الشروق - القاهرة (1) عانق أصدقاءه واحدًا تلو الآخر، بينما يغني أحدهم بصوت جميل يحبه في القرآن والإنشاد. نشيد اليوم مبهج بما يليق حقًا بيوم زفافه الذي انتظره طويلاً. "زفو الشهيد بجرحة بدمة بثيابه"، يقولها المغني بنغمة سعيدة، فيرد الجميع "الله الله الله". "عطر جبينه إياكم تنفضو ترابه .. الله الله الله" "زفوا الشهيد لبيته الثاني في الجنة .. الله الله الله" يرفع على سيارته علم جبهة النصرة، بينما تتأخر السيارات التالية له. عند الحاجز يلتقي بأعضاء لواء التوحيد، أهم تنظيم عسكري في حلب. يخبرهم أنه مبعوث من جبهة النصرة للقاء قيادة اللواء. يسمحون له بالمرور، وكذلك تفعل باقي الحواجز واحداً تلو الآخر. يقترب من مبنى مدرسة المشاة حيث يوجد أعضاء هيئة أركان لواء التوحيد. استنشق نفسه الأخير، وردد الشهادة للمرة الأخيرة. فكر أنه الآن ذاهب إلى رسول الله، سيراه أخيرًا، سيفتخر أمامه بما صنع من أجل الإسلام فيتبسم له الرسول ويعانقه.. أسعدته الفكرة، فابتسم بينما يضغط على زر التفجير بيد ثابتة لم ترتجف لحظة... (2) حسين الديك - قائد لواء فجر الإسلام أحد ألوية صقور الشام عدنان بكور - قائد لواء التوحيد حمدو الباشا - قائد لواء شهداء إدلب 3 أسماء يعرفها كل متابع للقتال في سوريا، اغتالهم تنظيم الدولة الإسلامية في 3 عمليات منفصلة يوم السبت الماضي، 1 فبراير. جيش بشار الأسد المهيب المدعوم من روسيا وإيران وحزب الله عجز منذ عامين عن مس شعرة من أحدهم، واغتالهم تنظيم داعش في يوم واحد، ومن فعلها كان على يقين كامل أنه يفعل ذلك لأجل الإسلام، وأنه ذاهب إلى الجنة رأسًا. لا يوجد على ظهر الأرض من بَلَغ يقينه المطلق هذه المرحلة. (3) أبو سعد الحضرمي يحاول أن يجد وضعًا مريحًا، بحيث يستطيع أن يجلس دون أن تؤلمه قيوده الكثيرة في يديه وقدميه. يفكر أبوسعد طويلا: ما هو الخطأ الذي حدث؟ متى كانت البداية يا محمد؟ ينتبه لأنه يحدث نفسه باسمه الذي كاد ينساه. مضى زمنٌ طويل منذ كان محمد سعيد العبدالله يعمل حدادًا، ويرعى عائلته الصغيرة الهادئة. اندلعت الثورة وشارك في المظاهرات بينما يحلم بمستقبل سعيد مثل إسقاط مبارك في مصر، لكن طائرات جيش بشار قصفت المستقبل بالبراميل المتفجرة. مثل غيره قرر رفع السلاح بعد أن انغلق أي طريق غيره، لكنه - ليس مثل غيره - قرر الانضمام إلى تنظيم القاعدة. هم الأكثر صدقًا وشراسة في قتال أعداء الإسلام . لقد وجد فرصته اخيراً لتطبيق الجهاد، كم حلم في يقظته بأن يسافر إلى أحد الثغور في فلسطين أو الشيشان أو العراق، فإذا بالجهاد يأتي حتى باب منزله. انضم محمد إلى الدولة الإسلامية في العراق والشام، بمجرد إعلانها في إبريل 2013، وغير اسمه إلى أبوسعد الحضرمي، وبايع الأمير أبوبكر البغدادي على السمع والطاعة فيما أحب وكره. "سأعيش حتى أرى أبوبكر البغدادي أميرًا على دولة الخلافة الممتدة من الصين إلى الأندلس"، فَكَر أبوسعد. أدى تفوقه الواضح في القتال وتحقيقه انتصارات ميدانية هامة، إلى تعيينه أميرًا على ولاية "الرقة". لكن الفتنة أتت فجأة. أصدر الظواهري أمره للبغدادي بالانسحاب من سوريا وتركها لجبهة النصرة، فاستجاب سعد لأمر أول من استمع إلى تعليماته الجهادية، وأعلن انضمامه إلى جبهة النصرة. رأى أبو سعد