(السر ) كلمة مرادفة تقريباً لكلمة الخفاء، وأقول تقريبا لأن كل كلمة في اللغة ليست مرادفة لأخرى ولو توهمنا ذلك، ففي كل كلمة معنى نحسه بالهاجس والإحساس ويعجز التعبير عنه بدقة ومن ذلك كلمة (سر) ففي عمقها معانٍ تنطق لنا من الداخل تخاطب القلوب قبل أن تستبيحها الأذن بسماع شيء منها حتى إذا تحرك اللسان بها خلعت ذلك اللباس الخفي الرقيق عنها. احفظ لسانك لايجي فيه تبطيش تصبح عيونك كايدات رمدها وإسرار الشيء إخفاؤه وكتمانه عن الآخرين كراهة أن يعرفوه أو يتناقلوا معلومات عنه، وبالتالي فكل ما يجرى في خفاء أمكن أن يكون سرا وكل ما خيف عليه من الانتشار واطلاع الآخرين عليه فإنه يعد سرياً، بغض النظر عن أهميته من عدمها، فصاحب السر وحده هو الذي يقدر أهميته وضرورة سريته لأنه يدرك ماذا يعني في حالة كتمانه وفي حالة نشره، على أن الخوف من إلحاق الضرر في الغالب هو السبب الجوهري في الحرص على السر وكتمانه. فإفشاء سر حربي يسبب الهزيمة، وسر اقتصادي يسبب الخسارة، وسر اجتماعي يسبب التشهير والفضيحة أو القطيعة وهكذا. والسرية في التعامل قديمة جدا، ففي المراسلات يكتب على الخطابات قديما وحديثاً ما يدل على سريتها وربما ختمت بخاتم من الطين قديما أو الشمع الأحمر حديثاً لا يكسره سوى من أرسل الخطاب إليه، وهذا يعني سرية المحتوى وضرورة كتمانه وعدم نشره أو تناقل ما تضمنه، وبعض الرسائل لعظم سريتها ترسل مشافهة من مرسلها إلى من أرسلت إليه فيتكلم أمامه، بمعلومات خزنت في قلبه وعقله لا يمكن كشفها في الطريق. وهناك سر دائم يفترض موته إلى الأبد، وهناك أسرار مؤقتة تنتهي سريتها بزوال السبب، وهناك أسرار هي في الواقع عادية ولكنها تخفى لغرض معين ووقت محدد، ثم تكون معلومات عادية تنكشف من طبيعتها. كما أن هناك أسرارا يفترض إذاعتها وإشاعتها والإخبار بها لأن كتمانها يلحق الأضرار بالأمة والناس، أو كونها علما ينتفع به وقد زال منه مسبب كتمانه. وقالوا قديما (خذوا علوم القوم من سفهاهم) يعني من أراد أن يطلع على أخبار القوم وخفاياهم فليراقب كلام السفهاء منهم كالأطفال مثلا، فإنهم لا يحفظون سرا بل يتكلمون بكل ما سمعوه، براءة ونوايا طيبة وربما سذاجة. والسر عند العرب في قائمة ما يتم الاحتفاظ به والحرص على كتمانه وهو مقدس في أعرافهم تقاس به قيم الرجال والنساء وميزان لمكانتهم، لأسباب عديدة أهمها قوة الأعراف وسيطرتها والضبط الاجتماعي المتمكن والهم الأمني فالقلق والخوف يحيط بساكن الصحراء سواء أفرادا أو جماعات، ذلك لأنها كانت تشن الغارات عليهم، وتنهب الأموال والخيول والماشية، فصار الكتمان جزءا من الحماية والوقاية، وأيضا فإن الثارات والانتقام كان موجودا متربصا بهم، فصار إخفاء الأسماء والمعلومات بكل أنواعها ضرورة أيضا، إذ لا يمكن والحالة تلك لساكن الصحراء أن يدلي لمن يسأله في الطريق بأي معلومة مالم يكن واثقا من محدثه، وحتى في هذه الحالة ومع الثقة فإنها لا تعطى كامل المعلومات بتفاصيلها بل تنقص إلى درجة الخلل. ويقول الشاعر سداح العتيبي: صاحبٍ لو ذاع سري حالفً سره ماذيعه حافظه والحافظ الله من مقادير الليالي ومن قصيدة للشاعر سلطان الهاجري نختار هذه الأبيات: والمجامل بعض الأحيان ما يقضي لزوم لابو النفس الضعيفه ولابو جدها مير تجبرنا العوايد وتجبرنا السلوم نكتم الأسرار لين تاصل حدها وتتهم المرأة على وجه الخصوص قديما بأنها لا تحفظ السر مهما كان السر يشكل خطورة عليها أو على من حولها، قد تذيع المرأة سرا يضر بولدها أو زوجها أو قبيلتها، أو لمن يرتبط السر به وقد تجتاح الحروب بلادها بسبب إذاعتها للسر، بعكس الرجل فإنه أحرى وأقرب إلى حفظ السر وعدم البوح به. والأمر هذا ليس على اطلاقه ولكن القدماء خافوا على السر خوفهم على حياتهم، فألفوا القصص الوهمية التي تجعل المرأة مذيعة