الواقع العربي، والمشرقي منه تحديداً، تحيطه مخاوف وهواجس ومخاطر التفتيت والإنهاك الداخلي المستمر. ألقت تلك المخاوف بظلالها بعد الغزو الامريكي للعراق.. وتفاقمت مع تطور الأحداث في الثورة السورية، التي يختلط فيها التحالف السياسي بالاستراتيجي بالطائفي لوأد الثورة السورية بشكل يصعب الفصل بين تلك المكونات. ثمة محاولة لبناء جدران عازلة تخترق المنطقة العربية.. فهل هناك مشروع لوضع المنطقة على تماس مع نزاعات طائفية وأثنية تبدد ما تبقى لها من قوى؟ المقروء اليوم في هذا المشهد الدموي أن ما يشكل حلفاً للمقاومة والممانعة أصبح حلفاً لعزل الأكثرية وتوفير بيئة قاتلة تجعل الصراع القادم في المنطقة على الهويات الصغرى بعد تدمير وتحطيم الهوية الكبرى الانقسام المذهبي في المشرق العربي لم يكن له ذلك الحضور او التأثير حتى نهاية السبعينيات الميلادية من القرن الماضي. الأحزاب القومية والوطنية واليسارية في العراق أو لبنان أو سورية كانت تعج بجيل تجاوز الطائفي والاثني. إلا أن مولد الجمهورية الإسلامية الايرانية، وفشل النظام القومي العربي.. ساهما بشكل كبير في نمو الأحزاب والتكوينات ذات المرجعية الدينية الطائفية. لقد رأينا هذا في العراق وفي لبنان وفي كل منطقة يمكن أن يستثمر فيها النظام الإيراني التنوع الطائفي في المنطقة العربية. المرحلة الأخطر التي تمر بها مسألة الاصطفاف الطائفي، ما نراه اليوم في سورية. الحلف المقاوم لحقوق الأكثرية وصل إلى حد مكشوف في عملية واسعة تستهدف التدمير والتهجير والتطهير.. وربما ترتب عليه تغيير ملامح ديموغرافية للأبد يجعل من الأكثرية مشتتة ومنقسمة ومعزولة ومُهجَّرة، ومن الأقلية سلطة قهر معممة على ما تبقى من أكثرية مسحوقة منهكة يتوزع ما تبقى منها في مناطق محاصرة أو يتعرض للتهجير المستمر .. وكأننا أمام مشاهد نكبة جديدة. المواجهة في سورية اليوم ليست مواجهة بين نظام دكتاتوري وشعب أعزل خرج منذ أكثر من عام يطلب إنصافه وحريته وكرامته وحلمه بمغادرة هذا الكابوس الذي طال لأربعة عقود. النظام الدكتاتوري مهما بلغ تسلطه وقسوته وعنفه لايمكن له أن يصل إلى مرحلة تدمير مقومات الحياة والقتل على الهوية والتهجير الجماعي. هناك ما هو أبعد وأخطر. هناك محاولة للاستيلاء على سورية كما تم الاستيلاء على العراق. هناك اليوم محاولة محمومة لبناء الجدران العازلة والملتهبة والمضطربة لأمد طويل. إن من أصعب الأمور على من يحلم بأوطان بلا نزعات طائفية تزرع الخوف والقلق والتوجس.. يستعيد فيها المواطن العربي ملامحه كإنسان قبل أي شيء آخر... أن يرى مسار التطورات يقود المشرق العربي إلى صراع على الهويات الطائفية.. وهي من أخطر الصراعات، وأكثرها تعقيدا وأكثرها ميلا للتقسيم والتفتيت والانهاك المتبادل. قدم الغزو الأمريكي للعراق الفرصة المثالية لتعزيز النفوذ الطائفي، وغذى صراعا طائفيا تحت أوهام الديمقراطية. مارست الاحزاب الطائفية دورا خطيرا في إسقاط العراق في حضن الطائفة. هل كان المخطط ينطوي على تقسيم المشرق العربي إلى مناطق نفوذ ذات سمة طائفية، لتبقى الضمانة أن يظل في عهدة الاخضاع إلى الابد.؟ لقد اختُطف العراق من عهدة نظام سلطوي لا يحمل مرجعية ذات هوية طائفية، إلى عهدة نظام ضعيف ذي نزعة طائفية. ألا توحي التطورات أن ترحيل العراق لحكم الطائفة بعد حكم الدكتاتور كان هدفا أمريكياً - إسرائيلياً إيرانياً؟! ظل نظام صدام حسين يترنح تحت وطأة سنوات الحصار. كان الغزو الامريكي عملا استباقيا يحول دون استيلاء الجيش العراقي على الحكم، وهو الاحتمال السيئ للأمريكان والاسرائيليين والايرانيين معا. ألم يكن هذا لو حصل يعني إعادة تأهيل العراق على نحو مختلف؟.. وعندها ستذهب الفرصة السانحة لإعادة رسم ملامح دولة عراقية تتجسد اليوم بهذا الوضع الأقرب إلى حالة الدولة الفاشلة المنقسمة على نفسها. جاء الغزو مشروعا استباقيا لا علاقة له بالقاعدة وأكذوبة اسلحة الدمار الشامل. كان المطلوب ليس رأس النظام العراقي.. كان المطلوب حينها تغيير الحكم جذرياً في العراق، كانتون كردي منفصل مقنن دستورياً، ودستور يدفع للفيدرالية والتقسيم مستقبلا.. كان مشروعا للتفتيت والتقسيم حتى لا تقوم للعراق قائمة. ألم يكن يشكل هذا الضمانة الكبرى لأمن اسرائيل؟ كان المطلوب تحييد العراق العربي من مشهد الصراع العربي - الاسرائيلي وإلى الأبد. وإذا كان بناء عراق عربي قوي ظل هاجسا مقلقا لإسرائيل، فإن رعاية نظام طائفي يعزل العراق عن امتداده الطبيعي ويحول دون تلاقيه مع الأكثرية العربية المتجانسة في بلاد الشام حتى فلسطينالمحتلة.. يشكل هدفا استراتيجيا لأمن اسرائيل. أما في سورية، فقد كانت مسألة التدريع الطائفي للنظام سابقة، وبدأ العمل عليها بالتعاون مع النظام الايراني بوقت مبكر. كان الأسد الأب يدرك أن حكم الطائفة في سورية مهدد من أكثرية عربية سنية، ومن خلال شبكة تحالفات معقدة استطاع أن يجهض حركة معارضة مسلحة معزولة يقودها الاخوان المسلمون بعد تدمير حماة عام 1982. لم يتوانَ الأسد الأب من استثمار الثورة الايرانية التي جاءت بالخميني وكرست مفهوم الدولة الدينية المذهبية في حكم ايران. كان يدرك أن نظامه في مهب الريح دون هذا المدد الذي يجمع بين أطراف تستعيد المظلومية الطائفية لتقتص من التاريخ. وجد ضالته في الطائفة الشيعية اللبنانية، حيث أُوقظ الحس الطائفي لدى جيل جديد بدأ ينهمر من حوزات ومراكز الإعداد والتكوين في طهران وقم يحمل معه مشروع الطائفة تحت عنوان المقاومة. وما أبهر وأكثر ألقاً من عنوان المقاومة. كانت استراتيجية بناء حزب الله تقوم على ثلاثة عناصر: مقاومة محدودة لإسرائيل لتحرير جنوب لبنان، تُمكِّن الحزب من بناء قوة عسكرية ضاربة، وتنظف الجنوب اللبناني من القوى الفلسطينية، وتمكنه من بسط نفوذه وسيطرته على الارض. مشروعية المقاومة قدمت مشروعية السلاح ومن ثم السيطرة بالتحالف المرحلي مع بعض القوى المستفيدة من نفوذه وحمايته على القرار في لبنان. أما العنصر الثاني، فهو تمكين النفوذ الإيراني في لبنان ووضع إيران على حدود إسرائيل في أي مواجهة تهدد النظام أو مشروعاته أو نفوذه في المنطقة. أما العنصر الثالث فهو دعم نظام الأسد من أية مخاطر تهدده، خاصة وهو يعتمد على نفوذ أقلية وتحالفات هشة في الداخل لا يضمن ولاءها المستمر. عملياً، ليس هناك حزب بعث حاكم في سورية اليوم. لقد غادر الحزب مواقعه في سورية منذ السبعينيات عندما بدأ نظام الأسد الأب سعيا محموما لتغليب نفوذ الطائفية / الأقلية على مفاصل المؤسسة الأمنية والجيش. سقط الحزب في العراق في قبضة العشيرة، وسقط في سورية في قبضة الطائفة. عندما شعر النظام السوري في الأسابيع الأولى باستحالة مواجهة متظاهرين سلميين حركت أحلامهم بالتحرر موجة الانتفاضات والثورات الشعبية في البلدان العربية في تونس ومصر وليبيا واليمن.. تفتق عقله عن تحويل تلك المواجهة إلى حالة صراع مع جماعات مذهبية وعصابات إجرامية.. لقد حانت إذن ساعة مواجهة الأكثرية - مع العمل على تحييد الأكراد والطوائف الاخرى - بحرب قاصمة تبدد قواهم وتعزلهم وتفرقهم وتهجرهم وتشتت شملهم وتجعل ما تبقى منهم جزراً معزولة تفتقر لأدنى درجات القدرة على مواصلة حياتها، ناهيك عن قدرتها على مقاومة النظام. ثمة محاولة لبناء جدران عازلة تخترق المنطقة العربية.. فهل هناك مشروع لوضع المنطقة على تماس مع نزاعات طائفية وأثنية تبدد ما تبقى لها من قوى؟ المقروء اليوم في هذا المشهد الدموي أن ما يشكل حلفاً للمقاومة والممانعة أصبح حلفاً لعزل الأكثرية وتوفير بيئة قاتلة تجعل الصراع القادم في المنطقة على الهويات الصغرى بعد تدمير وتحطيم الهوية الكبرى..