في الخامس عشر من كانون الأول ديسمبر 2013، اندلع القتال في مدينة جوبا، عاصمة جنوب السودان، وامتد سريعاً إلى المناطق المنتجة للنفط. وأصدر مجلس الأمن الدولي، في الرابع والعشرين من الشهر ذاته، قراراً بالإجماع دعا فيه إلى "وقف فوري للعمليات الحربية وبدء الحوار على الفور." واستطاع المجتمع الدولي دفع أطراف النزاع إلى مفاوضات مباشرة عقدت في العاصمة الأثيوبية، أديس أبابا، تركز على سبل التوصل إلى وقف لإطلاق النار، وإنهاء حالة العنف التي اجتاحت مناطق عدة من البلاد، وأودت بحياة ما يزيد على ألف شخص، وتسببت في تشريد 200 ألف آخرين. وقد بدأت الأزمة إثر اشتباك مسلّح في مقر حرس الرئاسة، اعتبره الرئيس سلفاكير ميارديت انقلاباً فاشلاً، جرى تدبيره من قبل نائبه السابق ريك مشار. وولدت جمهورية جنوب السودان، في التاسع من تموز يوليو 2011، لتشكل الدولة 193 في العالم، وال 55 في القارة الأفريقية، حيث تقع في الشرق منها. وتبلغ مساحة الدولة الجديدة 644 ألف كيلومتر مربع. وهي تقع في المرتبة 42 عالمياً على هذا الصعيد، بعد أفغانستان (652 ألف كيلومتر مربع)، وقبل فرنسا (643 ألف كيلومتر مربع). ولجنوب السودان حدود تمتد نحو 2000 كيلومتر تقريباً، وتجاور خمس دول هي: إثيوبيا وكينياوأوغندا والكونغو وأفريقيا الوسطى. ويصف النشيد الوطني لدولة جنوب السودان أرض الجنوب ب "أرض كوش"، وأهلها ب"المحاربين الأشداء والمقاتلين السود، الذين سالت دماء الملايين منهم من أجل الحرية والعدالة، والدفاع عن أمة جنوب السودان وحمايتها لتكوين أمة جديدة". وعدد النشيد مزايا أرض الجنوب، واصفاً إياها ب "جنة عدن، وأرض الحليب والعسل، والعمال الأقوياء، وأرض النيل، والجبال والغابات، وموطن حضارات العالم". وتحتوي دولة جنوب السودان على العديد من الثروات الطبيعية، بما في ذلك النفط، الذهب، الفضة، النحاس، الزنك، الحديد، الأخشاب والأحجار الكريمة. وبموازاة ذلك، ينعم الجنوب بأراض خصبة، وأمطار استوائية غزيرة، تجعل منه إحدى أهم مناطق العالم على مستوى فرص الاستثمار الزراعي. ووفقاً لتقرير، أعدته مجموعة نرويجية، فإن شركات أجنبية استحوذت على مساحات كبيرة من الاراضي الزراعية في جنوب السودان خلال السنوات القليلة الماضية. وقال التقرير إن حكومات وشركات أجنبية سعت للاستحواذ، أو استحوذت بالفعل، على مساحة تقدر بنحو 26400 كيلومتر مربع في الجنوب السوداني بين عامي 2007 و2010، بهدف إقامة مشروعات زراعية، وانتاج الوقود الحيوي وزراعة الغابات. وعلى الرغم من ذلك، يلحظ الزائر لجنوب السودان، على نحو سريع، تواضع إمكانات الدولة الجديدة، أو لنقل مظاهر بنيتها التحتية، بما فيها تلك القائمة في جوبا. ويتم إنتاج الطاقة الكهربائية في الغالب بواسطة المولدات العاملة بالديزل، ذات التكلفة العالية. ولذا فإن غالبية السكان لا تستطيع الحصول عليها. كذلك، فإن خطوط المياه تُعد نادرة أو شحيحة في عموم البلاد. وفي مناطق مختلفة، يعتمد الكثير من السكان على ما يُعرف بزراعة الكفاف، التي لا تستطيع سوى توفير لقمة العيش. وقد تلقى جنوب السودان أكثر من أربعة مليارات دولار من المساعدات الأجنبية منذ العام 2005، جاء غالبيتها من المملكة المتحدة والولايات المتحدة والنرويج وهولندا. ومنذ ولادة دولة جنوب السودان، توقع المراقبون عدم استقرار الدولة الجديدة، بسبب النزاعات القبلية التقليدية والمعقدة فيها. وقد أعلن الرئيس سلفاكير ميارديت، في السابع والعشرين من آب أغسطس 2011، عن تشكيل أول حكومة للدولة المستقلة، واستحوذت عناصر الحركة الشعبية على غالبية الوزارات، رغم مشاركة القوى السياسية الأخرى، ومن بينها المؤتمر الوطني، الذي نال وزارة النقل والمواصلات. وكانت الحرب الأهلية بين شمال السودان وجنوبه قد دامت عقوداً من الزمن (1955-1972 و1983-2003)، وأسفرت عن قتل ما يزيد على مليوني شخص، وتشريد أربعة ملايين آخرين، أصبحوا لاجئين داخل وطنهم. كما لجأ نحو 420 ألف نسمة للدول المجاورة. في تفاعلات الوضع الجديد، يُمكن أن نلحظ أنه رغم من تصريحات الرئيس سلفاكير ميارديت الواثقة، فقد كانت المواجهة تستعر منذ وقت طويل بينه وبين مع ريك مشار، الذي لا يخفي طموحه في تولي الرئاسة. يقول جوك مادوت، الذي كان وكيلاً لوزارة الثقافة: إن العلاقة بين الرجلين اتسمت لقرابة عام تقريباً، قبل إقالة