العنوانان الرئيسان للحدث اللبناني هذا الأسبوع كانا اعتراض أحزاب وشخصيات مسيحية لبنانية على ورود بند «حق لبنان بالمقاومة» في البيان الوزاري، ثم دعوة رئيس مجلس النواب نبيه بري الى المباشرة بتأليف الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية. وثمة نبهاء ربطوا بين العنوانين، اذ اعتبروا، محقين على الأرجح، أن بري أيقظ «إلغاء الطائفية» رداً على مواقف القوى المسيحية المتحفظة عن بند المقاومة في البيان الوزاري. فالحساسية المسيحية حيال إلغاء الطائفية توازي الحساسية الشيعية حيال إلغاء السلاح. لكن هذه المعادلة تستبطن مفارقات أخرى. فإذا افترضنا اليوم أننا نعيش في بلد لا طائفية سياسية فيه، وتخيلنا المشهد السياسي الراهن وفق ذلك الافتراض خرجنا بأن دعوة بري الى إلغاء الطائفية كانت ستسهل من دون شك مهمة الأحزاب المسيحية في إلغاء بند المقاومة من البيان الوزاري. وبهذا المعنى يتبدى الرياء خلف المشهد برمته. فبري المطالب بإلغاء الطائفية يُدرك أنها هي ما يحمي سلاح المقاومة، داخلياً على الأقل، والأحزاب المسيحية الشديدة الحساسية حيال إلغاء الطائفية تعرف أيضاً ان الأخيرة هي ما يعيق مطلبها إلغاء بند السلاح من البيان الوزاري. واذا توسعنا أكثر في الافتراض، على اعتبار ان الواقع صار مملاً وأننا نحتاج الى قدرٍ من التخيل، فإن المشهد السياسي الحالي وهو خالٍ من الطائفية، لن يمكّن تحالف حزب الله وحركة أمل من الانسحاب من الحكومة على نحو ما فعل في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة الأولى، وإن فعل فلن يتمكن من الادعاء بفقدان الحكومة ميثاقيتها. فالمنسحبون سيكونون وزراء عاديين، وليس الوزراء الشيعة. وبهذا المعنى، يُفقد إلغاء الطائفية حزب الله قدرة على ادخال سلاحه في منظومة التوازن الطائفي، وهو ما كرسه الحزب في السنوات الأربع الأخيرة. في المقابل علينا ان نتخيل أيضاً المشهد من الموقع المسيحي، اذ لا يستطيع المسيحيون الدفع باتجاه دولة مدنية تحتكر السلاح محتفظين بحساسية عالية حيال شرطٍ أساسي لانعقاد المهمة، على مستوى الخطاب على الأقل. فالبقاء في الدائرة التقليدية للموقع المسيحي لم يعد مفيداً، وهو يحتاج اليوم الى قدر من التجديد. الطائفية، فعلاً، لم تحم المسيحيين، وربما عدمها لن يحميهم أيضاً، ولكن حان وقت البحث عن وسيلة نتجاوز فيها هذا المربع العقيم، خصوصاً ان الطائفية السياسية في وضعها الراهن لم تعد إغراء، والمواقع المسيحية فيها تصدعت بفعل عوامل كثيرة. تبدو، والحال هذه، حملة الردود على بري وكأنها تستجيب لما أراد الرجل ان يستدرج بكلامه من ردود، فلا هو جاد في طرحه، ولا الردود مقنعة أو مشرفة. الجميع يعلم وعلى رأسهم المسيحيون ان المقاومة وسلاحها هما جزء من منظومة التوازن الطائفي، بل ان الوظيفة العسكرية لهذا السلاح بما هو سلاح مقاومة قد انحسرت الى أدنى حدودها لمصلحة تضخم المهمة الداخلية له (7 أيار نموذجاً)، وربما كانت بداية الطريق الصعب للتخفف منه المباشرة في التفكير بنزع فتيله الطائفي. طبعاً يحتمل هذا الكلام قدراً من السذاجة التي تستبعد الوظائف الإقليمية لسلاح حزب الله، لكن القوة الإقليمية تسربت الى المعادلة الداخلية اللبنانية من مواطن وهنها. ليست الطائفية وحدها مسؤولة عن هذا الوهن، ولكن لنتأمل في السنوات الأربع الأخيرة، وهي كانت سنوات اختبار مرير للتركيبة اللبنانية ولقدرة القوى الخارجية على النفاذ اليها: - في 14 آذار 2005 لاحت لحظة أمل بددتها حقيقة عدم مشاركة الشيعة اللبنانيين في حدث كان من الممكن ان يكون مؤسساً، ولمرحلة مختلفة من العلاقات بين اللبنانيين. - بعد هذا التاريخ بسنة أو أكثر انسحب ممثلو الشيعة من الحكومة وغرقت البلاد في أزمة وطنية كبرى. - وبعد ذلك بأشهر أقدم مناصرو حزب الله وحركة أمل والتيار العوني وغيرهم من أحزاب «8 آذار» على الاعتصام في الوسط التجاري ومحاصرة القصر الحكومي حيث يقيم ممثل الطائفة السنية في التركيبة اللبنانية. - في 7 أيار 2008 أقدم مسلحو حركة أمل وحزب الله على مهاجمة أحياء السنة في بيروت ومناطق في الجبل وتمكنوا من فرض تسوية الدوحة. هذه أبرز المحطات التي تمكن فيها تحالف أمل وحزب الله من استثمار الموقع الطائفي الذي يُطالب بري اليوم بمباشرة التفكير في الغائه، وهو ما يُعزز الاعتقاد بأن طرحه هو من قبيل الرد على المطالبة ب «الغاء شرعية سلاح حزب الله». وما يعزز أيضاً القناعة بأن السلاح صار جزءاً من الطائفية السياسية. وللقائلين، بحق، بإقليمية السلاح، وبانعدام قيمة المعطى المحلي في وجوده أو عدم وجوده، لا بد من الإشارة الى ان الطائفية نفسها تحولت الى معطى إقليمي وتجرى فيها استثمارات كبرى غير محلية. العجز الذي كشفته مناقشات البيان الوزاري حيال معضلة السلاح في لبنان يدفع الى بداية تفكير مختلف في شأنه. فقد جربت أساليب كثيرة بدءاً من الوسائل القانونية والانتخابية ووصولاً الى «الطلاق» الذي لوح به الإبن الضال للبوشية وللعروبة في آن وليد جنبلاط. وكل الوسائل لم تؤت نفعاً، فالسلاح أقوى من الجميع، وهو ليس سلاحاً منزوعاً من سياقه الداخلي، انه ابن هيكلنا، وإن كنا لا نستطيع حياله شيئاً. لم يُساور لبنانياً وهم بأن البيان الوزاري سيضمن إشراف الدولة على سلاح حزب الله، وإذا كانت رغبة من اعترض على هذا السلاح فعلية، لا مجرد «مزايدة» على ما وصفها ميشال عون، فعليه ان يعرف ان الطريق طويلة، وعليه ان يتخفف من تحفظاته الطائفية والمناطقية، وأن يُباشر هجوماً إيجابياً يُشعر فيه من يتحصن السلاح بهم ان لبنان يتسع لهم من دونه. وربما كانت بداية الطريق الى ذلك ما طرحه بري من دون ان يدري.