في الطريق إلى محترفه، كان علينا المرور عبر جسر «قصر النيل»، أحد أشهر الجسور فوق نيل القاهرة وأقدمها. على واجهة أحد التماثيل البرونزية التي تزين ذلك الجسر، حُفرت «ذكرى» لعاشقين بألوان مُقحمة وقبيحة. كان المشهد كفيلاً بأن يبدأ حديثي معه عن أسباب ذلك التشوه الذي تعاني منه القاهرة. أسباب كثيرة، يرى الفنان التشكيلي المصري صلاح المليجي أن لها دوراً في ذلك التشوه، لعل أكثرها تعقيداً هو الوعي العام، الذي تدهور، في العقود الثلاثة الأخيرة. كان الحديث عن هذا الأمر ضرورياً، فالمليجي يترأس حالياً قطاع الفنون التشكيلية التابع لوزارة الثقافة، وهو من الجهات التي يُؤمل من طريقها التصدي للتشوه الذي تعاني منه القاهرة. لكن ما أن دخلنا المحترف الواقع على أطراف المدينة، حتى واجهنا فوضى من نوع مختلف. أوراق مبعثرة، وأدوات رسم، وماكينة لطبع الأعمال الغرافيكية، وضع المليجي نفسه تصميمها، ووقف على صنعها لتضاهي مثيلاتها في أوروبا. المليجي، هو أحد الغرافيكيين المتميزين، الذين برزوا على ساحة التشكيل المصري خلال الثمانينات، ولا يبتعد عن الغرافيك إلى وسيط آخر إلا نادراً. ينتمي المليجي إلى إحدى القرى الواقعة على أطراف مدينة الجيزة، لكنه ولد في مدينة السويس وقضى معظم طفولته هناك، وكان ينتقل وهو صغير بين مدينة السويس وقريته مع أسرته كل عام، وكان لهذا الإنتقال بين حياة القرية والمدينة تأثيره في تجربته الفنية. يقول: مدينة السويس ترتبط في ذهني بتجارب وذكريات كثيرة لا أنساها، وكانت قناة السويس بالنسبة الي، أشبه بنافذة نطل من خلالها على العالم. سفن من بلدان شتى كانت تمر أمامي، بألوانها وأعلامها وأجناس ركابها. وكان البحر يمثل لي ذلك المجهول، ليس لأني أجهل ما يوجد في أعماقه بعقلية الصبي أو الطفل فقط، لكنه كان مصدراً لمتعة أخرى من الاكتشاف كنت أمارسها على شاطئه وأنا صغير، حين كنت أنبش في رماله لأستخرج القواقع البحرية، وهي كائنات حية مغلقة، كنت أجاهد لمعرفة ما تخفيه، بمخيلة طفل يتوق إلى الاكتشاف. أما في القرية، فقد كانت تنتظرني دائماً وليمة مثيرة من الحواديت والحكايات الخرافية التي كانت تُلقى على مسامعي، وكانت مرتبطة بأحد الجبال القريبة من القرية. حكايات كثيرة عن أناس تم مسخهم إلى أحجار لأنهم اقترفوا إثماً ما. وعلى رغم أني كنت وقتها مدركاً أن الأمر لا يعدو كونه مجرد خرافة، إلا أن هذه الحكايات كانت دائماً ملهمة تحرك مكامن الخيال عندي، وهي ما زالت تقوم بالدور نفسه حتى اليوم. في تجربة المليجي ثمة إطلالة على عالم التصوف، انعكست بشكل مباشر في تجربة «الطائر»، وهي مجموعة من الأعمال المستوحاة من القصص الديني، وكانت لها انعكاسات متفاوتة على تجربته الإبداعية وعلى طريقة تناوله للأشياء. ويقول المليجي معلقاً: تعلمت من المتصوفة أن أحب الناس من دون غرض، وأن هناك جانباً غير مدرك في الوجود. وساهم ذلك في ما بعد في اختياري موضوع أطروحتي للدكتوراه ليكون عن الروح الأسطورية عند فناني الجرافيك. الأسطورة ليست مجرد حكاية تُروى، فهي تحمل في طياتها الكثير من الدلالات التي لها علاقة بتطور تفكير الجنس البشري ونظرته إلى العالم والوجود من حوله. الأسطورة من أهم روافد الفن، وهي محرك للخيال والإبداع، كما أنها تمثل طفولة الجنس البشري. وكان الإخوان «جريم» الألمانيين هما أول من لفت نظر الناس إلى أهمية الأسطورة وتأثيرها، حين اتجهوا إلى جمع حكايات الفلاحين في ألمانيا خلال النصف الأول من القرن ال19. إلى جانب المثيرات البصرية والوجدانية، ثمة تجربة أخرى، كان لها دور في تطور وعي المليجي الفني، وهي تجربة «كوم الهوا»، تلك التجربة التي اعتمد فيها فقط على المثير اللفظي كمحفز للخيال، وأنتج على أثرها عدداً من الأعمال تحت