قديما قيل (صنعة في اليد أمان من الفقر) وكان جيل الآباء والأجداد لا يتأففون من الاشتغال بأي مهنة، ولذلك كان من بينهم النجار والسباك والحداد وغيرها من المهن والصناعات اليدوية. أما اليوم وفي ظل وجود (250) كلية تقنية ومعهد للتدريب المهني الصناعي ومع التوسع الكبير في المدن الصناعية، يعزف جيل اليوم نحو 180 ألف خريج سنويا عن العمل اليدوي تبعا لثقافة المجتمع التي لا تتقبل مثل هذا النوع من الأعمال فيتجه معظم خريجو المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني للعمل في الحراسات الأمنية والمراكز التجارية بعيدا عن تخصصاتهم فاسحين بذلك المجال للعمالة الوافدة والسائبة للسيطرة على (52) ألف ورشة في جدة لوحدها وإدارة هذه الورش من الباطن بدخل يصل إلى أكثر من 40 ألف ريال شهريا وهو أعلى من راتب أي أستاذ جامعي. في ظل هكذا أوضاع يطرح السؤال نفسه عن المعوقات التي تواجه الخريجين والمصير الذي ينتظرهم ما بعد التخرج والمعالجات التي من شأنها أن ترفد سوق العمل بالكوادر الوطنية المؤهلة في مختلف المهن والأعمال. «عكاظ» التقت بداية مجموعة من طلاب الثانوية العامة الذين يتأهبون للالتحاق بالجامعات والكليات ومجموعة أخرى من طلاب الكليات التقنية في الداخل وفي الخارج ورصدت انطباعاتهم حول التعليم الفني واتجاهاتهم نحو المستقبل.. ورصد آراء القائمين على التدريب المهني ورؤية القطاع الخاص للخريجين المهنيين متلمسين الأسباب وانطلقت البداية مع: بندر الخرمي (طالب في الثانوية العامة): يقول أرغب الالتحاق بالمجال التقني ولكن في الكلية الصناعية في ينبع أو الجبيل لمناهجها المتطورة وللوظيفة المضمونة فيها نتيجة تواصلها مع الشركات الكبرى حتى إنني سمعت أنها في بعض الأحيان توظف الطلاب خلال فترة التدريب العملي عكس كليات أخرى. وأبدى إبراهيم الغامدي، من جدة، استياءه من القطاع الخاص الذي يفضل دائما توظيف العمالة الوافدة دون السعوديين للتوفير المادي في رواتبهم وحقوقهم. وانتقد طالب هندسة الكهرباء عبدالله الحكمي، عدم وجود نظام يتيح لخريجى الكليات التقنية إكمال الدراسة في الجامعات لمرحلة البكالوريوس، نظرا لعدم اعتراف بعض الجامعات بشهادة الدبلوم التي تمنحها كليات التقنية، فضلا عن عدم توفر مقاعد دراسية في الجامعات للطلاب الذين يرغبون بالتحويل إليها. ويضيف طالب كلية التقنية، الذي يدرس المحاسبة، علي المولد أن الفارق الكبير بين مناهج الكلية والجامعة يجعل الجامعة ترفض التحاق طالب الكلية فيها، ويقول: كلية إعداد المدربين في الرياض والتي تتبع للمؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني تستقبل كل من يرغب في إكمال الدراسة لمرحلة البكالوريوس إلا أن شروطها صعبة ولا يمكن تجاوزها. ويؤكد خالد الحسن، أن نسبة كبيرة من خريجي كليات التقنية عاطلون عن العمل رغم الوعود التي يسمعونها بين الحين والآخر عن توقيع شراكات بين المؤسسة العامة والقطاع الخاص. وقال جابر الزهراني: منذ صغري وأنا أحلم أن تكون في يدي صنعة، لكن تدخل الأهل ونصحهم لي بالابتعاد عن هذا المجال، لأن وحسب وصفهم، أنه بدون مستقبل وأن أغلب خريجيه عاطلون عن العمل أو يعملون برواتب ضعيفة مقارنة بوظائف أخرى ولذلك فضلت الابتعاد. أمل قليل ولم يخف حكيم المرواني (الطالب في كلية التقنية في جدة) تشاؤمه لوضع طلاب التقنية في ظل ارتفاع نسبة البطالة بينهم، ولكنه في نفس الوقت أشار إلى أنه يشعر بقليل من الأمل في ظل استقبال كلية التقنية وفودا من شركات ينبع الصناعية لتقديم عروض وظيفية للخريجين. ويخشى سلطان الهزازي (الطالب في كلية تقنية