تتفسح الأبدية البيضاء على حافة العدم ، لتفارق شرط الوجود المجمَّد في جليد الحواس ، ولتكثف انثيالات أفلتت من برزخ الزمن المهجور، بمرايا صقلت درويش في ينابيع البراءة الأولى ، لتنكشف حجب البصيرة في أفق بعيد،حيث يتحد (ضِّداه في المعنى) ، وحيث يفرغه (الهباء من الإشارة والعبارة) . ومن ثم تفيض حقائق الأشياء دون مجازها . وينفذ درويش من جدار العدم ، ومن خلال هذه اللغة الأولى تنهمر الرؤيا ويتكثف الوجود بملامح تشد الحلم والحقيقة إلى تناسخ طليق مشدود بمأزق إنساني تتفجر منه الأضداد وتتوحد في أفق الرؤيا . لذلك كانت الأبدية البيضاء مجاز الرؤيا إلى كينونة الوجود. وهو وجود مغاير لحياة الموتى التي عاشها درويش قبل دخول الأبدية ؛ تلك الحياة التي يقصر فيها الوعي عن الحضور ، ويلتبس فيها الواحد والمتعدد في البحث عن الذات والآخر. كأن ضبابها أفضى به إلى الوجود الذي يراه، ولا يراه غيره . (ولا يكفي الكتاب لكي أقول وجدت نفسي حاضرا ً ملء الغياب وكلما فتشت عن نفسي وجدت الآخرين وكلما فتشت عنهم لم أجد فيهم سوى نفسي الغريبة هل أنا الفرد ُ الحُشود) ويجسر التناسخ ُ الوجود َ الذي يتمدد عبر الأزمنة لتتحول الذات روحا تفتح أفق الرؤيا على المأساة ، وتعيد أصل المعنى إلى ينابيعه الأولى ؛ فالتناسخ هو شرط الرؤيا الذي به يتجسد الشعر في الزمن الدرويشي ، وتتحول فيه الذات عبر الأمكنة : (في الجرة المكسورة انتحبت نساء الساحل السوري من طول المسافة واحترقن بشمس آب رأيتهن على طريق النبع قبل ولادتي وسمعت صوت الماء في الفخَّار يبكيهن : عدن إلى السحابة يرجع الزمن الرغيد) ويكشف تأويل الرؤيا من وراء الواقع الكثيف يقين ٌ متوتر يشف زجاجه عن الذات المتوحدة مع حقيقتها، وغربة الأنا بين حشود الزيف ؛ تلك الغربة التي تعاين الشهود كلما اخترقت العدم إلى وجودها الحق بين حافتي الأزل والأبد ؛ لتنبعث مرة أخرى من الرماد كطائر الفينيق . كأن هول المأساة يحترق منذ الأزل لتتماهى صورة الأرض مع حديقة الفردوس العليا ، وليعيد محمود درويش من (آدم) نسخته الأولى في بدء التكوين الذي يفجع اللذة بالحرمان ، والحضور بالغياب : (سأصير يوماً ما أريد سأصير يوماً طائراً وأسل من عدمي وجودي أنا حوار الحالمين عزفت عن جسدي وعن نفسي لأكمل رحلتي الأولى إلى المعنى فأحرقني وغاب أنا الغياب ُ أنا السماوي الطريد) . وتهدر هذه الصيرورة إلى يقينها الأبدي رغم كثافة الواقع التي تحجب الوجود . لكن هذا الواقع لا ينعكس إلا سرابا يترقرق وراءه ماءُ الحقيقة الذي يراه الشاعر الكبير ، فيحس عند ذلك بالوحدة والغربة والبعد ، فمازالت الرؤيا بعيدة عن الآخرين (لم يبلغ الحكماء غربتهم كما لم يبلغ الغرباء حكمتهم) ولذلك لا يتكلم درويش خلال النص إلا بضمير الأنا وصوته الفرد الذي يوشك أن يكون همسا ً، ربما للمفارقة بين ما يراه هو ، وما لا يراه الآخرون ، بين صوت القلب ، والنشيد الملحمي ، أي بين همس الغناء ، وقعقعة السلاح . ومن هنا ربما كان الحزن أيضاً رديفاً للغربة والوحدة والبعد حين يتأمل الشاعر الكبير مصيره الذي ينكشف يقيناً تحت قدميه ، فيما هو وراء الأفق البعيد البعيد : (سأصير يوماً شاعراً والماء رهن بصيرتي/ لغتي مجاز ٌ للمجاز فلا أقول ولا أشير / أنا من هناك " هُنَا " ي َ يقفز من خطاي إلى مخَّيلتي أنا من كنت أو سأكون يصنعني ويصرعني الفضاء ُ اللانهائي المديد) ودرويش يوتر المعنى موغلا ً في تداعيات يعيد تشكيلها بغنائية تقطع الأنفاس في موج الكلمات التي تخنق القارئ في إبحاره مع النص . فهي تسريع ٌ يتصادى من تقنية المجاورة بين المترادفات ، وتكرار الجُمل ،أي أن السرعة هنا تسبق حصان الموت الذي يطارد درويش دون أن يدركه : (ويا موت انتظر يا موت حتى أستعيد صفاء ذهني في الربيع " .... " وأنا أريد أريد أن أحيا فلي عمل على جغرافيا البركان من أيام لوط إلى قيامة هيروشيما واليباب هو اليباب) فالتكرار والمجاورة في الكلمات لا يستدعيان حشواً ، بل توتيراً موازيا للمعنى يستدعي بدوره غريزة البقاء . فمطلق الوجود ، فضلاً عن الوجود المطلق ، في هذا النص هو غاية قصوى لدفاع الشاعر عن الحياة ، قبل الدخول في(باب القيامة). وكما أن الأبدية البيضاء هي مجاز المكان في الرؤيا ، في اللازمان واللا مكان ، كما أسلفنا ؛ كذلك الرؤيا هي تقنية النص الكاملة . ذلك أن الرؤيا/الحلم ربما كانت هي الفضاء الوحيد للحكاية عن الوجود والعدم ، دون أن تكون في ذاتها وجوداً ولا عدماً وضفاف الموت في الرؤيا هي أصفى حالات المكاشفة والصراحة التي يعيقها أحياناً شرط الوجود المادي ، وحضور الوعي في الذات . ليتحرر الشاعر من وثاق الزمن والتأويل والآخر ، فيما يشبه هذيان العقل الباطن . وكما تتحرر الذات في ضفاف الموت ، تستدعي الذاكرة أجمل ما في اللغة الأعلى . ولعل هذا هو سر تضمين بعض النصوص القديمة للشاعر في (الجدارية) كوصايا محررة من اختياراته ( كما صرح درويش بذلك في إحدى حواراته مع بعض النقاد) وتأتي الإشارة لنفي الحلم في مفتتح النص كخداع سردي ، ضمن لعبة النفي والإثبات والواحد والمتعدد . لأن التشكيك والتبديل المفتوح في تكسير علاقات المعنى والأشياء هو أصل الرؤيا في النص . (ولم أحلم بأني كنت أحلم / كل شيء واقعي ٌ كنت أعلم أنني ألقي بنفسي جانباً .... وكأنني قد مت قبل الآن / أعرف هذه الرؤيا وأعرف أنني أمضي إلى ما لست أعرف) وضمن هذا التشكيك والتبديل ، تشكل الفنتازيا بعض لوحات الجدارية داخل تقنية الرؤيا ، أي تكسير علاقات الزمن والوجود. (أرى السماء هناك في متناول الأيدي ويحملني جناح حمامة بيضاء وكل شيء أبيض / البحر المعلق فوق سقف غمامة بيضاء ) ذلك أن البياض الذي يغرق فيه درويش في الفضاء اللانهائي بين الوجود والعدم منذ البداية ، هو الذي يمنحه خامة البراءة الأولى ليصِّفي لغته الشعرية . لكن هذه الفنتازيا التي توهم