ليس من خصائص الطريقة الصوفية أن تكون إرادة المعرفة لديهم وحدانية ذوقية فحسب؛ بل يمتازون بالتسليم بوحدة الوجود مفترضها مقدما وسالكا الطريق لتحقيقها في تجربته الذاتية. وفي نص تكوين من ديوان "الألواح" للشاعر عبدالله ناجي تلحظ الإيمان التام بخطوات الإنسان في لحظات تكوينه الوجودية منذ أشع النور بجسده بفعل إلهي. وفي البدء كان النور.. كنت بهاءه درجتُ على أعتابه.. وربيتُ ثم تعلق الروح والذات بهذه اللحظة التكوينية، إذ يتضح روح الاستسلام الطائع لها والشغوف بها. وعلقت روحي في قناديل حُبهِ ومن كوثر الرؤيا هناك سقيتُ وتوطين هذا الخضوع يظهر في استعمالات الشاعر لمفردات شعرية تحمل ملامح النور والرؤيا والبهاء والقناديل والكوثر. وحتى وإن فرَّت النفس بالنفي والخروج من هذا الوطن فهي تُعيد قصة خروج كونية بدأناها نحن البشر مع أمنا حواء وأبونا آدم. وعشتُ على أوطانه الخضُر ربما صباحاً صباحاً واحدا ونُفِيتُ... خروج وتيهان لا بد له من عودة إيمانية تجسدت في خاتمة فكرة التكوين حين قال: واكتملت في تيهي أناشيد عودتي أعود وفي أضلاعي (الملكوتُ) وأخرج طيراً من رماد مواجعي أعيش مرارا هكذا وأموتُ. الترويج إلى المطلق واكتشاف المجهول لرؤية تغوص في الأعماق.. رذاذ كوني. المتصوف يعرف بأن الله سبحانه وتعالى هو الكمال المطلق الذي ليس فيه عيب ومنزه عن النقص ولهذا لم يطلب غيره ولم يرغب إلا له ومن الدائرة النازعة للمطلق قال ابن سينا: "لو أن إنسانا عرف الكمال الذي هو واجب الوجود الذي هو فوق التمام ثم فرض أنه منظم العوالم على سقالة، كان غرضه الواجب الوجود، فإذا كان الواجب هو الفاعل فهو الغرض لذاته في فعله ومعرفة الكمال ووجودية الوجود وتناظم العوالم كلها مساحات تدفع بالذات نحو التساؤل فها هو ناجي في "رذاذ كوني" يشرع النوافذ للنفس المتسامية الباحثة عن الكمال والنازعة نحو المطلق: من أنت؟. عبد الله.. ماذا في شمالك؟ تلك فأسي منذ اختطفت قداسة الأشجار غنى طيرُ قَدسي ناولتني كأسا مقدسة ولم أمنحك رأسي إذ نلحظ ابتداءه بسؤال النفس عن ماهيتها من أنت؟!. وعن محولاتها الحسية! التي تجسدت في مفردة جواب "الفأس" والفأس أحد رموز العمل والكدح وله علاقة وطيدة بالأشجار والألواح التي جاء بها "عبدالله" ليكتب وصايا ربه وليؤرخ للحلال والحرام والفرائض والأحكام الدينية، وليتعرف على ذاته التي تنازعه نحو عوالم أخرى قبل أن يمكث 40 ليلة: أنا لن أكون سوى أناي خلقتُ أشيائي بنفسي عزفي بكاءُ أناملي ودمي على أطراف كأسي منذ اكتملت حقيقة أولى تجلى نور همسي. فالأنا بكل التجاذبات والتصارعات تبحث عن النور وعن الأبدي المطلق، وعن اكتشاف المجهول الذي أبكى الأنامل وأسال الدم على أطراف نحاس الوجود. إن هناك حقيقة نورانية تتجلى للمتأمل إذ طفقت الذات الشاعرة تعكس أن اللبس مجرّد وهم الحاجز الحقيقي هو عفة النفس وحواجب الروح: ماذا ستصبر، حين تبصرني سوى تاريخ جنسي ولهذا قال ناجي: في نشوة الألحان تاه فمي وصار هواك مسي كنتيجة لكل السياقات الفكرية والتساؤلات الوجدانية السابقة. لنجد هذه الذات بعد هذا المشوار النزوعي للكمال أنها لا تمضي إلا له ولا تعود إلا نحوه، فهي على بابه تتوفى بحملها: وسواي لا يمضي إليك أنا ببابك منذ أمسِ لوحت للآتين أين مضوا؟ هذا سيناء قدسي هنا الشاعر عبدالله ناجي تتعالق ذاته مع قصة نبينا موسى عليه السلام، التي كانت تنازع هي الأخرى للمطلق. لله وحده للحق، للضمير المتوحش في سماوات الألوهية النقية: أبصرت وجه الله حين افقتُ أم أبصرتُ أنسي؟ لا.. لن يراك سواك.. أنت أنا سُفنينا التأسي لك هذه الألواح يا موسى ولي أنخاب يأسي في حوارية مع سيدنا موسى، عليه السلام، يظهر الشاعر قطعة النفس تجاه مواجب الحياة المانعة لوصول النفس إلى درجة لكمال المنشود مواصلا مع المطلق حيث لا زمان ولا مكان ملك القيود الحياتية والنوامس المألوفة للبشرية. من أجل ماذا لن يكون دمي معي؟ من أجل نحسي؟! كن نفسك الأخرى لماذا.. لا أكون أنا ورجسي وها هي الذات القلقة الباحثة عن المطلق تشكل مقاطع شعرية مكانية حيث تستعرض حكايتها قبل الوقوف بسيناء وبعده. في استبطان نص ناجي السالف نجده يختم جدلية الإنسان الذات في تجربته الباطنة المباشرة في انطلاق طاقاتها الحبيسة نحو التواري المطلق باعترافات ذات نفحات صوفية، مخالفة لطرائق الفيض الصوفي التي لا تتوسل بالعقل أو المنطق وأنا أعيش كما ترى ما بين شيطان وقس صوفيتي بين اثنتين خطيتي وفناء نفسي ناقدة وأكاديمية سعودية*