ولأن القلم أمانة، ولأنه لمن البيان لسحر، يفوق بقوته الصخر، ولأنه (ما ينطق من قولٍ إلا لديه رقيب عتيد)؛ فسأكسر قلمي وأمزق ورقي ولو كان جديدا، وسأرمي «كيبوردي» خلفي إن كتبت يدي ما لا تراه عيني ويشاهده غيري، ويؤلمني وأنا أتقلب بسريري، فقارئي هو نديمي، وغريمي هو ضميري الذي أنا مسئولٌ عنه أمام ربي. وبما أن زماننا لم يعد يحتمل دس الرؤوس في الحفر، ولأن ولاة الأمر أتاحوا لأبنائهم إبداء الرأي المنضبط الحر والنقد الهادف الذي بالسمو والعلو مرتبط، لا النقد الهادم المثبط والمحبط، الخالي من الدلائل والمؤدي للقلاقل، ولأن وقت القراء ثمين، وجلهم لا يكتفي بالعناوين، بل يقرأ ما بين ثنايا السطور ولو بلغ عددها المئين، بريت قلمي وأعدت تسنينه بعد ما تدبب رأسه من جُهد الكتابة، وغاب بسباتٍ في سنواتٍ غدت وانطوت، فالقلم صغير بحجمه كبير بفعله، فتارة يكون كالسيف العتيد وتاراتٍ كحقن الوريد، إما تكون داء للجسد وإما دواء، حسب ما حوته هذه الحقن بجوفها. فبالقلم تشتعل ثورات، وتقوم حروب ونزاعات، وتتغير أنظمة وسياسات، وبالقلم تتوطد أواصر وعلاقات، وترتفع أصغر قامات، وبه تهوي هامات سامقات، فلنعقم حقننا وأقلامنا من الشوائب.. لنكن يا بشر كالشجر دوماً حاملاً لأطايب الثمر، لنطهر نفوسنا معشر الإنس من كل رجس كطهارة المطر عندما ينهمر، لنحاسب على كلماتنا بكل سطر وشطر، فهي كالندى وكالقطر الحامل للعطر، أو المنتهي بالتسميم والعقر، سواءً مكتوباً أو منطوقاً، لنسعَ للانسجام والاحترام، بدلاً من التناحر الحاصل بمواقع التواصل، حتى اعتزلها كثير من المثقفين والبعض صام عنها لا سيما الخيرين، وهناك فئة لم تفكر بالغوص بلججها لإحساسها بما سيدور بجوفها، ولأن لهم باعا في سنين مضت عن كيفية الحال بوقت كانت المنتديات والمدونات والقروبات هي المتسيدة، غير أن المهاترات والشقاق والخصام وخلق العداوات التي كانت فيها أخف وطأة من الحال المزري الذي أفضت إليه مواقع التواصل الاجتماعي اليوم.. هناك من أطالوا الانتظار قبل أخذ القرار، ووقفوا بإشارة مرور نصبوها أمامهم لسنوات وقيدوا بها أنفسهم، ولم تشر لهم بأخضر الضوء. فالوقاية خير من العلاج، فابتعَدوا عن لجج هذه المواقع فلم (يتفيسكوا)، ولم (يُتوتِروا) ولم يجعلوها أبلغ منتهاهم وإليها يحتكموا، ولا للصولات والجولات خلالها يخوضوا، بمعارك ضد الحاكم والمحكوم، والعادم والمعدوم، وفلان وعلان، حتى نزعت الحلم والأناة من بعض القدوات، وأشعلت فتيل النار بين الدعاة، ومنهم من باعدته عن ربه، ومنهم من حرفته عن دربه، فعافاهم ربهم من المضغ الشديد للحوم، وعن القذف بالمنجنيق للعموم، الآتِي بأي وقتٍ من القريب قبل البعيد، والذي وجد أخصب مرتع له هذين الموقعين، التي رأى العالم نتاج حراكهما المتدافع، حتى تحولت لبيئة تقاتل لا تواصل، الخارج عن انضباطية إطاره وصحية مساره، فلقد طغت سلبياته في أحيان على إيجابياته، وأقل نتائجهما النزاعات، ونصب العداوات، وتأجيج الفتن، وإذكاء المحن. ومثل هؤلاء الذين ابتعدوا عنها لا يعتبرون أبداً منغلقين، بقدر ما هم واعون ناضجون، بسبب إساءة الاستخدام من الكثيرين، وبعضهم سيماهم الصلاح ولكنهم في الغي يعمهون.. فالله المستعان على ما يصفون.