إثر تخرجه من كلية الطب العام 1976، تملك الفنان التشكيلي المصري عادل السيوي شعور طاغ بالعدول عن هذا الطريق الذي ظن البعض في حينه أنه سائر فيه لا محالة، لكنه تتبع ذلك الصوت الخفي الذي ظل يلح عليه منذ أن استهوته لعبة اللون، وكان درس الفن في القسم الحر في كلية الفنون الجميلة في القاهرة أثناء دراسته في كلية الطب. حاول السيوي في البداية أن يوازن بين عمله في الطب وممارسته للفن لكنه لم يستطع، فسافر إلى أوروبا بعد أن أقام معرضه الأول في أتيليه القاهرة العام 1980، إذ عاش هناك في مدينة ميلانو الإيطالية ليعود بعد عشر سنوات كاملة إلى مصر ويستقر في القاهرة العام 1990 ويرتبط اسمه بعدد من المشاريع التي كان لها صدى داخل الحركة الفنية والثقافية المصرية، حيث ترجم وقدم عدداً من الكتب من الإيطالية إلى العربية، وبدأ مشروع «كوم غراب» في إحدى المناطق الفقيرة داخل حي مصر القديمة في جنوبالقاهرة حيث قام وآخرون برسم وتجميل واجهات المباني هناك، هذا إلى جانب محاولاته السينمائية بتصميم ديكورات وتنسيق مناظر فيلم «يا دنيا يا غرامي»، كما أصدر العدد الأول من مجلة «عين» للفنون البصرية. وحين ندخل إلى عالم السيوي تطالعنا هذه المفردات الخطية واللونية المميزة التي أبدعها فترة الثمانينات، فهو في البداية كان يهتم بالحركة، وامتلأت لوحاته وقتها بالكثير من العناصر والمفردات المنفلتة، وبدا كأنما يصور الأشياء إثر زوبعة عاتية كما في أعماله «المراجيح»، «وسط البلد»، «حجرة يدخلها الضوء»، وغيرها من الأعمال التي أبدعها حتى بداية التسعينات. كان هذا قبل أن يعم الهدوء، وتهدأ العاصفة ويكتشف الوجه، ذلك المحمل بالسكون والشفافية، مرآة الباطن الدفين وسره المكشوف. وجوه خجولة ومتحدية في آن معاً، منزوية وعامرة بالحكمة، تشعر بين قسماتها الممتدة بسحر الأسطورة وطقوس القدماء. وجوه مسكونة بالتوتر والقلق الذي يسيطر على ملامح الناس الآن، ومحملة بالكثير من الذكريات البصرية بداية من أخناتون ووجوه الفيوم، إلى الأقنعة الأفريقية والملامح المركبة التعسة لوجوه المارة في زحام القاهرة وغيرها من المدن المكتظة بالبشر والألم. يقول معلقاً: «كنت قبل الوجه أبحث عن شيء ما أتمسك به بين فوضى الأشياء والأماكن، كنوع من الانهماك الموقت، لم شمل الذات في مشهد، وأقصد هنا الخط أساساً، التحديد والفصل، كانت التفاصيل في حضورها وضياعها هي الغاية، ثم بدأت أتباعد عن ذلك من دون إدراك مضيء للدوافع، وأخذ الوجه يتسع حتى أزاح العلامات كافة وانتصب وحده، لا أعرف السبب الحقيقي لهذا، كيف تملكني هذا الوسواس القهري، ولماذا كلما تحركت يداي وجدتني أرسم الوجه نفسه. سنوات عدة قضيتها مع تلك الوجوه. كانت تخرج مفردة في البداية، ثم راحت تتزاوج في ثنائيات، ثم تتكرر، فيصعب استيعابها كوجوه منفصلة، أو تتوالى لتخلق مسارات لحركة العين، وتتراكم أحياناً لتصنع جدراناً، ثم نشأت على هامشها حكايات صغيرة تحاول أن تتعايش