جدة) أن يكون مصيره مثل مصير أحد أقاربه الذي تخرج من كلية التقنية وبقي عاطلا لسنوات ولم يتغلب على ظروفه المادية إلا بعد التحاقه بوظيفة بعيدا عن دراسته وبراتب ضعيف. نظرة المجتمع ويرى الطالب غسان عمر، أن المجتمع ينظر حتى الآن لطلاب التقنية والمعاهد المهنية والفنية أنهم طلاب فاشلون لم يدخلوا الجامعة لضعف مستواهم الدراسي، وأن التحاقهم بها كخيار لا ثاني له من أجل الشهادة فقط. طلاب الخارج ويروي علي القحطاني خريج كلية التقنية والطالب الذي يدرس حاليا في جامعة بدفوردشاير في بريطانيا قصة دراسته للتقنية وحتى سفره إلى الخارج بقوله، قبل سنوات تعرضت لحادث مروري وتوقفت عن مواصلة دراستي الجامعية وعندما تحسنت ظروفي الصحية لم أجد أمامي خيارا إلا التحاقي في كلية التقنية قسم إدارة السياحة والفندقة تخصص سياحة وسفر، ولم يكن اختياري لهذا التخصص رغبة فيه، لكنه كان التخصص الوحيد الذي يوجد له مقاعد دراسية متوفر في ذلك الوقت، وبعد إنهاء الفصل الدراسي الأول حاولت التحويل إلى قسم آخر لكنهم قالوا لي إن القسم في حاجته لي كمعيد، واستمريت حتى تخرجت بمعدل 4.47 من 5 وبدلا من الوقوف معي أخبرني أن النظام قد تغير ولا بد أن أكون حاصلا على البكالوريوس حتى يتم تعيني معيدا في القسم، ثم بحثت عن وظيفة في المكاتب السياحية وفي الفنادق، لكن للأسف رواتبها متدنية، عندها قررت السفر إلى الخارج لاستكمال دراستي، وبعد شهرين التحقت ببرنامج خادم الحرمين الشريفين. ويقول إبراهيم العلي (الطالب في نفس الجامعة) لم أجد بعد تخرجي أي دعم أو وظيفة ولم أحصل على البكالوريوس، وجمعت كل ما أدخرته وجئت به إلى هنا لاستكمال دراستي التي تبقى عليها عام واحد وأحصل على الماجستير. أما زياد الزايدي قال: بعد تخرجي من كلية الاتصالات والإلكترونيات في جدة، توجهت إلى جامعة الملك عبدالعزيز لاستكمال دراستي لكنها قتلت فرحتي بعد أن أبلغتني أن كل دراستي طيلة ثلاث سنوات في الكلية 67 ساعة تعادل 14 ساعة في الجامعة، عندها قررت الذهاب إلى بريطاينا وعند تقديمي أوراقي وشهاداتي إلى الجامعة قبلت جميع الساعات التي حصلت عليها في الكلية والتي رفضتها الجامعة في السعودية. معاناة ميكانيكي ورغم أن منسي الحسني كان قد تخرج من كلية التقنية في الطائف متخصصا في الميكانيكا، إلا أنه يعمل حاليا حارس أمن في بنك، نتيجة عدم توفر الوظيفة، موضحا أنه ليس الوحيد، فغالبية زملائه الذين درسوا معه في نفس تخصصه أو في تخصصات أخرى يعملون حاليا لدى شركات الحراسات الأمنية، أو يعملون كبائعين في شركات الأغذية أو المحال التجارية. أصحاب الورش ولأن أصحاب الورش طرف في هذه القضية ومتهمون بعدم استقبال الشباب السعودي وإتاحة فرصة العمل أمامه، قال مدير إحدى الورش الصناعية في الطائف عبدالرحمن السواط، أتمنى أن أرى الشباب السعودي يعملون في هذه الورش وأن يسيطروا عليها بدلا من العمالة الوافدة، وقد حاولنا أن نجذبهم لكنهم للأسف يريدون الوظيفة الحكومية، رغم أن رواتبهم لا تقل عن 2000 ريال في الشهر. ويضيف محمد الزهراني (صاحب ورشة لإصلاح السيارات في جدة) بقوله: كلما اتفقنا مع مجموعة من خريجي الكليات والمعاهد للعمل هنا لا يستمرون، بل يتأففون ويتكاسلون عن أداء أعمالهم رغم حرصنا على أن يثبتوا وجودهم وأن يزيحوا هذه العمالة التي نعلم يقينا أنها تستفيد ماديا أكثر منا، لكن تكاسل الشباب وميلهم للوظيفة الحكومية هو السبب. ويقول سامي عرار، للأسف حتى أولادي يتأففون من العمل في الورش رغم أنها تجني ذهبا، وقد حاولت أكثر من مرة أن أجعلهم يتولون مسؤولية الورشة بدلا من الباكستاني الذي يستفيد منها لكنهم مائلون إلى لبس الثوب والشماغ وليس البدلة. 