أن هذا هو القرار الصائب، فأهل سوريا - كأهل مكة - أدرى بشعابها، وهو كان يشعر بإثم شرعي حين يفكر في مخالفة بعض ما أمر به البغدادي، مثلاً ربما كان يتمنى الاكتفاء بفرض الحجاب فقط، وليس النقاب أيضًا. كان يعرف والد إحدى الفتيات اللاتي تم جلدهن بسبب كشف وجوههن. لم يتدخل لحمايتها، لأن رسول الله قال "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها". المسلم الحق هو من يلغي تماماً عقله وهواه أمام كلمة الشرع الحاسمة. كان مذهولاً بينما جنوده السابقون، الذين رأى معهم الموت، وبكى معهم من خشية الله، يلغون عقولهم وهواهم بدورهم، فيقبضون عليه ويقيدونه بهذه القسوة. كان مذهولاً بينما يحضر قرار المحكمة الشرعية التي طالما حكمت على أعدائه، أعداء الإسلام، ورأت المحكمة - بالآيات والأحاديث الصحيحة - أنه مرتد كافر، وإن صلى وصام وجاهد، فقد نقض بيعته مع الله ورسوله. كان مازال يبحث عن وضع مريح حين تقرب أحد جنوده السابقين إلى الله بمنحه الراحة الأخيرة ... (4) "وما أدراكم من أبو بكر؟! إن كنتم تتساءلون عنه؛ فإنه حسيني قرشي من سلالة آل البيت الأطهار، عالم عامل عابد مجاهد... وقد عركته المحن وصقلته الفتن في ثماني سنين جهاد يسقي من تلك البحار، حتى غدى جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب، حري به أن يُتقرب إلى الله بالغسل عن قدميه وتقبيلها، ودعوته أمير المؤمنين، وفدائه بالمال والنفس والولد..." أبومحمد العدناني، المتحدث باسم داعش - من رسالة تعريفية بأبوبكر البغدادي (5) متى كانت البداية؟ البداية القريبة معروفة وملخصها المختصر معروف: أبومحمد الجولاني، أحد أهم كوادر القاعدة في سوريا، شارك في القتال ضد القوات الأمريكية، تركز نشاطه على تهريب المقاتلين من كل الجنسيات إلى العراق عبر سوريا، اسمه الحقيقي مجهول تماماً، ولم ير أحد وجهه أبداً. حتى في اجتماعه مع مجلس شورى الجبهة الإسلامية حَضَر ملثماً، وتولى أمراء النصرة تأكيد شخصيته للحضور. عاش الجولاني تجربة القاعدة في العراق، والتحول الذي جرى منذ 2006 بعد مقتل أبومصعب الزرقاوي بإعلان "دولة العراق الإسلامية"، وما تبع ذلك من تطبيق "الدولة" لحكمها ولو على أصغر قرية تسيطر عليها، والتوسع في التكفير والقتل لكل من يعمل في الحكومة بأي شكل، مما أدى في النهاية لقتال داخلي خاضته حركات المقاومة السنية مثل جيش الراشدين، وكتائب ثورة العشرين، والجيش الإسلامي في العراق، وحماس العراق ضد القاعدة حتى 2008 التي شهدت تجربة صناعة "الصحوات"، حيث مولت أمريكا والحكومة العراقية ميليشيات عشائرية، ومدتها بالسلاح لتقاتل القاعدة في مناطقها، وهو ما أدى لانحسارها إلى حد بعيد. في 2008 تمكن النظام السوري من اعتقال الجولاني في معتقل صيدنايا الشهير، ثم صدر قرار مفاجيء بالإفراج عنه بعد الثورة مع عدد كبير من المعتقلين الجهاديين، (لا يعني هذا أبداً أنهم عملاء للنظام أو تمثيلية، بل هم أداة يستخدمها والفارق كبير!) وفوراً ذهب إلى العراق ليستعين بالأمير أبوبكر البغدادي، الذي قرر "مناصفة بيت المال"، فمنحه الرجال والتمويل والسلاح، ليبدأ فرعاً لتنظيم القاعدة بسوريا، وأطلق عليه اسمه "جبهة النصرة"، في إشارة لترحيبه باستقبال المقاتلين الأجانب من مختلف الجنسيات، عرب