مشار، "بسوء الاتصال أو انعدام الثقة أو الصمت." لقد تعلم سلفاكير الكثير في الأدغال، وعمل على رأب الصدوع بين الميليشيات حتى يصمد اتحاد الحركة الشعبية لتحرير السودان/الجيش الشعبي لتحرير السودان، الذي حارب السودان ويدير الجنوب الآن. بيد أن التحدي اليوم يبدو مختلفاً، إنه أكثر حساسية وخطورة من أي وقت مضى. وقد سعت دول ومنظمات غير حكومية، منذ مطلع هذا القرن، إلى رعاية تفاهمات تزيل أسباب التوتر بين قبيلتي الدينكا والنوير، تمهيدا لبناء جبهة جنوبية ذات قاعدة عريضة، تتصالح في إطارها جميع القبائل. وهناك مناوشات دورية وذات طابع عنيف بين بعض القبائل، تتعلق بالمياه والمراعي على طول الحدود مع جمهورية أفريقيا الوسطى. ويضم جنوب السودان ثلاث مجموعات سلالية رئيسية هي: النيليون والنيليون الحاميون والمجموعة السودانية. ويأتي النيليون على رأس هذه السلالات، من حيث العدد والنفوذ والقوة. وتنتمي إلى النيليين ثلاث قبائل هي: الدينكا والنوير والشلك. ويقدر عدد الدينكا بنحو ثلاثة ملايين نسمة، وهي كبرى المجموعات الإثنية في السودان، الذي يضم حوالي 500 مجموعة إثنية. وتعيش الدينكا في فضاء جغرافي يمتد من شمال مديريات جنوب السودان (بحر الغزال والنيل الأعلى) إلى جنوب كردفان (حول مجرى النيل)، حيث يقع خط تماسهم مع قبائل البقارة. ويعرف المركب الإثني والثقافي الذي تنتمي إليه الدينكا بمجموعة الشعوب الناطقة باللو، والممتدة في أقاليم شرق أفريقيا (الذي يجمع قبائل الماساي بكينيا والتوتسي برواندا وبوروندي وبعض المجموعات البشرية بمالي والسنغال). ومن ناحيتهم، يسكن النوير في فضاء جغرافي يقع أساساً في إقليم أعالي النيل، أي مناطق السوباط والناصر وميورد وأيود ومحافظة اللير، ويمتدون الي داخل حدود إثيوبيا. ولدى قبائل جنوب السودان امتدادات في كل من أوغندا وإثيوبيا وكينيا والكونغو، وهو الأمر الذي سهل انسياب وتحرك الجيش الشعبي لتحرير السودان في حدود الدول المجاورة، في سنوات الحرب مع السلطة المركزية في الخرطوم. وقد أدت صراعات سابقة في جنوب السودان إلى تدفق للاجئين الى خارج حدوده وشجعت المتمردين في الدول المجاورة. وبالعودة إلى تطورات الأزمة الراهنة، فقد أعلنت الهيئة الحكومية للتنمية لدول شرق أفريقيا (ايغاد) أنها شكلت لجنة وساطة ثلاثية، تضم السودان وإثيوبيا وكينيا، من أجل العمل على وقف القتال الدائر في البلاد. وكان فريق وساطة أفريقي زار جوبا، وضم وزراء من كل من كينياوأوغندا وجيبوتي والصومال، وممثلين عن الاتحاد الافريقي والأمم المتحدة. وفي تصريح عكس حجم الهواجس السائدة في شرق أفريقيا، قال الرئيس الأوغندي، يوويري موسيفيني :"أمهلنا ريك مشار أربعة أيام للرد (على عرض وقف اطلاق النار)، وإذا لم يرد فسنلاحقه.. كلنا.. هذا هو ما اتفقنا عليه في نيروبي." وسئل عما يعنيه هذا، فأجاب "لننزل به الهزيمة". وقد انتشرت قوات أوغندية في جنوب السودان بعد اندلاع المواجهات في منتصف كانون الأول ديسمبر الماضي. على صعيد التداعيات الإنسانية للنزاع، أعلن منسق الاممالمتحدة للشؤون الانسانية في جنوب السودان، توبي لانزر، إن عدد قتلى العنف في البلاد، على مدى الايام الماضية، ربما وصل إلى الآلاف، وليس المئات، كما قُدر من قبل. ووفقاً للأمم المتحدة، فقد رصدت عمليات قتل واسعة خارج نطاق القضاء، واستهدافاً للأفراد على أساس عرقي، واعتقالات تعسفية، كما تم اكتشاف مقبرة جماعية في بانتيو بولاية الوحدة، وهناك ما لا يقل عن مقبرتين أخريين في جوبا. وفي نتيجة أخرى للأزمة، وصل القتال إلى حقول النفط القريبة من الحدود مع السودان، وتدنى اجمالي إنتاج البلاد إلى 200 ألف برميل يومياً، بعد أن جرى إغلاق حقول النفط بولاية الوحدة. وينطوي هذا الأمر على أهمية كبيرة أيضاً بالنسبة لشمال السودان، الذي فقد معظم الحقول النفطية بعد انفصال الجنوب، لكنه يعتمد الآن على رسوم مرور النفط عبر أراضيه، في خط الأنابيب وصولاً إلى البحر الأحمر. ويمتلك جنوب السودان ثالث أكبر احتياطات نفطية في أفريقيا جنوبي الصحراء، بعد أنغولا ونيجيريا، لكنه ما زال أقل دول القارة تنمية. إن المطلوب اليوم هو انجاز تسوية سياسية متماسكة، قادرة على خلق الاستقرار وإدامته، والعمل، في الوقت ذاته، على دعم جهود التنمية الاجتماعية والاقتصادية، باعتباره اللبنة الأهم على هذا الطريق.