باقتلاع سوريالي للذاكرة والمكان ، ويحيل فضاءها إلى خارج المعنى الذي يحايث كينونة اللغة في تعبير الشاعر عن مأساته ، لا تنطوي على محو للذاكرة ، بل الذاكرة هنا تستعيد وجودها مع الكلام / اللغة من داخل ذلك الفضاء البعيد. هذه اللغة التي تجد تعبيرها في المأساة والحق الأعزل . حيث يضعنا محمود درويش أمام مفارقة عميقة عندما يتذكر لعنته فجأة ً من ضفاف البياض والنسيان. (سأصير يوماً فكرة /لاسيف يحملها إلى الأرض اليباب ولا كتاب كأنها مطر على جبل تصدع من تفتح عشبة ٍ لا القوة انتصرت ولا العدل الشريد). واليقين إذ ينحو إلى كينونة في الزمن / المستقبل ، ينطوي في التعبير على لغة شفيفة توازي ذلك الحرمان الإنساني في الحاضر ً ، وتشيع روحية مكتفية بالعزلة على هامشه ، حيث التناسخ في مفرداتها داخل النص هو معنى البقاء، بعيدا عن الآن / الحاضر المحذوف، فالمكان هو اللغة ، والوطن هو القصيدة . وبالرغم من هذا اليقين الذي سيصير إليه الشاعر يوما ما ، تسترق اللغة الشعرية حنينها للمكان على هامش الحاضر بأسى يدس الحرمان في جمال الوصف ، ليخلق الشاعر معناه من أعماق هاويته التي تعبر عن حرمانه في نشيد إنساني يورث أغاني الخلود لمن يأتون في زمن جديد . كأن اليقين في الرؤيا يتجدد في تناسخ جدلي مع أسطورة الأرض . (خضراء أرض قصيدتي خضراء عالية ً وأورثها لمن يتساءلون لمن نغِّني ؟ خضراء اكتبها على نثر السنابل ... كلما آخيت سنبلة ً تعلمت البقاء من الفناء وضده أنا حبة القمح التي ماتت لكي تخضرَّ ثانية ً وفي موتي حياة) . ودرويش ينسخ الرؤيا في زمانه الخاص ، ويستعير وجوده من اللغة ، عبر الفنتازيا وتبديل المجاز في الحسي والمعنوي ، وينحو إلى تجديد عبارات بعينها على مدار النص . أي أن الشاعر يشتغل في هذا النص على تدوير الجمل ، وتكرار الألفاظ في كل مفصل حواري مع الموت ليستكمل حياته الناقصة بالإمتلاء . فحاجته إلى الامتلاء الوجودي تعادل استعادته للغة التي لا تبشر بالملاحم والسلاح ، بل تشتاق إلى يوميات الجسد ووظائفه الطينية . فهو يريد أن يحيا وأن يحلم ، وأن يتأمل . فتحقق الوجود اليومي بالنسبة له هو مقاومة للموت ، وضد النسيان . وكما تعادل اللغة الوجود ؛ تعادل الذاكرة الحق المعرض للنسيان . ثمة حق هناك في (شهادة الميلاد للصفصاف في حجر خريفي) وفي (العشب بين مفاتن الأنقاض). يريد درويش العودة من ذلك البياض إلى كل ما ذكرناه آنفا ً ولذلك يقول : (فيا قلب يا قلب أرجع خطاي إلىَّ لأمشي إلى دورة الماء وحدي نسيت ذراعيَّ ، ساقيَّ ، والركبتين .... نسيت وظيفة عضوي الصغير نسيت التنفس من رئتي َّ نسيت الكلام أخاف على لغتي فاتركوا كل شيء على حاله وأعيدوا الحياة إلى لغتي) فاللغة التي هي علة الذاكرة والوجود، هي أيضاً مجاز الوطن المحذوف من الحاضر: (لا أريد الرجوع إلى بلد بعد هذا الغياب الطويل .... أريد الرجوع ، فقط ، إلى لغتي في أقاصي الهديل)