استهل الكاتب الفرنسي رينيه ديمون كتابه «بداية خاطئة في أفريقيا»، والذي صدرت نسخته الإنكليزية عام 1966، بنفي اللعنة عن أفريقيا. لكن طوال الكتاب كان يريد أن يؤكد أن لعنة أفريقيا هي في نخبتها والتي تقوم بدور الاستعمار الذي أجلته بطرق ومضامين مختلفة. تذكرت الكتاب، عندما كان التلفزيون يعرض أعضاء وفدي سيلفا كير ومشار في فندق المفاوضات الفخم بأديس أبابا، وهم يتبسمون أمام الكاميرات، ببدلاتهم الكاملة والكرافتات الحمراء، ثم يتحول المشهد إلى مواطنيهم في معسكرات الأممالمتحدة وتحت الأشجار فيما الأطفال يصرخون من الألم والجوع. وتحمل هذه المقارنة دلالات ورمزية عميقة تفصح عن حقيقة الواقع وعلاقة النخبة الجنوبية بشعبها. لذلك لا بد من العودة إلى جذر الأزمة الجنوبية، إذ لم يعد من الممكن التمسك بالاختزالية التي اختصرت الصراع في أبعاد إثنية بين العرب-المسلمين وبين أفارقة غير مسلمين، وتهمل ما هو طبقي-سياسي. ففي هذه الحرب نحن أمام جنوبيين يقتلون جنوبيين آخرين، وقد يكونون من القبيلة نفسها، بشراسة ووحشية تفوق كثيراً ما فعله بهم «العرب» في الماضي. وهذا أيضاً ليس صراعاً قبلياً صرفاً: فالدينكا مثلاً موجودون في الجانبين. ويظل السؤال عن سبب الصراع، وما هي القضية المحورية التي أوصلت الطرفين إلى حد استعمال كل أنواع الأسلحة الفتاكة؟ وما هو الخلاف الأيديولوجي العميق الذي أجبر كير ومشار على اللجوء للسلاح لحسمه؟ ظلت النخبة الجنوبية مثل رصيفتها الشمالية، فهي تعلمت منها بل اعتبرتها مثلها الأعلى. لقد ظلت في حالة اغتراب عن شعبها وعجزت عن إحداث تغيير حقيقي عميق ومستدام في حياته منذ الاستقلال. إذ لم يحاول السودانيون، شماليين وجنوبيين، منذ 1956، أي بعد خروج البريطانيين، إنجاز مهام ما بعد الاستقلال. وهذا يعني بناء دولة وطنية حديثة تحقق الوحدة الوطنية، والتنمية المستقلة والعادلة. فالسودانيون بعد 58 عاماً من الاستقلال يتحدثون عن قبائل الدينكا والنوير والشلك أو المسيرية والسلامات والرزيقات. وهذا يعني العجز الكامل عن تحويل أفراد القبائل إلى مواطنين سودانيين، يعرّف الواحد منهم نفسه بأنه سوداني. بل تدهورت الهوية الوطنية مع الاستعادة المقصودة للقبلية باعتبارها البديل الفعّال عن الأحزاب والولاءات الحديثة. فمن الملاحظ أن عملية الإندماج القومي لم تكن من أولويات النخب السياسية السودانية بشقيها. فقد انشغل الجميع بمفهوم تجريدي غامض يُسمى «الهوية» وتشاجروا حول: هل نحن عرب أم أفارقة أم خلاسيون، وأهملوا قضية كيف نكون سودانيين أولاً. وتبدو المفارقة الكبرى في مسألة تعايش النخب، على رغم تعليمها، مع مؤسسة القبيلة. فالواقع هو أنه، مع التخلف والركود الاجتماعي، بقيت القبيلة الموقع الآمن الوحيد اجتماعياً الذي يلجأ إليه الفرد السوداني، كما أنها مصدر النفوذ السياسي بسبب النظام الانتخابي القائم على الدوائر الجغرافية/القبلية، والشيء نفسه يصح في حالة العمل المسلح. كان الفشل التاريخي الثاني، وهو من شروط الإندماج القومي، العجز التنموي. فقد بقي الجنوب قريباً من المستوى الذي وجده عليه الإنكليز قبل أكثر من قرن. ولنترك فترات الحكم الجماعي للسودان، ونركز على فترات حكم الجنوبيين بأنفسهم للجنوب، أي ما بين اتفاقية أديس أبابا عام 1972 وعام 1983، ثم الفترة الانتقالية من 2005 حتى 2011، ثم فترة الانفصال الراهنة. فأين هي المشروعات التنموية التي أُنجزت لضمان استقرار القبائل وتغيير نمط حياتها؟ وهذه القبائل تحتاج إلى الطرق المعبدة والمدارس وتوفير المياه النقية والسكن اللائق. فهل فكرت النخبة الجنوبية التي ناضلت من أجل هذا الانفصال في مشروعات لاستقرار الرحّل، وفي تحويل الثروة الحيوانية إلى مصانع إنتاج لحوم وألبان من خلال تغيير العادات والتقاليد؟ وهل فكرت في إحياء مشروعات مثل نسيج «أنزارا» الذي أنشأه الإنكليز عام 1945، والاستفادة من الغابات وأخشابها التي تضاهي أخشاب فنلندا؟ ومن المانغو والموز والأناناس والتبغ؟ لكننا، في المقابل، شاهدنا أنواع المدرعات والعربات المصفحة التي تجوب الشوارع الترابية في مدن بور وجوبا. ويظهر أن العقل الجنوبي بقي مقاتلاً فقط وضعف فيه حس التنمية والبناء منذ زمن طويل. فقد لاحظ الكاتب الجنوبي جون قاي أنه «يبدو أن الحركة الثورية الجنوبية كانت ناجحة في تعبئة المواطنين في الوقوف خلفها، ولكن لماذا فشلت في إرساء قواعد إدارية مدنية قوية تساعد في تنمية المناطق التي كانت تحت سيطرتها؟». وهذا صراع عبثي وانتهازي، وقوده، للأسف، المواطن الجنوبي. فالخلاف يدور حول الامتيازات، وشرعنة الفساد، واكتساب الجاه والمكانة، وهو داخلي يدور ضمن نفس الحزب: الحركة الشعبية. فهي تتحكم ولا تحكم الدولة الفاشلة الثانية في الجنوب، بلا فكر ولا مشروع ولا أيديولوجيا، بل تحكم، مثل جارتها الشمالية، بالقمع الأمني والترغيب المفسد. فقد سقط «المشروع الحضاري الإسلاموي» في الشمال، ومشروع «السودان الجديد» في الجنوب. وبقي في الدولتين مشروع القمع والفساد العاريين بقيادة الحزب الواحد. وفي الجنوب كانت الكارثة السياسية مضاعفة، فقد فشلت الحركة الشعبية في التحول إلى حزب ديموقراطي مدني جماهيري. ولذلك كان من الطبيعي أن تفشل في الواجب الثاني، أي إقامة نظام حكم تعددي في وطن يسع الجميع. ومن العادي في هذا الوضع الفاشل أن نسمع عن صراع الدينكا والنوير، على رغم أنه ليس الصراع الحقيقي. ومن ناحية أخرى، هناك أموال طائلة مجهولة المكان: فخلال الفترة ما بين 2005 ونيسان (أبريل) 2009، كان تحت تصرف الحركة الشعبية 7,3 بليون دولار من موارد البترول، ولا توجد أية إشارة تدل على الوجهة التي صُرف فيها هذا المبلغ! لقد أضاعت الحركة الشعبية فرصة تاريخية في أن تتحول إلى حزب ديموقراطي جماهيري على مستوى السودان كله وليس الجنوب فقط. وفي هذه الحالة كان يمكن للوحدة أن تكون جاذبة. فقد شهدت فترة توقيع اتفاقية السلام عام 2005 مدّاً جماهيرياً كاسحاً يتجه نحو الحركة الشعبية في الشمال، وقد تجلى ذلك في استقبال شعبي نادر حظي به جون قرنق ووفده. وكانت هناك أعداد كبيرة أرادت تحويل هذا الشعور العفوي إلى ممارسة وعمل من خلال الانضمام إلى الحركة، لكنهم فوجئوا بصدٍ قوي أغلق في وجوههم الأبواب، وعمل على إبعادهم عن هذا التفكير. ومن الغريب أن هذا الموقف تبنّته قيادات شمالية في الحركة وليس الجنوبيون. لكن من يفهم طريقة تفكير النخبة الشمالية لن يستغرب: فقد خافت من تراجع دورها ومكانتها عندما يكثر الشماليون داخل الحركة. لقد فكرت بموجب قانون السوق، أي العرض والطلب، وقررت التمسك بنُدرة الشماليين على مستوى القيادة حفاظاً على «الثمن» العالي والغالي. وخضعت الحركة الشعبية خلال الفترة الانتقالية لممارسات متخلفة أضرت بكل شيء بما في ذلك نتيجة الاستفتاء. ولهذا لا يزال التساؤل قائماً: هل كان الانفصال حتمياً؟ أم أنه الخيار الوحيد الممكن؟ فالحركة تخلت تماماً عن دعم التحول الديموقراطي الذي كان ركناً أساسياً في الاتفاقية، ولم تدافع عنه. ووصل الأمر إلى درجة انسحاب مرشحها من انتخابات الرئاسة لأسباب لم توضح لنا حتى الآن. لقد أوصلت النخبة الجنوبية، ممثلة في الحركة الشعبية، مواطنيها إلى حافة الجحيم بلا أية أهداف نبيلة وعظمى، كان الأمر مجرد أحلام عصافير وشبق سلطة. فهي تراجعت عن مشروع «السودان الجديد» وحتى عن «الجنوب الجديد»، ولم تقدم لشعبها أي إنجاز يشعره بالكرامة الإنسانية والتغيير. واليوم لا بد من ممارسة كل الضغوط لوقف هذه الحرب العشوائية والتي ستكون نتيجتها الهزيمة للطرفين، لأن ضحيتها الشعب الجنوبي. وعلى الحركة، بعد ذلك، أن تبدأ في الاستجابة للتحدي الكبير: الديموقراطية. وهذا يعني أن تتحول إلى حزب ديموقراطي أصيل، وأن تقبل بأن يكون الجنوب دولة ديموقراطية ومجتمعاً تعددياً حديثاً يسعى لتجاوز الانتماءات القبلية والعشائرية. فمن العار على النخبة الجنوبية أن يبقى وطنها في مطلع القرن الحادي والعشرين على هذه الحال: مجرد قبائل وأدغال ومستنقعات. * كاتب سوداني