وشيشانيون وأفغان وأوزبك وحتى أوروبيون، ويُطلق عليهم اسم "المهاجرون"، بينما السوريون هم طبعاً "الأنصار". بدأت جبهة النصرة عملياتها بتفجير سيارة مفخخة في حي الميدان بدمشق، أسقط 25 قتيلاً أغلبهم مدنيون، وقال بيان الحركة إنهم استهدفوا "باصات تنقل الشبيحة". أدانت التنظيمات الأخرى هذه العملية واعتبرتها بعضهم إرهابية، فتوقفت النُصرة عن هذا الأسلوب. حققت الجبهة انتصارات باهرة واضحة، خاصة مع استعداد أفرادها دائماً لتفجير أنفسهم لتسهيل اقتحام مقرات جيش بشار. لكن تنظيم القاعدة في العراق لم يعد راضياً عن أداء الجولاني، فهو يعطي أولوية للسوريين داخل صفوفه، كما أنه لم يعلن بيعة الدولة الإسلامية. كان لافتأ أن بيان تأسيس جبهة النصرة في 24 يناير 2012 تحدث عن الجهاد "لدفع الصائل" أي الظالم، دون أي سيرة لإقامة دولة الخلافة. في 9 أبريل 2013 أعلن أبو بكر البغدادي، أمير دولة العراق الإسلامية، توسيع دولته لتضم داخلها جبهة النصرة، ويصبح المسمى المشترك هو الدولة الإسلامية في العراق والشام. هنا يسمع العالم للمرة الأولى بالإسم الملعون: "داعش". احتوى البيان على استهانة متعمدة بالجولاني "ما الجولاني إلا جندٌ من جنودنا انتدبناه إلى الشام وأرسلنا معه الرجال"! في اليوم التالي 10 أبريل أصدر الجولاني بياناً يرد على البغدادي بمزايدة واضحة، حيث قال إنه استجاب لدعوة البغدادي بالارتقاء "من الأدنى إلى الأعلى"، لذلك فهو يبايع الظواهري مباشرة! وكان من اللافت في حديث الجولاني إنه قال أن استخلص من أحداث العراق "العِبَر التي أفادت الجهاد في الشام"، وأن حركته قامت لتحكيم شرع الله، لكنه لم يرغب في الاستعجال بالإعلان "للمصلحة". أصدر الظواهري في يونيو 2013 قراره بفض الشراكة بين التنظيمين، ومنح البغدادي إمارة التنظيم في العراق، والجولاني إمارته في سوريا، وسمى أبو خالد السوري - قيادي معروف بالقاعدة - حكماً بين الطرفين في حال الخلاف. لكن البغدادي في أول انشقاق تاريخي داخل القاعدة فجر مفاجأة برفضه أمر الظواهري، واعتبر أن قراره "عليه مؤاخذات شرعية". بالطبع فكيف لشخص أياً كان أن يأمر الخليفة الذي على كل مسلم على ظهر الأرض ان يطيعه؟! انقسمت الأسماء الشهيرة من منظري التيار الجهادي بين الفريقين. كان من اللافت أن الأسماء القديمة، التي جرب أصحابها الهزيمة في الجزائر وأفغانستان والسودان، فضلوا جانب النُصرة والظواهري، مثل أبوقتادة الفلسطيني وأبومحمد المقدسي، بينما فضلت الأسماء الحديثة نسبياً جانب داعش مثل أبوالحسن الأزدي وأبو همام بكر الأسدي، حتى وصل بعضهم للقول بوجوب مبايعة الظواهري نفسه لأمير المؤمنين! "القول الفصل في أن عدم بيعة البغدادي للظواهري هو الأصل". منذ نشأة تنظيم الدولة وهو يتعامل حرفياً على أنه "دولة". دولة تفضل مد نفوذها إلى الأماكن ذات الأهمية الاقتصادية والاستراتيجية بغض النظر تماماً عمن يسيطر عليها، (على سبيل المثال قتال جبهة النصرة في دير الزور للسيطرة على حقل كونيكو للغاز، السيطرة على معابر باب السلامة وتل أبيض مع تركيا). وهي دولة تعتقل معارضيها أو من يُشتبه في امكانية معارضتهم مستقبلا، وبالتالي تم اعتقال مئات من أهم الشباب الناشطين في المجالات الإعلامية ممن بدأوا حِراك الثورة