التظاهرة التي نظمها ناشطون لبنانيون نهار الأحد الفائت وطالبوا فيها بإلغاء النظام الطائفي واستبداله بآخر علماني، أو مدني، على رغم عدم تحديدهم فارقاً بين المطلبين، يبدو أنها المشهد الوحيد الذي قد يغري المرء بالانجذاب إليه حتى الآن، بين المشاهد المختلفة التي تتنافس في لبنان، والتي يظهر فيها هذا البلد قديماً وغير منتمٍ الى مشهد التحولات العربية الواعدة. نعم، لبنان بلد قديم، وقدمه ليس رسوخاً، بل ذو مضمون رجعي. جماعاته منشغلة بانقسامات قديمة، وقواه السياسية تتمتع أيضاً بحصانات قديمة، وشبانه غير مجهزين لاستقبال عدوى التغيير التي راحت تتجول بين الدول والمجتمعات، رافعة الغطاء عن أنظمة أرست قواعد تسلطها وفسادها عبر عقود من الاستبداد. تظاهرة الأحد الفائت في بيروت كانت محاولة للخروج من عنق الزجاجة هذه، ذاك ان الشبان الذين تولوا الدعوة اليها انما فعلوا ذلك مدفوعين بشعور يحضّهم على الالتحاق بغيرهم من الشبان العرب. وهم اختاروا شعاراً لا يمكن نزيهاً ان يختلف معهم حوله، أي إلغاء النظام الطائفي في لبنان. وإذا ما شعر المرء بضرورة مشاركة هؤلاء، على رغم الحساسية التي قد تثيرها فيه تولي قوى سياسية، مثل حركة أمل والتيار الوطني الحر، هي في صلب هذا النظام الذي تدعو التظاهرة لإسقاطه، الاستثمار في هذه الدعوة، فإن سعي الشباب المنظمين لصد هذا الاستثمار، يشعره بأن وراء التحرك دوافع نزيهة تستحق استدراج أصحابها الى نقاش لطالما أعاق الانقسام السياسي الحاد في لبنان انعقاده. أنتم يا متظاهرو الأحد الأبيض أقلية اليوم في لبنان، تماماً مثلما كان أول المتظاهرين في تونس وفي القاهرة أقلية. وخضع تزايد المتظاهرين في شارع الحبيب بورقيبة وفي ميدان التحرير لآلية يشعر المرء انه من الصعب انتاجها في لبنان. فالتدرج من الوقفة الاحتجاجية، الى استدراج الشرطة الى مواجهة محدودة تتولى وسائط الإعلامي الاجتماعي نقلها الى خارج مسرح المواجهة وتستدرج متضامنين من شوارع ومدن أخرى، هذه الآلية غير مطروحة على المتظاهرين اللبنانيين، إذ إن رجال الشرطة قد يقفون مع المتظاهرين لا في مواجهتهم، والرموز المستهدفة بالتحرك أرسلت بالأمس ممثلين عنها للمشاركة في التظاهرة! ليس هذا الكلام من باب السعي للاختلاف مع هؤلاء الشباب، بل من باب الحيرة في الأسلوب المعتمد، فالتغيير لن يحصل إلا بمواجهة تحصل مع السلطة، والطائفية سلطة أكيدة في لبنان، لكنها سلطة غير تقليدية على ما هي السلطة في مصر وفي تونس. انها سلطة غير ملموسة ولا محسوسة، على رغم هيمنتها على مختلف وجوه حياتنا. وهنا ننتقل من الحيرة بالأسلوب الى الحيرة بالهدف... فإسقاط النظام الطائفي هدف نبيل وضروري لمستقبل أولادنا في لبنان. لكن تظاهرتين سبقتا تظاهرة المطالبين بإلغائه بأيام قليلة كانتا أكبر منها، الأولى نظمها تيار المستقبل في طرابلس، والثانية كانت حفلاً أقامه حزب الله تضامناً مع شيعة البحرين. هذا