العنوان نفسه. يقول: «كوم الهوا»، هو اسم مكان قريب من قريتنا، حدثني عنه أحد الأصدقاء يوماً، داعياً إياي إلى زيارته، ولم أفعل، لكن الاسم ظل عالقاً في ذهني شهوراً عدة من دون سبب واضح، ينبش داخلي في تجليات الدهشة، ويصدر العديد من الصور الذهنية التي تجسدت في عشرات اللوحات، وكان وزير الثقافة السابق فاروق حسني هو أول من التفت إلى هذا الأمر حين زار معرضاً لي، ووصف لوحاته بأنها محاولة مني لرسم الهواء. الأمر ببساطة، يتطلب أن تكون لديك قدرة على الإندهاش، حتى لو كان مصدر الدهشة مجرد كلمة. كانت تلك التجربة محوراً للأطروحة التي تقدمت بها لنيل الماجستير وعنوانها «الفراغ كقيمة تشكيلية في العمل الفني المطبوع». ألم تسع إلى رؤية تلك المنطقة المسماة كوم «الهوا» في ما بعد؟ - تعمدت ألا أذهب إليها، كي يظل ذلك التوهج مستمراً، فالإدراك البصري أحياناً ما يكون عاملاً سلبياً، كما أن الأمر حين يكون مجهولاً، عادة ما يكون أكثر إثارة للخيال. هل كان اختيارك لدراسة الفن مبنياً على رغبة حقيقية؟ - كانت دراسة الفن ضرورة بالنسبة الي، ففي طفولتي لم يكن يستهويني اللعب كثيراً كبقية الأطفال، ووفر لي ذلك وقتاً كي أمارس بعض الهوايات، ومنها الرسم. تعلمت أن أرسم حتى قبل أن أعرف حروف الهجاء، وما زلت أحتفظ بإحدى هذه الرسومات حتى اليوم. وحين كبرت قليلاً، أصبحت لدي قناعة بأني لا بد أن أسير في هذا الطريق. كنت مدركاً بأني لا بد أن أكون فناناً، وكانت هذه الرغبة تسكنني وأنا في المرحلة الثانوية، من أجل هذا التحقت بكلية الفنون الجميلة، رغم اعتراض أسرتي. لديك تجربة تسميها «زبد البحر»، وهي الوحيدة ضمن تجاربك الغرافيتية التي تتضمن تجربة التصوير. لماذا اتجهت إلى التصوير، وهل يمكن أن يكون الأمر مجرد هروب من الغرافيك بما ينطوي عليه من تعقيدات وطبيعة تقنية إلى حد ما؟ - لم تكن تجربتي في مجال التصوير هروباً من الغرافيك إطلاقاً، وإنما كانت مجرد رغبة في خوض مجال جديد ومختلف. تلقيت مبادئ التصوير في كلية الفنون الجميلة على يد أساتذة كبار، منهم حامد ندا، وزكريا الزيني. لكنني أحببت الغرافيك، وعشقت التعامل مع المجهول الذي يمثله. ففي الغرافيك تظل هناك مساحة للترقب والدهشة، إلى أن ترى المنتج النهائي أمام عينيك؛ كما أن فكرة التراكيب والتعامل مع خامات الغرافيك كانت تثيرني. لم تكن تجربتي في التصوير هروباً، فأنا أهرب للغرافيك، ولا أهرب منه، على رغم كلفته التي تفوق كلفة التصوير، وتقنياته المعقدة، فمن الممكن أن أظل عاكفاً لأيام طويلة على عمل غرافيتي واحد من دون الشعور بأي سأم. ولك أن تقول إني أستمتع بطريقة التفكير الغرافيكية. ماذا تعني بالتفكير الغرافيتي؟ حين يقوم فنان الغرافيك بتشكيل عمل ما بالحفر الغائر أو البارز على السطح، تكون النتيجة المطبوعة مغايرة في الكثير من التفاصيل، كوضعية العناصر وترتيبها على سطح العمل، والعلاقة ما بين الشكل والخلفية، وغيرها من هذه الأمور. وعلى فنان الغرافيك أن يكون مدركاً لكل تلك الأمور الإجرائية حتى لا تنفلت منه الأمور في النهاية. شاركت بأعمالك في الدورات الثلاث الأولى لصالون الشباب، وحصلت من خلال تلك المشاركات على جوائز في الرسم والحفر. كيف كان تأثير تلك المشاركات في تجربتك الفنية؟ - تجربة الصالون كانت مثمرة بالنسبة الي ولكثر غيري، فهي تدفعنا إلى التنافس الإيجابي، والتنافس كان يدفعنا إلى العمل، وكان الصالون يمثل منذ انطلاقه في نهاية الثمانينات جزءاً من احتفالية فنية يشعر فيها الفنان بذاته. وعلى رغم ضآلة القيمة المادية للجوائز في البداية، إلا أنه كان يمثل شيئاً كبيراً بالنسبة الينا. أنا ارتبطت بالصالون كمشارك، وكعضو لجنة تحكيم وكقوميسير، وهي تجربة لها تأثيرها الإيجابي بلا شك.