بشريط فيديو تذيعه كل محطات التلفزيون الاميركية على مدار الساعة. في الشرط يوجه الطفل الصغير إليان عينيه الى الكاميرا قائلاً: "يا بابا... أنا لا أريد الذهاب الى كوبا. فإذا كنت تريد أن تراني عليك المجيء الى هنا" في ميامي. كلمات أدركت كل أم اميركية - والامهات تحديداً - انها لا يمكن ان تكون كلمات طفل في السادسة... أياً كان.
أما الأمر الآخر فهو الاب نفسه جالس أمام جهاز التلفزيون في واشنطن ويتابع في التلفزيون عيد ميلاد طفله هو، وسط أقرباء للأب في ميامي لم يكونوا من قبل يعرفون - أو لم يكونوا مهتمين اصلاً بمعرفة - أي شيء عن الأب أو عن طفله. ولأن الأب لا يزال ممنوعاً من استعادة طفله، فقد بدت مشاهدة طفله امامه في شاشة التلفزيون بديلاً تالياً بحكم الضرورة، والقهر. وما رآه على الشاشة أمامه هو طفله مرتدياً خوذة قتال من النوع الذي يستخدمه الجنود في الحروب، ملتفاً بالعلم الاميركي، محاطاً بأسلحة نارية معتادة في السياق الاميركي. وصرخ الأب مذعوراً ليس هكذا أريد أن ينشأ طفلي.
في الحقيقة، أن هذا جرى قبل فترة قصيرة من قيام صبي آخر في مثل عمر إليان - صبي اميركي في هذه المرة من سكان مدينة ميتشغان الاميركية - باستخدام اسلحة مثل هذه لإطلاق النار على زميله في الفصل الدارسي، فأرداه على الفور.
المسألة هي طفل في السادسة. الطفل كانت أمواج البحر العاصف رحيمة به. لكن أمواج السياسة يعنيها شيئاً آخر ولو أدى هذا الى ان يصبح الطفل ذاته وقوداً في معركة اكبر تماماً من سنه وقدراته. حتى القضاء الاميركي استغله الاقرباء في ميامي في استصدار أمر وقتي منه بإبقاء الطفل إليان في اميركا الى أن يجري بتّ طلبهم امام الاستئناف بأحقيتهم في حضانته. الأب قبل بفكرة انتظار حكم القضاء. لكنه يرفض فكرة استمرار بقاء طفله في ميامي، بينما عليه هو الاكتفاء في واشنطن بمشاهدة طفله عبر التلفزيون بين وقت وآخر.
قبيل كتابتي هذه السطور كان الموقف هو: أب معزول في واشنطن - العاصمة الاميركية - عن طفله، ثم طفل في مدينة ميامي الاميركية معزول عن أبيه. وبالتوازي سياسيون يزايدون ويناقصون حسب المصلحة الانتخابية، بينما هناك مسألة جوهرية غائبة تماماً.
المسألة هي طفل في السادسة.
فجر السبت 22 نيسان ابريل الجاري اقتحمت الشرطة الفيدرالية الاميركية منزل الاقرباء في ميامي بعد فشل كل تفاهم ودي وتفاوض قانوني. لقد صحبوا الطفل الى أبيه في واشنطن. حيث سيبقى الاثنان معاً الى حين صدور الحكم الاستئنافي في الموضوع. لم يكن هذا انتصاراً للفيل، ولا للنملة. كان انتصاراً للقانون الإنساني، اسمى درجات القانون، وفيه يتساوى الأب الاميركي مع الكوبي، مع كل أب حول العالم. المسألة هي طفل في السادسة. وتلك السيدة الاميركية - ضابطة الشرطة الفيديرالية - التي أخرجت الطفل إليان من خزانة الملابس حيث خبأه الاقارب العقارب في المنزل في ميامي، واحتضنته مسرعة به الى السيارة ثم المطار الى واشنطن، حيث الأب الملتاع الصابر، فهي لم تمثل صوت القانون وسوطه فقط، لقد مثلت نفسها، وكل أم وأب حول العالم.
* نائب رئيس تحرير "أخبار اليوم" القاهرية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.