ابن سلام الجمحي كتب عن طبقات الشعراء ، غير أنه كان للشعراء الذين كتب عنهم طبقات متصورة في ذهنه هو قبل كتابة (طبقات الشعراء) الذي قيّد فيه قوانينه في فرز الشعراء وتحويلهم إلى طبقات. فهل يصح الآن النظر في إمكانية الكتابة عن طبقات المذيعين؟ لماذا لا يصح؟ إنني أتصور أن هذا يمكن أن يتحول إلى مشروع معرفي بالاشتراك بين أطياف واسعة من المذيعين المتمرسين الكبار ، نريد هؤلاء -فقط- أن يقولوا لنا : كيف هي اشتراطاتهم في صرف هذا المسمى وتنزيله حيث ينبغي أن يكون. إننا باستقراء مجموعة من الآراء والتعريفات يمكن أن ننظر في تواتر المعيار وصفته ثم النظر في وجاهته العلمية وإمكانية تبريره أو تعديله أو الإضافة عليه أو حتى عدم قبوله. وأنا كنت أقول إنني لا أصرف هذا الاسم إلا إلى (العقل الذي يكون في مستوى اللغة لا ينقص عنها أبداً يفيض على اللسان الفصيح) غير أن هذا التعريف ينضاف إليه أن يكون الصوت مكتنزاً عريض المساحة -حتى المذيعات-. هذه احترازات للإبقاء على القيمة المعرفية المهنية وعلى ثبوت التفاوت بين : المذيع/ العقل المكافئ للغة ، ومجرد الصوت الطامح الذي لا ينبغي أن يتجاوز درجة الهامش. مع شديد الأسف ، الإعلام الإذاعي الجديد وحتى التليفزيوني أحياناً وقع في ورطة تحويل المذيع إلى صوت محاكٍ مع تحليته بمجموعة من المحليات المخادعة التي تقع في مكان النقيض من مفهوم : المذيع/ العقل. هذه المُحَلِّيات المخادعة ثمرة لتسفيه الشرط العالي لهذه الموهبة العالية. إنهم الآن يعطلون المفهوم لحساب نقيض المفهوم وهم يريدون أن يُشعروا الناس بعدم الاختلاف ، ونحن يمكن أن نعزو هذا إلى التفاوت الكبير بين العقل الإداري الذي يبسط يده على هذه المؤسسات الإعلامية النابتة والفهم المناسب لاشتراطات الكفاءة في مذيعيها. إ مكانية التقييم والفرز متعذرة لأن المعيار متعذر ، وإذا أحسنّا الظن فهو غير مراد ، وبالإضافة إلى هذا فإننا في مواجهة مع تتجير الإعلام الإذاعي والتليفزيوني أحياناً ، أي تحويله إلى تجارة ، وبتبع ذلك فإن الصوت الأعلى هو صوت الاستقطاب لا صوت الكفاءة ولا المعيار المهني. الذي يترتب على هذا أن تنتفي أناقة الموهبة الإعلامية وتتحول إلى فضول ووعي تراثي لا يكترث له ، والذي يترتب على هذا أيضاً أن تلتبس القيمة على الناس ، وأن تضل أفهام هؤلاء الإعلاميين المجترئين في إدراك إمكاناتهم. هذا طبيعي حين نحيد صرامة الاشتراطات. ليس القبول وحده شافعاً لوضع الناس في غير أماكنهم وجعل المفاهيم كلأً مباحاً لهؤلاء الصخابين.