ما رأيت متقمصاً لصفة أكثر تشبثاً بها من متقمصٍ لها وهو كاذبٌ أو جاهل أو محاكٍ أو أنه دون قدرها وقيمتها، هذه قاعدة لا يكاد يشذ عنها أحد، وهي غالبة لأن الصفات حين تكون متحققة لا تكون غرضاً ويصح النقيض. وأكثر ما تكون هذه الظاهرة عند المتأدبين. إنهم أحياناً يوقعوننا في الوهم أنهم أكثر ما يكونون شبهاً بأجدادهم الطفيليين. والتقليدية والحداثة من المفاهيم المخادعة الملتبسة التي تحولت إلى ما يشبه الأصنام المعنوية، وأنا أريد أن أتحدث عن التقليدية بوصفها مقابلةً للجمالية، ليست للحداثة. نحن وقعنا في الوهم أن التقليدية تقابلها الحداثة وهي مواطئات غير صحيحة -في ظني- وهو وهم قديم لأن المفهوم نفسه غير نزيه وغير محايد، أعني -في حسبانهم- مفهوم التقليدية، إنه في الواقع مفهوم عنصري منحاز وفيه تلبيس كبير، وهو يشبه إلى حد بعيد في عدم الحياد ما ننحاز إليه من ميولنا القبيلة. ليس هناك مفهوم معرفي اسمه التقليدية، ولذلك كنت أنظر إليه على أنه مفهوم مخادع ملتبس، هو حيلة لغوية للنفي ليس أكثر، وهو يعني في أذهان دهاقنته /عدم القيمة أو عدم الفهم أو عدم العصرية/ هذا كل ما في الأمر ولذلك فإنني سأتجاوز مسمى «التقليدية» إلى مسمى «اللاجمالية» في مقابلة «الجمالية» وأنا أتحدث الآن عن هذه المسألة بوصفها مسألة أدبية صِرفة، وعليه فالحديث عن الجمالية يعني الحديث عن اشتراطات معينة في تراكيب اللغة كما أن الحديث عن النقيض يعني الحديث عن عموم استعمالات اللغة. وأنا أذكر الآن نصاً كان قد نشره أحد منظري الجمالية في ملحق ثقافي شهير على أنه شعر وهو غارق في الركاكة والضعف وهُزال المعنى التخييلي، كنت حينها -قبل سنوات- أعيد قراءته وأنا أتعجب وأضحك من طغيان الفكرة عن النفس على الوجاهة الجمالية أو المبرر الأدبي. إننا نريد أن نتعامل حتى مع القيمة الأدبية بنزعة استحواذية (متمشيخة)، نحن نكاد نكون شيوخاً لغويين تارةً وجماليين تارةً أخرى. ذلك لأن في عقولنا تخليطاً لتاريخ قيمة اجتماعية متوارثة نكتسبها أو ننتزعها انتزاعاً مع قانون جمالي للغة. والذي نغفل عنه أو لا ندركه أن الجمالية لها قانونها الذي يستعصي على الإحاطة أو نزعات التملك البليدة. مفهوم التقليدية -إذاً- مفهوم غير صحيح، إنه لا يعدو كونه آلةً وحيلة بليدة للاستحواذ والإيهام والبلطجة. لاحظوا أنني لا أتحدث عنه من زاوية نظر فقهية، حتى في الفقه يريدون أن يقولوا لنا إن هناك فهماً تقليدياً وفهماً عصرياً عوضاً عن القول: إن تفاوت طباع الناس يقابلها تفاوت في قابلية النصوص للتأويل: ما كان قابلاً للتأويل/ وقابلية التأويل هذه تعد من روح التيسير الذي يعد أصلاً في الدين. بكل أسف صنم التقليدية الذي صنعه الخداع الثقافي لا يعني شيئاً أكثر من محاولة التنفذ الثقافي، إنه تنفذ الطفيليين، إنهم لا يكذبون ولكنهم يتجملون.