بالأمس كانت الذكرى السادسة لاغتيال الرئيس السابق للحكومة اللبنانية رفيق الحريري، هذ الحدث الذي كان وراء نشوء ما سمي لاحقاً ب « 14 آذار»، الجماعة التي تشكلت بفعل الحدث، او بذريعته، والتي اكتسبت اسمها من التاريخ الذي قرر فيه لبنانيون من طوائف مختلفة النزول إلى الشارع على نحو سلمي والمطالبة بانسحاب الجيش السوري من لبنان. ست سنوات مضت على واقعة الاغتيال وعلى تشكُّل الجماعة اللبنانية الأكبر والأكثر تمثيلاً، اذا ما قيس التمثيل في لحظة النزول إلى الشارع في ذلك اليوم. لكن الجماعة تلك لم تعد أكثرية اليوم، اذ تمكن خصومها، الذين هزمتهم في انتخابات العام 2009، من تصديع هذا التحالف العريض، معتمدين على السلاح الذي يحوزونه ولا تحوزه من جهة، وعلى قدرة هائلة لدى قيادة «14 آذار» على مراكمة الأخطاء، وعلى تعمُّد السقوط فيها من جهة أخرى، بما يشبه مازوشية جماعية مارستها الحركة بحق نفسها وبحق جمهورها، فبدا سلاح الخصوم والحال هذه منسجماً مع تطلب الألم الذي يفرضه حال المازوشي حيال معذبه. اليوم تأتي الذكرى حاملة معاني جديدة للمراجعة، اذا ما كان هناك رغبة في المراجعة، ذاك ان ما تبقى من «14 آذار» يملك فرصة مختلفة هذه المرة، او قل فرصة أخيرة، تتمثل في نقل الهاجس من مستواه الذي كابده طوال 6 سنوات وفشل في تظهيره بصفته هاجساً وطنياً جامعاً، الى مستوى جديد لا يكتفي في اقتفاء أثر عناصر الفشل السابق ليتجاوزها، انما يستلهم عِبَراً جديدة من أحوال مجتمعات ودول تمكنت من إحداث تغيير سريع في أوضاعها، على رغم انه من المبكر الحكم على شكل هذا التغيير. ما تعرضت له «14 آذار» في السنوات الست من عمرها لم يكن قليلاً، اذا ما قمنا بمراجعة سريعة لما أصابها، لكن ذلك لن يعفيها من مقدماتِ تعثُّرٍ بدأت في اليوم الثاني لخروج المتظاهرين اللبنانيين في ذلك النهار، لا بل إن هذا التعثر كان المقدمةَ الفعلية التي مهدت للاستهداف، ففي اليوم الثاني للتظاهرة، انتبه المشاركون بعد ان عادوا الى منازلهم ان جزءاً من اللبنانيين لم يكن معهم في ذلك اليوم، وغالبية ممن شعروا بذلك حاولوا السهو عن هذه الحقيقة، مستعينين على ذلك بالنشوة التي خلفتها الكثرة. كان خطأ مؤسساً، اذ إن من سهت «14 آذار» عن دعوتهم ومخاطبتهم هم تماماً النواة التي شرع خصومها بالبناء على غيابهم عن تظاهرتها، ونجح الخصوم بالمهمة في النهاية. لم تكن مهمة دعوتهم سهلة طبعاً، لكن محاولةً لدعوتهم لم تَجْرِ على الاطلاق. كاتب هذه السطور سأل يوماً أحد قادة «14 آذار» عن مضمون الخطاب الذي ترغب تلك الجماعة بمخاطبة الغائبين عن تظاهرتها من اللبنانيين به، فلم يجد جواباً، لا بل ان أجوبة أخرى شرعت تظهر، منها «أننا نخاف منهم كما هم يخافون منا»، او «نحن نحترم اختيارهم حزب الله لتمثيلهم، ونود مفاوضة قوتهم التمثيلية»، الى ان وصل الأمر ب «قائد 14 آذار» في حينها وليد جنبلاط الى الحديث عن طلاق