* "أيها المسلمون" ليت شعري ما التدبير "أنا لا أدري من أنا.. أي أرى واحداً وأنشد واحداً، وأعلم واحداً وأقرأ واحداً " جلال الدين الرومي. لا تخلو تناجيات عبدالله ناجي الشعرية من النزعة الإنسانية العالمية والتي تتمظهر وتذوب في سياقات شعرية متنوعة كالاغتراب الحياتي والتوحد مع المحبوب والإيمان بأن الإنسان خلق من طين. فالصوفيون يؤمنون بأن الإنسان خلق من طين ومصيره للتلاشي والموت. ولعل هذا دافع المتصوف ليقف مع نفسه وأحوالها في ملابساتها مع أمور الحياة المادية. وفي هذا النسق يتعاطى عبدالله ناجي مع نفسه في مواقع شعرية عديدة منها نص (اللا شيء) ونص (السقوط إلى ذروة المشتهى) وسماء هانئة "وأنا جسد"؛ حيث تتضافر كل هذه النصوص لرسم مشاهد شعرية مكثفة في تجادل الذات مع الذات والنفس مع النفس والروح مع الروح بصيغ حوارية تعمد للخيال المكثف والصور الغرائبية أحياناً. ففي نص لا شيء ثمة لا شيء يعني هذه الذات المتنسكة، فناجي يعلن منذ بدء النص "اللوح؟؟" يرسم هذه الاستفهامات بأنه نص مغاير للنصوص الألواح الأخرى. إذ إنه لا يحمل رقما كما رُقمت بقية الألواح الأخرى، فهو إذن سائر للمجهول، إضافة إلى أن هذا العنوان موحٍ بالعدمية والتي يؤكدها هو بداخل النص الأم حين قال: الصمت بوابة اللاشيء كيف مضى صمتي إلى عدم الأشياء واختبأ؟ ناموس أوهامي الكبرى مذ اختلجتْ حقيقتي... هذه العدمية في نواميس الحياة أمر التفكير بها طبيعي، إذ تسوق الذات تساؤلات الوجود. من أنا ألقى لي النبأ. كينونتي. كان هذا الكون رهن فمٍ كن .. كنتُ من حينها اليزان والحمأ تعاستين وهذي الأرض راغبة ستنجب الأرض من أمطاري الكلأ هب لي مزيداً من الأشياء فانفتحي على اشتهائي جنوناً بعدُ ما ابتدأ... هذه التحاورات بين الذات والذات كلها تسعى للوصول إلى أداة المعرفة الصوفية والتي لا يصلون إليها إلا بعد مجاهدة كبيرة لكل رغائب النفس الدنيوية. ثمة أمر آخر ضمن أنساق تلك التناجيات يستشعرها قارئ ناجي إذ يُشكل الموت بكل تعالقاته جزءا مهماً في تجربة الشاعر المتصوفة. فالموت مرحب به والفناء عنده حاله مرغوبة ودرجة مطلوبة ولأجلها يفعل المتصوفون الأفاعيل بأنفسهم. يقول ناجي: هنالك بعضُ موتٍ أو حياةً تشتهي موتي أغيب.. تفيق أسئلتي أفيق أنا فلا تأتي والموت غالباً ما يجتمع مع المشيئة والقدرية والتمجيد. هناك أنا... أنا المفطور من قلق السماء تهيئا للموت. إن المجد للموتى وإن كان الفناء مطلبا تصوفيا نجد له في ديوان ناجي أبعاداً جمالية أخرى كالفناء في المحبوب ومعه: فنحن لحنان مصلوبان في وطن وعمرنا قصة مشروخةٌ وصدى الحرية... "التصوف أعطى الحرية بعداً جديداً، معنى جديداً أعتى أو أعمق.. فهي في التصوف تصاعد مستمر نحو لا نهاية (المطلق). إن التجربة الشعرية لدى المتصوف "ذات طبيعة خاصة ليس من أغراضها – غالبا - قضية التواصل والتوصيل بالمعنى المفتوح، بل الدافع الأساسي هو التعبير عن معاناه من نوع ما، فمن ما عرف عندهم "ما يدرك ولا تحيط به الصفة ويكون عندها التوصل! مهملا أو ثانويا، ولفئة مخصوصة من أهل العرفان. فالشوق محل الإجمال والرموز والألغاز والثورية". ومن أجل هذا اكتنزت أشعارهم بفيوضات نورانية من معاني الحرية والانطلاق متسامين بها عن كثافة الحسي الحياتي. في ألواح ناجي تجد في الرؤية الشعرية نشيداً يشدك تجاه حرية الذات، فهي منذ مطلع نص (نشيد الألواح) تنبه قارئها بلم الجازمة على أنها تؤمن بأن الإنسان خلق من ماء وطين وعليه بعد جهد المناجاة والاعترافات الوصول إلى مرحلة التواصل المفتوح.. مرحلة الحرية غير المعينة والتي تسمح له بحياة أخرى حياة توصله بالمطلق وتأخذه نحو الكمال: لم أقترف لغة أعلى .. ولدتُ بلا دم نبيل دمائي الماءُ والحجرُ.. لم آت من رحم ظلماء صرت هنا أخفي دمي في شراييني وأستترُ بحثتُ عن جسدٍ ثانٍ أحلُ به كينونتي وحدتي أحيا.. وأحتضر.. يتبع... * ناقدة وأكاديمية سعودية