52 ألف ورشة في جدة فيما يضيف نائب رئيس طائفة الورش شمال جدة أحمد علي المالكي، أن في محافظة جدة 42 ألف ورشة ميكانيكا وسمكرة سيارات، وأكثر من عشرة آلاف ورشة ألمنيوم وحدادة ونجارة، جميعها ليس بينها سعودي واحد ومشغولة بعمالة وافدة بينها عمالة سائبة، يصل مردود بعضها في الشهر الواحد أكثر من 40 ألف ريال، مشيرا إلى أنه حاول جذب خريجي كليات التقنية والمهنية إلى هذه الورش وتدريب بعضهم على أعمال بسيطة كمرحلة أولى في تقدير الحوادث وتلفيات السيارات، لكنهم سرعان ما غادروا المنطقة الصناعية، مرجعا أسباب عزوفهم عن العمل لعدم قدرتهم على تحمل طول الدوام داخل الورش. ترسيخ قيم الولاء والعمل ويشير مدير شؤون الموظفين في شركة إلكترونيات عبدالعزيز العمودي، أن الخريجين يخضعون في الغالب إلى تدريب حتى يتعلمون المهنة عند التحاقهم بالعمل ولكنهم لا يستمرون في عملهم، مشددا على أهمية ترسيخ قيم الولاء والعمل في نفوس الخريجين أثناء دراستهم مع تأهيلهم وتدريبهم على المجالات الحديثة مثل الإلكترونيات والتخصصات النوعية. ويدعو مدير شؤون الموظفين في إحدى الشركات عمران الخلف إلى تغيير سياسة المخرجات من الكليات وإلى تأهيل الخريجين وفق احتياجات السوق. المخرجات وسوق العمل وفي هذا الاتجاه أشارت سيدة الأعمال حصة العون أن نسبة السعوديين العاملين في المدن الصناعية المنتشرة في المملكة لا يتجاوز عددهم عشرة في المائة، وأن مخرجات التعليم التقني والجامعي لا تتفق مع سوق العمل بدليل عدد العاطلين من الخريجين رغم وجود الكثير من المشاريع التي تحتاج إلى كفاءات وطنية مؤهلة ومدربة. تسرب الأكاديميين ولأن البعض لم يكتف فقط بالإشارة إلى ضعف المناهج المهنية بل إلى التلميح عن تسرب عدد كبير من منسوبي المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني مقدرة عددهم بأكثر من 200 أكاديمي اتجه غالبيتهم إلى مؤسسات التعليم العالي؛ بحثا عن الحوافز والمميزات وتطوير شهاداتهم العلمية، وأن المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني أصبحت تدريبية أكثر من كونها تعليمية، مستشهدة بتغيير مسماها إلى المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني بعد أن كانت للتعليم، وأن هذا أدى إلى تغيير مسميات منسوبي المؤسسة من أستاذ مساعد وعضو هيئة تدريس إلى (مدرب أول أ) لحملة الماجستير (مدرب أ) لحملة البكالوريوس، وكبير المدربين لمن يحملون شهادات أعلى. نائب رئيس مجلس التدريب التقني والمهني في منطقة مكة سابقا ووكيل كلية الهندسة في جامعة الطائف حاليا الدكتور مصلح الحارثي، أكد ما أشارت إليه هذه المصادر، وأضاف أن كادر المؤسسة الجديد أصبح لا يتماشى مع الأكاديميين الذين يسعون إلى التطوير والبحث وهذا غير موجود في التدريب، إضافة إلى أن الحاصل على البكالوريوس أو الماجستير يطمح في مواصلة حصد الشهادات العليا، وهذا غير متاح له، مشيرا إلى أن خروج أعضاء هيئة التدريس له تأثير على المؤسسة وقد يكون ذلك على المدى البعيد بتدني مستوى المخرجات مالم نجد أشخاصا راغبين في الالتحاق بالمؤسسة وهدفهم فقط البكالوريوس أو الماجستير. وعلى الرغم من اعتراف عميد الكلية التقنية في مكة سابقا، ووكيل كلية ينبع الصناعية في الهيئة الملكية الدكتور قاسم أنديجاني، بتسرب أكثر من 100 عضو وقيادي من المؤسسة والعمل في مراكز قيادية، إلا أنه يؤكد أن القضية ليست مسألة حوافز ومكافآت، خاصة المؤسسة العامة في الآونة الأخيرة لديها من المميزات والمكافآت ربما تجاوزت مؤسسات التعليم