للسر، من أجل تحذير الرجال من البوح بأسرارهم في بيوتهم أو على نسائهم، فهم في الحروب والمعاملات لا يخشون من إذاعة السر إلا للنساء، لهذا جعلوا من القصص هذه ثقافة تحذر من أي قريب قد ينساق الرجل عن علم أو جهل فيذيع سره، فصارت هذه الحكايات الخرافية جزءا من ثقافة المجتمع ودخلت قناعاته فلم تستطع المرأة تبرئة نفسها من قصصهم كما لم تستطع امرأة الأب من ثقافة مشابهة كونها تكره أولاد زوجها من مرأة سابقة.. ولعل هناك أسباباً أخرى تعزز مثل هذا الاتهام الخاطئ، أهمها أن المرأة وخاصة في زمن قديم تفتقر إلى المعلومة والسالفة والرصيد المعلوماتي الذي من خلاله تشارك الأخريات فيه أثناء اجتماعها مع غيرها من النسوة، وبالتالي فهي تستدعي ما لديها من معلومة حتى ولو كانت سرية أو خطيرة سمعتها من زوجها أو أبيها أو أخيها وتذيعها ولو لجارتها أو بعض بناتها أو أختها أو أمها لأنها في حاجة ماسة للتواصل ولقول أي شيء وهي لا تصبر على الصمت، وباعتبار الطرف الآخر يحفظ السر ويحرص على عدم إلحاق الضرر بها، وربما حصلت قبل إذاعة السر على تأكيد الطرف المتلقي بأن المعلومة لن تخرج إلى الآخرين، وبهذا ينتشر ويذاع السر عن طريق المرأة فيصدق عليها القول بأنها تذيع الأسرار بينما هي ضحية كتمان المعلومات العلنية العادية. أما الرجل فإنه في الغالب يكون أكثر تجارب وتقديرا لعواقب الأمور، ولأنه في مواجهة الخطر مباشرة. وربما وجد الرجل نفسه غير محتاجا إلى إذاعة سر من أجل مشاركة أطراف أخرى حديثهم، فلديه الكثير مما مر به أثناء رحلة صيد أو غزوة أو سفر أو تلاقيه مع عدد من الأفراد وتلقيه لمعلومات كثيرة علنية وليست سرية، كالبيع والشراء أو النزاعات والمصالحة وكثيرا من العلوم... الخ فيكون والحالة تلك مشبعاً بالمعلومات، ولديه رصيد كبير من التجارب المتجددة بحكم مسؤولياته الكثيرة وعلاقاته، فهو لا يضطر إلى استدعاء الأسرار لكي يشارك بها وتسعفه في الحديث المتبادل، أو لكي يؤنس الآخرين بمعلومات سرية. ما ذكرته هنا يعد في العموم لا في الخصوص، إنما هناك من النساء من تحفظ السر ولا تذيعه بينما في المقابل هناك من الرجال من يذيع أسراره واسرار غيره قبل أن يسأله أحد، فهي طبائع نفوس وتربية منذ الصغر على حفظ الأمانات ومنها الأسرار التي قد يودعها أحد لديهم. ومن الأقوال حول السر: (سرك في بير) (كل سر جاوز الاثنين ذاع) (صدور الأحرار قبور الأسرار) (من ضاق صدره بسره فصدور الآخرين أضيق) (لا تودع سرك المرأة) (سرك أسيرك فإن تكلمت به صرت أسيره) ومن أمثلة حفظ السر ما جرى في القديم لرجل وولده عندما وقع في قبضة العدو، فكان يحمل سرا لا يعلمه إلا هو وولده فقط، وعندما طلب من الرجل كشف السر لهم، ادعى أنه يخاف من ولده أن يفضحه عند القبيلة فيما لو أذاع السر، فقالوا نقتل الولد أولا حتى لا يفضحك في قومك، وعندما قتل الولد اطمأن الرجل وقال بموت ولدي فقد مات السر إلى الأبد، لأنني كنت أخاف أن يذيعه ولدي إن تعرض لأذيتكم، أما أنا فلن أضعف وموتي أهون من إذاعة سري. وللسر ثقل على القلب كالجبال، يشقى به حامله ويؤرقه وهذا هو المحفز لإذاعته فقد يضعف البعض من حمل كهذا، ولو كان حملا على الجسد لكان أهون، ومن لم يودع سرا فهو محظوظ، يرتاح قلبه ويهنأ في منامه. يقول الشاعر ندا الغيداني سلمت له مفتاح سرك ودهواك مع سكته واقفيت ماتسمع انداي ويقول الشاعر صقر النصافي ويسند على شاب يريد تعليمه الصبر وكتم السر اسمه علي أذاع سرا اقتصاديا مهماً بالنسبة له: ياعلي ان جيت العرب لا تصير ديش خبل ليا جاب السوالف سردها احفظ لسانك لايجي فيه تبطيش تصبح عيونك كايدات رمدها يجيك من ينشدك نشده تفاتيش يبي يسنع هرجة يعتمدها خله يقوم مفلت في يده ريش يروح منك وحاجته ما وجدها ترى دعابيل الخبول الفوانيش تبدي بما فيها ولا احد نشدها