المدنية، وقُتل بعضهم، وتم تفجير مقار إذاعات وصحف الثورة. هي ثورة علمانية ضالة حسب بيانات داعش بالمناسبة. في 13 أغسطس فتح أعضاء الدولة الرصاص الحي عشوائياً على مظاهرة مدنية هتفت ضدهم في الرقة. لقد خرجوا على الحاكم الشرعي إمام المسلمين الذي انعقدت له بيعة أهل الحل والعقد، وعقوبة ذلك هي الموت بإجماع علماء السلف الصالح، وبنصوص القرآن والسنة المُطهرة.. (6) تتسع عيناه من خلف اللثام من الدهشة والذعر، قبل أن تنهمر منهما الدموع. لقد التزمت داعش فعلاً بعهدها في تبادل الأسرى مع تنظيم أحرار الشام، فأعادتهم جميعاً ... أحياءاً أو جثثاً. كان ينظر إلى جثه أخيه الحبيب الدكتور حسين سليمان، وقد تشوهت تماماً من أثر التعذيب الرهيب بالسياط والسكاكين والنار! الدكتور حسين سليمان أحد أوائل المشاركين في الثورة منذ اندلاعها المدني في البداية حين تم اعتقاله وتعذيبه على يد نظام بشار، ثم استمر مشاركاً بارزاً مع اندلاعها العسكري. الدكتور حسين دائماً مبتسم وهو يعالج الاطفال تحت القصف، مبتسم وهو يضمد جراح المقاتلين على خط الجبهة الأمامي، مبتسم وهو يساعد إحدى السيدات على الولادة ... لكن ما تبقى من وجهه الآن تجمدت عليه أبشع صرخة رعب ممكنة. تم اعتقال الدكتور حسين منذ أيام قليلة على يد تنظيم داعش ثم أعادوه بهذا الشكل، الذي كان معهوداً على أسرى بشار لا غيره. كان دائماً يقول إن أعضاء داعش مجاهدون أخيار، لكن لديهم فقط بعض الاختلاف الشرعي عنهم، ولا يمكن أبداً أن يرفع سلاحه في وجوههم. الآن يفكر أنه كان مخطئاً. (7) في 3 يناير، اليوم التالي لمقتل الدكتور حسين سليمان، بدأت الجبهة الإسلامية أخيراً القتال ضد داعش. الجبهة الإسلامية هي التنظيم العسكري الأضخم الأقرب لجيش حقيقي، وبعض التقديرات تشير لأن عدد مقاتليها تجاوز 70 ألف مقاتل. تشكلت الجبهة في 22 نوفمبر من 7 تشكيلات عسكرية هامة يجمعها الفكر السلفي الجهادي بأطياف متعددة، هي حركة أحرار الشام الإسلامية، جيش الإسلام، صقور الشام، لواء التوحيد، لواء الحق، حركة أنصار الشام، الجبهة الإسلامية الكردية. وبالتوازي مع الجبهة شارك عناصر الجيش الحر في القتال (مصطلح الجيش الحر كان يُطلق في البداية على المنشقين من الجيش، ثم أصبح يشمل كل الميليشيات التي لا تحمل أيدلوجيا معينة، وهي محلية جداً، قد يشكل أهالي قرية أو شارع كتيبة خاصة بهم لحماية منطقتهم فقط) في الأيام الأولى فقد تنظيم الدولة العديد من أهم معاقله في الرقة وحلب ودير الزور. بدا واضحاً فارق التفوق العددي والتسليحي ... لكن تنظيم الدولة يتفوق في يقينه. تجاوز عدد عمليات السيارات المفخخة 20 عملية أسقطت أكثر من 500 قتيل عسكري ومدني. وبينما تتوزع قوات الجبهة الإسلامية على خط قتال واسع للغاية ضد جيش بشار، يركز التنظيم قوته في هذه الحرب فقط. هو فقط صوت الله ولا أحد غيره، حتى لو كان ثمن ذلك هو الدماء. (8) "والله لن نبقي منكم ولن نذر، ولنجعلنكم عبرة لمن اعتبر، أنتم ومن يحذو حذوكم..". "يا أجناد الشام إنها الصحوات ... كنا نتوقع ظهورها ولا نشك في ذلك، إلا أنهم استعجلوا الخروج قبل أوانهم". "..