مع هذه الجماعة. وكم كانت فعالية هذا الكلام في مصلحة حزب الله في حينها. لقد بدأ البناء على غياب هؤلاء عن التظاهرة، ونجح حزب الله في الاستثمار بالخلاف مع ميشال عون، فضم الى الغائبِين الأُوَل منسحبِين جدداً من التظاهرة. اذاً فقدت ساحة الشهداء العونيين، وبعد ذلك جاء التحالف الرباعي (المستقبل – الحزب الاشتراكي- حركة أمل – حزب الله) في الانتخابات النيابية في العام 2006. وجاء هذا التحالف من خارج صيغة التظاهرة، التي جمعت أطيافاً أخرى. إنه الخطأ الثاني المؤسس أيضاً، والذي فقدت بعده الأخطاء قيمتها التراتبية، واندرجت في سلسلة من الأخطاء المتناسلة التي يبدو تعدادها اليوم أمراً نافلاً، إلا إذا كان ذلك من قبيل جلد النفس الذي تُمعن جماعة مازوشية في ممارسته حيال نفسها. اليوم «14 آذار» في وضع مختلف تماماً، وعلى رغم الوهن الذي يستبطنه موقعها الجديد خارج السلطة، والخيبات التي خلفها أداؤها في السنوات الست المنصرمة، إلا ان فرصة كبيرة تلوح أمامها، فرصة قابلة للتبديد على قدر ما هي قابلة للاستثمار. الفرصة تتمثل في أنها من موقعها الجديد خارج السلطة، تملك قدرة مختلفة على الاستقطاب وتحويل القدرة من مضمونها الطائفي الواضح والجلي الى مضمون وطني، وهو الشرط الأساسي لتفادي تكرار الخطأ، لا سيما وأن العناوين التقليدية التي بدأت تلوح يعوزها قدر كبير من الجهد لنزع مضمونها الفئوي، أي المحكمة الدولية. هذا العنوان الذي نجح «حزب الله» في تحويله «فئوياً» يحتاج الى عملية تظهير مختلفة لمخاطبة الآخرين. هذه المهمة تبدو اليوم مستحيلة في ظل «14 آذار» فئوية، في ظل وجوه فشلت في الحقبة السابقة، وما زالت الى اليوم ممعنة في تصدر هذه الجماعة وفي تمثيلها. ثم ان عنوان المحكمة وحيداً لا يبدو كافياً لبناء مشروع يُقترح على اللبنانيين بصفته خروجاً من ضائقتهم، لا بل ان المحكمة يجب ان تكون على هامش مشروع أكبر يطمح الى مخاطبة اللبنانيين على نحو ما خاطب المصريين والتونسيين مجموعةٌ من الشباب من خارج المتن السياسي التقليدي. قضايا الخصوم الكبرى قليلة الجاذبية في ظل ما جرى ويجري في المنطقة. المحكمة ربما سقطت في حقيقة تحولها قضية كبرى، وبناء خطاب سياسي جديد لا يأخذ بعين الاعتبار الحدثين التونسي والمصري بالمضمون والشكل سيكون ابتعاداً عن روح الزمن الجديد. «14 آذار» تملك الفرصة وهي خارج السلطة أكثر مما يملكها خصومها في السلطة اليوم. إبعاد الوجوه التي ساهمت بالفشل ضروري في البداية، ربما لا نملك القدرة على إبعادهم، وربما كان مفيداً ان ندعو الى ثورة ياسمين داخل «14 آذار» في البداية، نطيح فيها برموز الفشل، أولئك الذين كانت مهمتهم تحويل احتجاجنا الى «ثورة أرز فئوية». فهل في هذه الذكرى ثمة من يستطيع ان ينقل المهمة من مضمونها الفئوي الى مضامين سبقَنا اليها شبان مصر وتونس، علماً ان القول بالسبق اللبناني الى الياسمين لا يخلو من حقيقة.