أما «داعش» فهي تبحث عن مكاسب سياسية وأوراق ضغط على الأوروبيين والأمريكيين عبر إظهار مواطنيهم ينفذون العمليات الانتحارية وكأنها تريد إيصال رسالة لهم من وراء ذلك مفادها «أننا باقون هنا ولم تنفعكم حربكم علينا طوال ثلاثة عشر عاما»، ولهذه الرسالة بعد بانورامي يمكن أن تستثمره إيران، ويمكن أيضا أن تستفيد منه موسكو باعتبارها راعيا لطهران، لكن هل بقت هذه الرعاية على حالها أم تغيرت بوصلتها بعد 10 يونيو 2014 وما قبلها حين قفزت إيران من الضفة الشرقية إلى الضفة الغربية لتوازنات المنطقة؟ لعلنا هنا ننشط الذاكرة قليلا ونسترجع حادثة هروب أكثر من 600 سجين من سجني التاجي وأبو غريب في عملية مسرحية من الإنتاج والإخراج الرديئين في يوليو 2013 وما أدى له هذا الهروب من إعطاء زخم أكبر للعمليات الميدانية التي تقوم بها «داعش» في العراق وفي سوريا، وبين هؤلاء السجناء الفارين أخطر المطلوبين الإرهابيين المنتمين ل «داعش» بينهم عضو مجلسها العسكري الآن عاصي العبيدي وكان عقيد ركن في الجيش العراقي السابق وغيره كثر. الفوضى المنظمة أو الخلاقة كما تحلو تسميتها للبعض، تتلخص في إيجاد ميليشيات مقاتلة على الأرض ذات عقيدة قوية تبرر قتالها وتحشد الاتباع لشعاراتها، وتكون كذراع لدول لها مصلحة من عمل هذه الميليشيات، ولنا نموذج مرخص رسميا لهذه الميليشيات وهي شركة بلاك ووتر الشهيرة، وأعتقد أن هذه السياسة طبقت مع تنظيم «القاعدة» في مراحل متقدمة من تكوينه، وربما كانت مطبقة لتهيئ الأرضية لتكوينه، ومن ثم أتت مرحلة تستدعي وجود تنظيم أكثر محلية وتخصص من شمولية تنظيم القاعدة فأنتجت هذه السياسة تنظيمي «داعش» وجبهة النصرة وهما مولودان من رحم القاعدة لكن «داعش» حسب ما يظهر عاق لأمه. قبل أن تصل داعش وأخواتها مثل جبهة النصرة لأي مكان، هناك من يسبقهم إلى هذا المكان ليهيئ الأرضية لتترعرع هذه التنظيمات فيه، وهذا تطبيقا لما ورد في كتاب انتشر بين عناصر تنظيم القاعدة عام 2004 سمي بإدارة التوحش لمؤلفه أبو بكر ناجي ولا أعتقد أن هذا الاسم لشخص إنما لجهة تختبئ خلف هذا الكود المخابراتي، فحجم النظريات الأمنية التي وضعت في هذا الكتاب ليست اجتهاد فرد، وإنما عمل لفريق كل فيما يخصه، وقد ذكر في الكتاب آنف الذكر أهمية خلق جيوب فوضى غير آمنة لتترعرع الفصائل المنبثقة من تنظيم «القاعدة» وكان الهدف حينها السعودية لكنها فشلت في ذلك فاستقرت في العراق لربما تتحين الفرصة للعودة مرة أخرى. «داعش» ليست تنظيما فكريا كما كانت «القاعدة» بل هي تنظيم سياسي ليس له ثوابت، فكل سياساته متغيرة طبقا لمصلحة من يرعاه، وعندما رفض «البغدادي» تعليمات الظواهري لم يكن ذلك سوى إعلان أن «داعش» شبت عن الطوق، وأصبحت مستقلة عن تنظيم «القاعدة» وأن لها طريقا مغايرا لتنظيم «القاعدة» لكنه مواز له في الاتجاه إلى الشر، ورغم الانتشار الذي حققته «القاعدة» حينها إلا أنه يبقى محدودا أمام انتشار «داعش» الذي ساهمت فيه بشكل كبير جدا وسائل التواصل الاجتماعي حيث حضورها القوي. ولعل