فاعلموا أن لنا جيوشًا في العراق وجيشًا في الشام من الأسود الجياع, شرابهم الدماء وأنيسهم الأشلاء، ولم يجدوا فيما شربوا أشهى من دماء الصحوات" من تسجيل لأبومحمد العدناني المتحدث باسم الدولة في 8 يناير (9) في الماضي كنت أتصور قضية الشيشان دائماً بذلك التصور السطحي: مسلمون مضطهدون يجاهدون الروس الذين يريدون تحويلهم عن الإسلام. منذ سنوات تعرفت على موقع وكالة أنباء جهادية مختصة بتفاصيل القتال في الشيشان. لساعات طويلة عبر يومين دخلت هذا العالم الرهيب المذهل بالنسبة لي. هناك فصائل مختلفة من "المجاهدين" تختلف مع بعضها، وأحياناً تكفر بعضها، وتتقاتل وتقتل بعضها! هناك سباب رهيب ضد "أصلان مسخادوف" الذي كنت أعتبره القديس الشهيد. هو في نظرهم علماني مارق، فقد كان مستعداً للقبول بحكم ذاتي للشيشان وليس الدولة الإسلامية! هناك تنظيم "إمارة القوقاز الإسلامية" الذي نذر نفسه لإنشاء دولة إسلامية تشمل داغستان والشيشان وأنغوشيا وأوسيتيا الشمالية، ويشمل ذلك قتال الروس وأيضاً قتال المخالفين من المجاهدين! أعرف جيداً الآن من أين أتى كل هؤلاء الشيشانيين الذين يقاتلون في صفوف داعش، كما أعرف أيضاً من أين أتى الشيشانيون الآخرون في صفوف التنظيمات الأخرى... (10) متى كانت البداية البعيدة؟ ربما منذ أصدر بن لادن في عام 1998 بيان تشكيل "الجبهة العالمية لقتال اليهود والصليبيين"، وربما أبعد. ربما منذ كتب حسن البنا عن متتالية (أسرة مسلمة - مجتمع مسلم - دولة مسلمة - أستاذية العالم)، وكتب المودودي عن "الحاكمية"، وكتب سيد قطب عن "جيل رباني فريد"، منذ تحدث هؤلاء وكثيرون غيرهم عن دولة الخلافة الإسلامية الأسطورية في قوتها ومثاليتها، دون أن يشرحوا هم أنفسهم رؤيتهم لهذه الدولة تاريخياً، أو تفاصيل النموذج الذي يريدونه واقعياً. وربما أبعد منذ مئات السنين حين كتب بن تيمية عن "الطائفة المنصورة" التي يمكن أن تعلن إمام المسلمين من بينها إذا غاب الإمام، ومتى قامت بها الشوكة والمنعة، أثم من تخلف عن بيعتها، وهي من الفتاوى التي تعتمد عليها داعش .. ربما منذ كتب فقهاء المسلمين عبر العصور كل هذه الفتاوى عن بيعة المتغلب، وبيعة الغائب، وبيعة المجهول، حتى أتى أبو بكر الأثري (يُقال أنه شاب بحريني) ليجمعها في كتاب "مد الأيادي لبيعة البغدادي"، أحد أهم تنظيرات داعش! أو على جانب آخر ربما كانت بذور البداية مع أول حاكم قتل معارضيه وقال أن هذا باسم الإسلام، ربما منذ خطبة عبدالملك بن مروان بعد قتل بعدالله بن الزبير "والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه"، ومروراً بخلفاء الدولة العثمانية الذين قتلوا إخوتهم بفتاوى شرعية من شيخ الإسلام بحكم "قانون الفاتح"! ربما منذ قُتل الحسين ووُجد من يقول ببجاحة "إنما قُتل بشرعِ جَدّه"! ربما منذ قاتل الخوارج علي بن أبي طالب، رغم شدة صلاحهم وتقواهم كما قال عنهم الرسول "تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وصيامكم إلى صيامهم". ربما وُلد أول معارض إرهابي مع أول حاكم إرهابي، أو العكس بالعكس.. كأن نظام بشار هو النسخة الأسوأ في أقصى مدى من نظامنا الحالي، حيث وصل لقمة تقديس الزعيم، وحلول الوطن في النظام، وحينها يمكن قتل أي معارض خائن ببساطة، وكأن داعش هي النسخة الأسوأ في أقصى مدى من الإسلاميين، حيث وصلت لقمة حلول الدين، بل والإله نفسه، في التنظيم، وحينها يمكن قتل أي