يوسف المحيميد - الجزيرة السعودية قبل عشرين عاماً، تخلّى كثير من أهالي القصيم عن أعمالهم، من لديه دكان صغير في»الجردة» أغلقه بعدما جمع تعب السنين واشترى به مزرعة، وأدار فيها الرشاشات المحورية، قائلاً لنفسه: لابد أن»أغرف» من الذهب الأصفر، سعيداً بمرأى السنابل الذهبية تهتز ثقيلة بالحبوب، ومن لديه شاحنة قام ببيعها وانصرف إلى الزراعة، بل حتى خريج المعهد المهني لم يفتتح ورشة إصلاح أجهزة أو سيارات، بل قاد الحراثة بنفسه ونبش الأرض. وكذا طالب الثانوية لم يجد في الدراسة ولا الوظيفة المتوفرة آنذاك أي فائدة، فالربح والكسب في الأرض، وفي ذهبها الأصفر لحظة أن تنثره»الحصّادات» في الشاحنات، التي تنطلق محمومة إلى صوامع الغلال على طريق حائل! كل من أعرفه: أبي، عمّي، خالي، بعض إخوتي وأبناء عمومتي، كلهم انصرفوا إلى زراعة القمح، تماماً كما حدث مع الناس حين باعوا بيوتهم وتورطوا بالقروض بهدف شراء الأسهم والكسب السريع، فلم ينجو أحد من أقاربي، وربما كثير من أبناء وطني في مناطق المملكة المختلفة، من قروض البنك الزراعي! أذكر أن هناك سوقاً سوداء بزغت وسماسرة ظهروا مع صيحة»القمح» قبل أكثر من عشرين عاماً، فهناك من يشتري في الحال بسعر أقل من سعر الصوامع، حتى يتكسب بالفرق على حساب المزارع»الغلبان» الذي يحتاج إلى السيولة السريعة كي يحضّر أرضه وأدواته لموسم العام القادم! كنت من على متن الطائرة، أرى دوائر القمح الضخمة، خضراء وبديعة، تحيط بها رمال»المليداء» وتجعلني أشعر آنذاك بأن بلادي تخطط للبحث عن مصدر دخل جديد غير النفط، خاصة حين قرأت في الصحف عن الاحتفال بتصدير أول شحنة قمح إلى خارج البلاد، يا الله ما أجمل أن تكون بلادي مصدّرة للقمح، فهو أمن غذائي حقيقي. بعد سنوات، بدأت صوامع الغلال تتأخر في تسليم المزارعين مستحقاتهم، ثم بدأت تخفض أسعار القمح التشجيعية، وظهرت آراء أصابتنا بخيبة أمل كبيرة، فالقمح يعتمد بشكل كبير على المياه، ومعظم المزارعين اكتشفوا أن منسوب المياه الجوفية يتناقص بشكل مخيف، ثم بدأت التحذيرات بأن زراعة القمح تهدد أمننا المائي، فهل هناك أهم من الماء؟ طبعاً لا. هرب المزارعون من مزارعهم، بعضهم خرج باكراً، كما هم أذكياء سوق الأسهم الذين استشعروا الخطر باكراً، فخرجوا من السوق، وبعض المزارعين لم يزل يحلم بأن يعود الزمن، وأن تهتز رؤوس القمح الذهبية في حقله، وبعضهم تحوّل إلى زراعة الخضراوات، أو بناء البيوت المحمية، أو الزراعة الموسمية كالبطيخ وما شابه. أما الشباب فقد عادوا يبحثون عن الوظائف بعد أن طارت الطيور»بقمحهم» فلم يعد هناك قمح ولا وظيفة، تماماً كما طار حلمي شخصياً، وأنا أرى أبي -يرحمه الله- يشعر بالسعادة حين تدور الأبراج الشامخة وهي تبث رذاذ الماء، بينما أشعر بالفخر أننا مصدّرو قمح لا نفط، وتباهينا مع تصريح يقول بأن»القصيم سلّة خبز المملكة»! تماماً كسعادتنا بالجوف مدينة»المليون شجرة زيتون» أو احتفالنا بتصدير»ورود» تبوك إلى الخارج! الآن مع تصريح وزير الزراعة بالتوقف نهائياً عن إنتاج القمح، وتأمين احتياجات المملكة من القمح المقرر استيراده، والبالغة مليون طن من القمح، ونهاية حلم تصدير القمح، أضع هذا السؤال الصغير: لم حدث كل ذلك؟ هل كان ثمّة تخطيط ودراسات لإنتاج القمح آنذاك؟ ما دور الجهات المختصة كوزارة الزراعة؟ ووزارة المياه؟ أين كانت جهات الأبحاث والدراسات في الجامعات ومراكز الأبحاث؟ لماذا لم توقف الكارثة قبل أن تبدأ؟ وحين أقول الكارثة، لأنها كارثة مخلّة بالأمن المائي الذي هو أهم من الأمن الغذائي، ولأنها ضللت مواطنين كثر، بدّلوا أنشطتهم وأعمالهم حلماً بالثراء السريع، ثم باعوا مزارعهم بثمن بخس!