إبراهيم عواد البدري المعروف ب «أبو بكر البغدادي» زعيم «داعش» نسخة مكررة من دور قام به الدكتور محمود غول أغاسي المعروف ب «أبو القعقاع» الذي اكتشف بعد مقتله في سبتمبر 2007 في مدينة حلب السورية أنه ضابط في المخابرات السورية برتبة مقدم بعد دوره في تحريض الشباب العرب على الانخراط في صفوف تنظيم «القاعدة» حينها، إلا أن الأكيد أن من يقود «داعش» الآن هم عسكر محترفون في التخطيط العسكري لحرب العصابات في المناطق المغلقة والمكشوفة. تسعى «داعش» لاحتلال أراض لتكون أوراقا يساوم عليها ويجني ثمارها، ولنا نموذج فيما حدث في دير الزور السورية حين سيطرت على آبار النفط، وصارت تبيع مشتقاته للنظام السوري الذي يفترض أنه عدوها، وتشتبك مع جبهة النصرة في درعا، وتتحالف معها في دير الزور. سرعة اندفاعة داعش لاحتلال بعض المراكز الحدودية العراقية مع سوريا، لا يستطع أي تنظيم أن يقوم به بهذا النجاح إلا من يعلم بتفاصيل الطبوغرافيا التي يقاتل عليها المقاتل، وهذا يرجح أن قيادة «داعش» تستعين بأفراد من القبائل العراقية كأدلاء كل في مناطق قبيلته، وربما يكون هذا العمل المشترك بدافع مادي بحت أو ربما يكون على قاعدة من يسعى لتحرير أرضي ساعدته في تحقيق ذلك، وبعدها لكل حادث حديث. تستغل «داعش» وأخواتها الكامن في العقل الجمعي للمجتمعات العربية المحافظة، وتصور لهم أن قضيتها وأهدافها دينية بحتة، ما يدفع بعض الشباب بحماس للانضمام في صفوفها ويجعل الأمر يبدو وكأن هناك مؤامرة تحاك ضد دول المنطقة و«داعش» وأخواتها هي رأس حربة الخلاص منها ودحرها. حققت «داعش» نتيجة ما قامت به من قتل في سوريا، وبعض الحوادث القليلة إلى الآن في العراق، وجميعها تصنف أنها مجازر، من إيجاد حالة من الرعب في أوساط المدنيين في كل منطقة ينوون التحرك إليها، وهذا انعكس على وسائل الإعلام في تغطيتها لما يجري في العراق، الأمر الذي أدى لضبابية المشهد أمام كثير من متابعي ما يجري هناك. كان ل «داعش» حضور بين أبناء العشائر العراقية فترة الاحتلال الأمريكي، ما جعل من هذه العشائر حاضنة لها، ومن مناطقها مقرا وانطلاقا لعملياتها، والحقيقة أن تركيبة الشخصية العراقية تسمح بمثل هذا التمازج الذي ربما يدهش البعض، لكنه من باب تبرير التحالف مع الشيطان في سبيل تحرير الوطن من الاحتلالين الأمريكي والإيراني. ستقدم «داعش» على عمليات انتحارية على الأراضي اللبنانية للشحن الطائفي هناك ما سيساهم في خلق بيئة مشابهة لبيئتها في العراقوسوريا وذلك لإيجاد مبرر لاستيلاء حزب «الله» على السلطة تحت ذريعة الحفاظ على الأمن خصوصا في ظل الفراغ الرئاسي الذي يعيشه لبنان ولترسل رسالة ربما من رعاة «داعش» أننا إذا خسرنا شيئا في العراق فإننا سنستولي على كل شيء في لبنان. صناعة الهالة حول التنظيمات «المعتمة» ومنها «داعش» التي بدأت في نوفمبر 2011 على الأراضي السورية، وعملت على صناعة الرعب والموت منذ ذالك الحين ولا تفرق بين مدني ومقاتل، هي صناعة تجيدها مخابرات دول وليست اجتهادات أفراد حملتهم الحماسة