معها، تسخر منها أو تنفيها». هكذا هو الوجه عند السيوي، لم يكن مجرد مفردة عابرة، أو محض مساحة مسطحة تملأ فراغ اللوحة. صار الوجه لديه عالماً أسيراً ومدهشاً، ملك عليه نفسه ووجدانه وظل شاخصاً أمامه كالحقيقة، أو الأسطورة بملامحه المطموسة وخطوطه المستطيلة المفرودة على مساحة اللوحة. ومن الوجه خرج «البورتريه» في تجربته «نجوم عمري»، هذه المساحة من الوجد والحنين التي ذكرتنا بوجوه وملامح طالما أثرت في الوعي والمحيط المصري والعربي عموماً. نجوم السينما وأبطالها فترة الخمسينات والستينات. هؤلاء الذين وضعهم السيوي في صدارة أعماله وقدمهم إلى جمهوره بصياغات أسطورية قادرة على نبش الذاكرة. ولأنه لم يرد في بداية الحوار معه الخوض في سرد هذه الأسباب التي مل من تكرارها والتي دفعته إلى ترك مهنة الطب إلى الفن، كان علينا أن ننتقل إلى محطته اللاحقة لنسافر معه إلى ميلانو الإيطالية حيث استقر في بداية الثمانينات، غير أن أسباب السفر كانت وثيقة الصلة بتخليه المبكر عن مزاولة الطب بعد تخرجه مباشرة، فالاختيار كان صعباً، والحسم وقتها كان يواجه بضغوط شديدة، لذا فقد كان السفر يمثل لديه نوعاً من الملاذ أو الخلاص من كل هذه الضغوط التي واجهته. يقول السيوي: «كنت مدفوعاً إلى السفر لأسباب كثيرة، منها الرغبة في دخول تجربة مختلفة، ودراسة الفن، وكذلك الخلاص من هذه الضغوط التي كنت أعاني منها لتركي مهنة الطب، فالرهان هنا كان على الفن - وهو أمر غير مضمون في نظر الناس - في مقابل مهنة مستقرة كمهنة الطب، ولأنني كنت حاسماً في اختياري منذ البداية، خلافاً لكثر غيري بدوا مترددين بين هذا وذاك، فقد فضلت الابتعاد، وشعرت أنه التصرف الأنسب بالنسبة لي». وفي ميلانو أقام السيوي عشر سنوات، كان خلالها يعيش- كما يقول- حياة مستقرة، لم تعترضه صعوبات من تلك التي تواجه غيره. وخلال هذه السنوات استطاع السيوي أن يكون أكثر إلماماً بالثقافة الإيطالية والغربية عموماً. تعلم الكثير، وشاهد الكثير أيضاً، غير أنه كما سافر عاد مرة أخرى إلى القاهرة ليستقر بها من جديد من دون أسباب مباشرة. وهنا يقول معلقاً: «يبدو أن شيئاً ما في داخلنا كبشر يدفعنا إلى الحنين والعودة إلى أوطاننا. هو شيء غير مفهوم، أشبه بالغريزة التي تدفع الطيور إلى السفر لآلاف الأميال والعودة مرة أخرى إلى أعشاشها... ولأنني بطبيعتي شديد الارتباط بهذه الأجواء وتلك الملامح والأصوات، وأحمل عشقاً لهذه الحالة المتوسطية والأفريقية، الزراعية والصحراوية، هذا الخليط المدهش الذي لا بد من أن تفتقده حين تسافر إلى الشمال، ولأن الفن لدينا مرتبط بالمكان ونابع منه فقد كانت العودة حتمية بالنسبة لي. لقد قررت العودة لأنني بكل بساطة تأكدت في النهاية أني لا أستطيع الابتعاد أكثر من ذلك». حين عاد السيوي إلى القاهرة احتضنها بمجموعة من اللوحات تحت عنوان «المدينة» تميزت بتفاصيلها الكثيرة وعناصرها المنفلتة، ثم جاءت مرحلة الوجه، هذه التي استمرت معه منذ بداية التسعينات ولم تنته كما يقول حتى اليوم، حتى حين انتقل إلى رسم «نجوم عمري»، كان الأمر أشبه بتداعيات الحالة نفسها. ألم تشعر بالملل من وقوفك كل هذه السنوات أمام الوجه؟ - الوجه بالنسبة لي كان عالماً مليئاً بالتفاصيل، هذه التفاصيل التي أكتشف المزيد منها في كل مرة أقف فيها أمامه، فالوجه أعمق ما في الإنسان وأعقد ما فيه، كما أن الهواجس والتداعيات التي يحركها لا تنتهي أبداً. ماذا عن تجربة الترجمة التي خضتها مع «نظرية التصوير» لليوناردو دافنشي، و «نظرية التشكيل» لبول كلي، لماذا أقدمت على ترجمة هذين العملين بالذات، وهل ثمة مشاريع أخرى في السياق نفسه؟ - أنا أنتمي إلى جيل يؤمن بفكرة الدور العام، فقد تشكلنا في أعقاب أحداث كبرى، كالثورة والنكسة وغيرها، فاختلط في أذهاننا الخاص بالعام، وكانت ترجمتي لكتابي دافنشي وبول كلي نابعة من هذا المنطلق، لسد هذه الفجوة أمام دارسي الفن والمهتمين في ظل غياب المراجع الحقيقية لدارسي الفن والقارئ العربي عن الفن الغربي، وكان اختياري لهذين الكتابين بناءً على أهميتهما الفعلية التي لا ينكرها أحد، فليوناردو دافنشي فنان من الطراز الثقيل، شكلت تجربته ملامح عصر النهضة الأوروبية، أما بول كلي فقد لخص الحداثة في كتابه، وأنا مؤمن بأن عصر النهضة هو بداية الحداثة، فهناك عدم فهم وخلط في تعريف الكلاسيكية والحداثة والعلاقة بينهما، إذ يتعامل البعض معهما على أنهما نقيضان، في حين أن الحداثة بدأت من عصر النهضة مع بروز فكرة العلم المادي وتنحي سطوة النصوص المقدسة. ما رأيك في حركة النقد الآن على المستوى المصري والعربي عموماً، هل ترقى إلى المستوى المطلوب، أم أنها ما زالت قاصرة على تلبية الحاجة الملحة إليها؟ - لي رأي شخصي غالباً ما يغضب البعض، فحالة النقد عندنا تعاني من الضعف الشديد، إذ أن هناك خلطاً ولبساً في أمور كثيرة، كما أن هناك نقصاً في الوعي والثقافة وافتقار إلى أساسيات مهمة من مقومات النقد الفني في الوقت الذي يقابله نشاط في عملية الإبداع، وهو أمر غريب وحالة غير سوية بالمرة يمكن أن تصفها بالعرج، وأنا لا أجد في كل ما لدينا من اجتهادات إلا مجرد كتابات صحافية حول الفن، وهو نوع من أنواع النقد، ولكن النقد الحقيقي بما يتضمنه من أفكار وقدرة على التصنيف والتأريخ والفرز وإدراك النوعية ورصد الحركة واتجاهاتها، هو ما نفتقده حتى الآن على رغم أننا في أمس الحاجة إليه لإعادة التوازن وسد الخلل الحادث في مسار الحركة الفنية لدينا. هناك تجربة أخرى على درجة كبيرة من الأهمية خضتها في منتصف التسعينات، وهى مجلة «عين» التي خصصت لكل ما يتعلق بالثقافة البصرية من سينما ومسرح وتشكيل وغيرها، هذه التجربة التي لم تكتمل... لماذا؟ - قد يظن البعض أن توقف «عين» راجع لأسباب التمويل أو ما شابه ذلك، غير أن الأمر بعيد كل البعد عن المسائل المادية، فهو أمر من السهل توفيره إذا ما توافرت الرغبة في ذلك، لكن السبب الحقيقي كان يكمن في الافتقار إلى النصوص، إلى المادة المكتوبة، فالنصوص التي كانت تصلح لوعاء بمثل هذه القوة والرصانة التي ظهرت بها مجلة «عين» كانت شحيحة للغاية، أو غير متوافرة في معظم الأحيان، وأنا اكتشفت خطئي هذا بعد صدور العدد الأول من المجلة. اكتشفت أننا قد عكسنا الأمر، فالأصل أن تكون هناك وفرة في النصوص تفرض الحاجة إلى وعاء يشملها، أما نحن فقد أنشأنا الوعاء من دون أن ننتبه إلى هذا الافتقار المزمن في النصوص المتعلقة بالفنون البصرية، وهو الأمر الذي تعاني منه الحركة الثقافية المصرية والعربية عموماً. خلال السنوات التي أعقبت عودة الفنان عادل السيوي إلى القاهرة كان ينظر إليه كفنان خارج السياق الرسمي، وبدا الأمر أشبه بحالة من سوء التفاهم أحياناً بينه وبين قيادات ورموز في وزارة الثقافة المصرية، غير أنه خلال السنوات الأخيرة حدث شيء من التقارب بينه وبين المؤسسة الرسمية، فبعد سنوات من التهميش رشحت أعماله لتمثيل مصر في بينالي القاهرة الأخير، كما سافر أخيراً كقوميسير للجناح المصري في بينالي فينسيا الدولي، وهو يستعد حالياً لعرض أعماله في واحدة من أهم قاعات الدولة احتفاءً بتجربته، فما أسباب هذا التحول؟ يقول السيوي: «منذ عودتي وأنا أحمل الكثير من الملاحظات على الحركة الفنية في مصر، منها على سبيل المثال سيطرة الأكاديمية، ووجود أفراد بعينهم يمثلون ما يشبه مراكز القوى يتحكمون في حركة التشكيل، فضلاً عن البيروقراطية الرسمية، وهو أمر مدهش وغريب، فالحركة الفنية في رأيي يصنعها الفنانون في الشارع وعلى المقاهي وداخل المراسم وليس داخل الأكاديميات والمكاتب، من أجل هذا كنت أرغب في كسر، أو على الأقل «خربشة» هذا الجدار أو التحالف بين البيروقراطيين والأكاديميين، وحتى الآن ما زلت مصراً على أن الحركة الفنية في مصر تخسر من سيطرة الأكاديمية، وكذلك من الدور السلبي الذي يمكن أن تلعبه المؤسسة الرسمية، غير أن هناك تغيرات حدثت خلال الآونة الأخيرة كسرت حدة هذه السيطرة منذ بداية الألفية الجديدة، فقد انفتحت مجالات أخرى للعرض والاتصال بالعالم خارج الإطار الرسمي، كما أنشئت العديد من القاعات وظهر جيل من الشباب ليس له علاقة بالمؤسسة الرسمية وغير معني بهذه الصراعات والتكتلات، غير أنه - وللمفارقة - كانت المؤسسة الرسمية أحد الأسباب الرئيسية في هذا الحراك، فقد كان ل «صالون الشباب» الذي رعته الدولة منذ نهاية الثمانينات دور في هذا الأمر، فقد كان سبباً في ظهور جيل من الشباب معني بالتجريب أمد الحركة الفنية بطاقة جديدة للاستمرار والتحدي. لهذه الأسباب وغيرها بدأت في مراجعة بعض المواقف التي اتخذتها، فبدأت أميل إلى الابتعاد عن الحدة في إدارة الصراع أو الخلاف والبحث عن مناطق يمكن الحوار حولها، وكان ذلك في الوقت نفسه الذي حدث فيه نوع من التغير في فكر المؤسسة الرسمية أيضاً، بعد أن اكتشفت على ما يبدو أن فكرة الإقصاء والتهميش التي كانت متبعة من قبل لم تعد ذات جدوى.