معارض كافر ببساطة... ولكلٍ مداه. ربما منذ قرر أول إنسان أيا كان مكانه وفكره أنه هو وحده لا غيره صاحب الحق المطلق. وبالحق المطلق قتل ستالين وهتلر وبينوشيه وسوكارنو وغيرهم ملايين لا تحصى من شعوبهم. ودائماً كان هناك جنود مقتنعون جداً أنهم يفعلون هذا لأجل الله/ الوطن، وحينها تصبح حياة البشر رخيصة جداً، تافهة جداً. يعرف أصدقائي أني لا أتحدث عن داعش إلا بلفض "ملاعين داعش" . ملاعين لأنهم وصلوا إلى قمة لعنة اعتقاد الحق المطلق.. ولكلٍ لعنته ... (11) يردد الإخوان وأنصارهم أن كل هذا العالم غير موجود أصلاً..! أنصار بيت المقدس مؤامرة من النظام وتمثيلية من المخابرات، وداعش أيضاً تمثيلية من المخابرات السورية. بل سمعت من بعض الإخوان وقت إبادة حركة حماس للسلفية الجهادية داخل مسجد بن تيمية برفح عام 2007، وقتل الشيخ أبوالنور المقدسي، إن هؤلاء عملاء لفتح! (بالمناسبة فلول السلفية الجهادية الفلسطينية التي هربت من غزة إلى سيناء كانت من أهم روافد تكوين أنصار بيت المقدس) هذا التفسير مريح جداً، لأنه يعفي من التساؤل حول بذور هذا الفِكر قبل أسباب هذا الفِعل.. لأنه يعفي من البحث عن الخطأ. لأن شعور قطاع كبير من الإسلاميين بأنهم قبيلة واحدة أو "تيار إسلامي عام"، يتطلب التأكيد على أنه ليس بيننا إرهابي مجرم أبداً، كلنا أطهار وكلها أكاذيب. نحن نقترب على كل حال .. تنظيم أنصار بيت المقدس الذي ينفذ عمليات منذ 2010، وأعلن في بيانه الأول في 2012 تبعيته للقاعدة، وافتخر بامتداح الظواهري له، تحول عبر مراحل تدريجية من استهداف إسرائيل فقط، إلى استهداف الجيش المصري، إلى استهداف الشرطة داخل الأماكن المدنية، حتى تحول في بيانه الأخير منذ أسبوعين إلى امتداح تنظيم داعش للمرة الأولى، في إشارة واضحة إلى الجانب الذي اختاره! وفي تسجيل آخر منذ شهرين هاجم التنظيم الإخوان وحزب النور بشدة ووصفهم بأنهم "باعوا الدين وخانوا الجهاد"، ويظهر أحد أعضاء التنظيم ليقول أنه انضم للإخوان لإقامة الدولة الإسلامية، ثم تركهم بعد أن ظهر أن مرسي كان يكذب، ولن يحكم بالشريعة! في كتاب أبومصعب السوري شديد الأهمية "شهادتي على الجهاد في الجزائر" يوجه اللوم لأبوقتادة الفلسطيني الذي نَظَر كثيراً لبشاعات الجماعة الإسلامية المقاتلة، حيث المذابح الجماعية الوحشية لأهالي القرى الذين اعتبروهم مرتدين بمساعدتهم الحكومة، وحيث يصدر فتوى شرعية تُنشر في "نشرة الأنصار" بلندن تمتدح قتل شاب لأبيه وأمه وأخيه، ويصف ذلك بأنه فعل الصحابة الكرام!! اليوم يعلن أبوقتادة انحيازه الكامل للنصرة، بل يدعو الدولة لمبايعتها في سوريا.. يبدو أنه قد تعلم جزءاً من الدرس بأغلى ثمن ممكن أخيراً! (طبعاً تظل الرواية السائدة عند اسلاميي مصر هي ببساطة أن كل هذا كان مجرد تمثيلية من المخابرات الجزائرية طبعا!!) وكما ظل بعض العراقيين يردد أنها مؤامرة من المخابرات الأمريكية أو فلول البعث حتى انفجرت السيارة المفخخة تحت منزله، سيظل لدينا من يردد أنها تمثيلية إلى أن يتم أسره بواسطة صديقه، حديث الإنضمام إلى داعش أو سواها، والدواعش كثير.. سيندهش جداً، وسيفكر أن هذه لعبة من المخابرات التي جندت صديقه بدوره. ستكون هذه آخر فكرة تخطر بباله قبل أن تخترق الرصاصة هذا المخ المُغيب...