لدينهم أو طائفتهم أو أرضهم لخلق مثل هذه التنظيمات معقدة التكوين. وفيما تظهر «داعش» أنها فصيل يشمل كافة دول الهلال الخصيب، من اسمها المبدئي «الدولة الإسلامية في العراق والشام» ومن سلوكها على الأرض إذ نجدها تنظيميا في كل هذه الدول باستثناء الأردن التي رأينا فيها مؤخرا من أظهر تعاطفا معلنا معها، تأتي جبهة النصرة كمتخصص في الشأن السوري تكوينا وعملياتيا. وتبقى جبهة النصرة متخصصة أكثر من «داعش» في الشؤون السورية حيث يغلب على عناصرها المواطنة السورية، وعملها مواز لعمل «داعش» في سوريا، ولو تمعنا في تاريخ انطلاق عمليات «داعش» في سوريا لوجدناه يكاد يكون متزامنا مع انطلاق عمليات جبهة النصرة، فمن المعلوم أن مؤسس جبهة النصرة «أبو محمد الجولاني» كان سجينا مع ثلاثة من رفاقه في سجون الأمن السياسي في صيدنايا التابعة للنظام السوري وقد أفرج عن الرفاق الأربعة بعفو رئاسي بتاريخ 31 مايو 2011 ليؤسسوا في نهاية العام أكبر أربعة ميليشيات مسلحة بعقيدة متطرفة دينيا لا تنظر للقضية الوطنية التي ثار من أجلها الشعب السوري، وهي لواء الإسلام ولواء صقور الشام وجبهة النصرة ولواء أحرار الشام. إلا أن زعيم جبهة النصرة «أبو محمد الجولاني» ذهب إلى العراق فور خروجه من السجن وقبل إعلان تشكيل فصيله، واختفى فترة هناك ثم عاد وأعلن تشكيل جبهة النصرة، ويفسر غموض هذه الزيارة التي قام بها الجولاني إلى العراق ما أعلن بعدها تشكيل هذه الفصائل المتطرفة ودخول «داعش» إلى الأراضي السورية، وقد تم هذا كله في فترة لا تتجاوز الستة أشهر. إن تنظيم «القاعدة» ومواليده مثل «داعش» وجبهة النصرة هي بنفس الملامح ونفس السلوك وبأساليب خاصة ومتعددة لكل منهما حسب المصالح التي تحكم رعاتهم، وهنا نستطيع أن نقارن بين تنظيم «القاعدة» ومنتجاته وبين الماسونية ومنتجاتها، ولكل منها منتج في مرحلة معينة من الزمن وحسب حاجة من يقفون خلفهما لهذا المنتج استجابة لظروف المرحلة لتحقيق الهدف. ما حدث ويحدث في منطقتنا العربية من صراعات طائفية هي فقط للاستهلاك العربي، ولو كانت حقيقية لرأينا الأتراك والإيرانيين منخرطين فيها، لكنها تبقى في نطاق استهلاك الشعوب العربية فقط. إذن عمل هذه التنظيمات هو وفق خطط لفرض أجندات سياسية، وليس كما تدعيه قيادات هذه التنظيمات أنها حرب طائفية، وإلا لما تخلف الإيراني عن مناصرة أبناء طائفته الشيعية، ولما تخلف التركي عن مناصرة أبناء طائفته السنية. سبق أن قال نابليون بونابرت «مثل من باع بلاده وخان وطنه.. كمثل الذي يسرق من مال أبيه ليطعم اللصوص فلا أبوه يسامحة ولا اللصوص يكافئونه» أجزم أنهم لا ينظرون إلى القضية من هذه الزاوية وإلا لما كان هذا حالهم، فهم يرون فيها نصرة للدين ما يجعلهم يتغاضون عن كل ما يرونه مناقضا للدين يقترفه قادتهم أمامهم لأنهم لا يريدون أن يصدقوا هواجس بعضهم ممن فتح الله على بصيرتهم متأخرا وفي هذا الخصوص هناك مقولة لونستون تشرشل تطابقها تمام حين قال «لا يوجد أسوأ من أن توجه رسالة سليمة إلى الجمهور الخطأ».