العالي، الأمر الذي يشير إلى عدم مناسبة البيئة للأكاديمي المهني. ويؤكد الباحث في شؤون التدريب والتأهيل الدكتور سعد الرشود وجود تسرب عدد كبير للطلاب الملتحقين بكليات التقنية نتج عنه فجوة بين أعداد الطلاب المقبولين والمتخرجين، مستشهدا أن عدد الطلاب المقبولين لعام 1423/1424ه بلغ 33876، تخرج منهم 10802 طالب، بفجوة قدرها 23074 طالبا، بنسبة وصلت إلى 65 في المائة، مضيفا أن نحو 50 في المائة من الخريجين يعدون من العاطلين أو أنهم لا يعملون في مجالاتهم المهنية والتقنية، وأن نسبة كبيرة ممن تم توظيفهم لم يعينوا في تخصصات دراستهم! فمنهم من تم توظيفه في وظائف إدارية أو كتابية في القطاع الحكومي، كما أن كثيرا من الشركات والجهات في القطاع الخاص رفض توظيفهم لعدم كفاءتهم، وهذا يشير إلى وجود خلل في مخرجات المؤسسة، وأن المشاريع الجبارة التي دعمتها الحكومة من منشآت لهذه الكليات وتجهيزات لا تساوي المخرج الضعيف الذي يخرج للمجتمع. لكن ما هو رأي القائمين على هذه المؤسسة؟ عميد الكلية التقنية في محافظة جدة الدكتور منصور بن عبدالله الميمان، أشار إلى أن المؤسسة بدأت في تنفيذ برامج داخلية وخارجية مختلفة لتطوير وتحسين كفاءة مدربيها وحقائبها التدريبية تقنيا ومعرفيا، وفي إطار حرصها واهتمامها على تعزيز مشاركة متدربيها في صنع القرار لتطوير وبناء كلياتهم وتنمية مجتمعهم، تستعد الكلية حاليا للملتقى الرابع للتدريب والتعليم التقني والإداري الذي سيقام في السابع والثامن عشر من الشهر الحالي تحت عنوان (الرؤى المستقبلية لمتدربي الكليات التقنية)، ويركز على مناقشة أربعة محاور أساسية تشمل تطوير البنى التحتية والتجهيزات والخامات التدريبية، وتفعيل دور التنسيق الوظيفي وشؤون الخريجين، وتقويم البرامج والتخصصات التدريبية ومناقشة البنى التحتية للأنشطة الصفية واللا صفية، وأن المتدربين المشاركين في هذا الملتقى سيعرضون مقترحاتهم والتي ستتحول إلى برامج عمل قابلة للتنفيذ والتطبيق. أسماء وهمية ويؤكد المشرف على التدريب في الكلية التقنية في الطائف سعد الغامدي، عدم وجود فرص وظيفية للخريجين، ويقول: نعم ذلك موجود، مشيرا إلى أن المشكلة في أحد جوانبها (ثقافة مجتمع)، وفي الجانب الآخر تدني رواتب القطاع الخاص والتي في معظمها لا تزيد عن 1500 ريال في الشهر الواحد لساعات عمل طويلة، إضافة إلى تعمد أصحاب المحال إلى تطفيش الشباب السعودي، موضحا أن 80 في المئة من المحال الصناعية هي بأسماء سعودية لكن أصحابها عمالة وافدة.! وأن قلة من الخريجين افتتحت مشاريع خاصة مستفيدة من دعم المؤسسة والذي يصل إلى 200 ألف ريال، لكنهم للأسف بعد ذلك سلموا محالهم إلى العمالة الوافدة نظير حصولهم على نسبة من إيرادات هذه المحال. بنك التسليف ويشير مدير بنك التسليف في محافظة الطائف طلال الثمالي، أن كل راغب في افتتاح منشآت مهنية صغيرة أو متوسطة بإمكانه الحصول على قرض لا يتجاوز 200 ألف ريال، وما زاد عن هذا المبلغ والذي قد يصل إلى مليون ريال، تتولى لجنة من الإدارة العامة النظر فيه. خلل المخرجات وأخيرا، قال عضو لجنة الشؤون التعليمية والبحث العلمي في مجلس الشورى الدكتور سالم القحطاني، إن المشكلة تكمن في التحول التدريبي الذي طرأ على منهج المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني والذي يفتقر لوضوح الرؤية وتحيط به الضبابية، مشيرا إلى أن قرارا أصدره مجلس الشورى بضرورة تقويم المؤسسة ليطمئن المجلس والمجتمع على أنها تسير في الاتجاه الصحيح، داعيا المؤسسة للاستعانة بالمتخصصين والدراسات المتخصصة بما يضمن تطوير كلياتها ومخرجاتها.