ليس تفصيلاً، كما انه ليس احباطاً، ذاك ان الحزبين الحاكمين في مصر وتونس كانا قبل أيام قليلة من سقوطهما أكثر قدرة من المتظاهرين على الحشد والتجييش. لكن آلية اعتمدت ومكنت قوى الاعتراض من جذب الشارع، ومن توظيفه. آلية أشعرت الغالبية الملتحقة بنظام الصمت والقبول بأن التحرك مجدٍ وأن المستقبل واعد، وأن ما ينتظرنا لن يكون أسوأ. كيف يمكن ان نقنع اللبنانيين المنقادين الى زعماء طوائفهم بأن إلغاء النظام الطائفي ضمانة بديلة؟ ثم ان الطائفية شعور قبل ان تكون سياسة، ولهذا فإن تفسير هذا الشعور قد يُساعد على انتاج الآلية التي يستدرج فيها مصطفون وراء طوائفهم الى تظاهرة الداعين الى الغاء النظام الطائفي. فالأكيد أن كثيرين من بين المصطفين وراء زعماء طوائفهم من هم غير طائفيين، ومن هم أقل طائفية من غيرهم، وهؤلاء هم أول من يجب ان تنصب الطموحات لجذبهم الى التظاهرة. يجب أن يُقدم إغراء يُقنع هؤلاء بأن مكانهم الطبيعي هو تظاهرة بيروت، لا تظاهرة طرابلس، ولا تظاهرة الضاحية الجنوبية لبيروت. فكيف يمكن تحقيق ذلك؟ اليوم يشكل سلاح حزب الله جوهر الانقسام الطائفي في لبنان. هناك من هو متمسك بهذا السلاح زاعماً بأنه ضمانة في وجه الأطماع الإسرائيلية، وهناك من يعتبر أن هذا السلاح خطر عليه، ويزعم أيضاً انه موجه الى صدره. ولهذا الانقسام مضمون طائفي لا يخدم انكاره فكرة الدعوة الى الغاء النظام الطائفي في لبنان. في مصر وتونس لم يتظاهر الشبان في أيام ثورتهم الأولى بهدف تعديل الدستور، او كتابة دستور جديد. حصل ذلك بعد أن سلكت الثورة طريقاً أكثر تواضعاً. التضامن مع محمد البوعزيزي، ثم الاندراج في حركة احتجاج كان سقفها إسقاط حكومة وتغيير رموز الفساد، ثم الدعوة الى رحيل الرئيس وبعدها الى إسقاط النظام، وخطوة كتابة دستور جديد بدأت بعد إنجاز الثورة مهامها هذه. من دون أن يُحدد الداعون الى إلغاء النظام موقفاً واضحاً من الشرط المركزي للطائفية اللبنانية بمعناها الراهن، أي الموقف من الموضوع المركزي للانقسام الطائفي اللبناني، سيبقون أسرى بقاء تظاهرتهم دون حجم تظاهرتي طرابلس والضاحية. فمخاطبة المتأرجحين بين لبنانيتهم وبين طوائفهم تقتضي الاقتراب من هواجسهم الفعلية بهدف تبديدها، سواء أكانت هذه الهواجس الى جانب السلاح أو كانت ضده. وهنا قد يتبادر إلى الذهن أن في هذه الدعوة استدراجاً للمتظاهرين للسقوط في فخ الانقسام وتحديد موقف منه، سواء كان داعماً أو كان رافضاً! ولكن الموضوع يستحق المحاولة، لا سيما أن النجاح بمهمة لا يمكن أن يتم عبر تجاهل الموضوع المركزي لهذه المهمة. اليوم هناك جمهور كبير في لبنان يعتقد أن السلاح موجه الى صدره، فكيف يمكن أن تقنع هذا الجمهور بالجلوس الى طاولة او المشاركة بتظاهرة لإلغاء الطائفية، في حين أن ثمة حزباً دينياً مسلحاً في مدينته؟ أليس إلغاء الطائفية، بداهة، يعني تساوي اللبنانيين أمام القانون بصرف النظر عن طوائفهم وعن مذاهبهم؟ وكيف يمكن أن يتساوى شخصان يحق للأول بحكم القانون اقتناء السلاح ولا يحق للثاني؟ هذه المعادلة تلغي مضمون الدعوة التي من المفترض ان تكون تساوي اللبنانيين في الحقوق والواجبات. لكن السلاح ليس وليد لحظة، ثم ان الاصطفاف خلفه ليس حزبياً فقط، انه طائفي ويشمل شريحة اجتماعية واسعة. ويجب عدم الإنكار أن السلاح شعور، والقول بنزعه اذا لم يقترن بتحديد جوهر المشاعر التي تدفع الى التمسك به سيفضي من دون شك الى صدام. ونحن هنا لا نتحدث عن حزب الله الذي يُعتبر السلاح بالنسبة اليه وسيلة وليس شعوراً، انما نتحدث عن الاصطفاف الأوسع خلفه، ذاك الذي يشكل البنية الاجتماعية للسلاح، والذي يُحصنه بعمق أهلي صلب. نعم، خلف السلاح مشاعر خوف تشبه مشاعر الخوف منه، وبما ان الخائفين من السلاح قد أسهبوا في شرح مخاوفهم، في حين لم يُباشر الخائفون من نزع السلاح بشرح الجوهر الفعلي لمخاوفهم، فتارة يحيلونها للخارج الإسرائيلي وطوراً لعملائه في الداخل، فإن بداية الاعتراف قد تشكل مدخلاً مغرياً لإلغاء الطائفية السياسية في لبنان. لقد أتيح لكاتب هذه السطور معاينة الجوهر غير الحزبي لمخاوف رافضي نزع السلاح غير الشرعي في بيروت. فبعد تظاهرة 14 آذار عام 2005 سمعنا كثيراً من الأصوات العادية التي لم تشارك في تلك التظاهرة تقول: لن نقبل بالعودة الى الوضع الذي كنا فيه قبل اشتعال الحرب اللبنانية. لن نقبل بتهميشنا مجدداً. هذه الأصوات لم تكن حزبية، ولم يكن مضمون كلامها مناقضاً للدعوات الى الاستقلال والسيادة والحرية، تلك التي أطلقت في الساحة، لكنها لم تجد صدى لها في التظاهرة. وكان ذلك بمثابة المأساة التي ألمت بساحة التظاهرة بدءاً من 15 آذار 2005. نعم، السلاح هو أيضاً شعور بالخوف من العودة الى الوراء، وبما أن أحداً لم يسعَ الى تبديد هذا الخوف والى تقديم عرض فعلي للخائفين من معاودة تهميشهم، فهو خوف في مكانه، وهو أيضاً خوف غير مرتبط على الإطلاق بوظيفة هذا السلاح وبوجهة استعماله، فهما سياقان لا يلتقيان الا في القليل من الظروف. فلماذا لا نجعل من الدعوة الى الغاء النظام الطائفي في لبنان فرصة لإجراء صفقة بين نوعي الخوف، أي الخوف من السلاح والخوف على السلاح؟ أي مقايضة السلاح بنظام سياسي يُبدد المخاوف، وهو حكماً يعني نظاماً من دون طائفية سياسية. القوى الطائفية في 14 آذار لن تقبل هذه الدعوة، فهي متمسكة بالامتيازات التي يمنحها لها النظام الطائفي. وحزب الله أيضاً لن يقبل بهذه الدعوة، إذ إنها ستنزع منه عنصر تفوقه في المعادلة اللبنانية. وسيشق الداعون إلى إلغاء الطائفية السياسية طريقهم من خارج الانقسام التقليدي، منتجين نموذجهم الذي يحاكي بجدته صور التغيير الكثيرة التي راحت تنبعث من حولنا، والتي أشعرتنا وأشعرت هؤلاء الشباب بضرورة الالتحاق بها، تاركين خلفهم الزعماء يتخبطون بتأييد ثورة وإهمال أخرى، وفق ما تملي عليهم شروط الاستتباع والارتهان.