"عموشة تحمص القهوة بنفسها، تضع حبوبها الخضراء في المقلاة الحامية، فوق النار، تقلّب حباتها حتى تسمرّ.. أهل نجد لا يحبون القهوة السوداء، يحبونها بنية خفيفة، كوجه بدوي لوحته الشمس. تطحن عموشة حبات القهوة قليلاً.. تترك نصفها خشناً.. تقذف بفنجان واحد في ابريق ماء، يموج ماؤه على نار هادئة، حتى يغلي، ثم تضع عموشة نصف فنجان آخر من الهيل المطحون، في قلب القهوة التي تفور كروح عطشى للعناق، وهي تخطف قطع الهيل الناعمة وتغمرها بالموج الأسمر، تلتهم موجاتها الهيل الثائر برائحته الزكية، تنتشر رائحة العناق الساخن في المكان.. تتقلب القهوة مع الهيل في موج فائر حتى الفيضان.. عموشة لا تمنح القهوة فورة كاملة، فحالما تكاد الفورة أن تكتمل تزيح عموشة "الدلة" عن رأس اللهب فتستريح القهوة وتركد.. تعيد عموشة قاع الدلة إلى رأس اللهب مرة أخرى فتطيش القهوة بجنون آخر، يرفع الفوران قشور الهيل اليابسة إلى أعلى في دورة جديدة، ثم يهبط بعد ثلاث فورات لا أكثر تطفئ عموشة رأس اللهب ثم تسحب الدلة من على سطح عين الفرن الساخنة.. تهدأ القهوة...". هذا المقطع من الصفحة الثانية من رواية هند والعسكر للكاتبة بدرية البشر.. إنها قهوة لا مثيل لها.. وكنت كقارئ وكاتب أتمنى لو نشرت الرواية كاملة في هذه الزاوية.. فما من جملة أو مقطع إلا ويحتوي كل منهما على جزء من ذاكرتنا وحياتنا الجمعية.. تاريخاً وحاضراً.. وتعتمد الكاتبة على معرفة اجتماعية وانثروبولوجية عميقة بتكويننا الثقافي.. توظف معرفتها بحنان الأم على وليدها.. تضعنا أمام أنفسنا بهدوء لا مثيل له.. وإذا كان الآثاريون يبحثون في جوف الأرض.. فإن الكاتبة اختارت مهنة البحث في الرؤوس والنفوس وبجدارة.. في "هند والعسكر" بحث ومواجهة، بحث في تكويننا ومواجهة لعيوبنا، واقتناص مرهف لتلك اللحظات التي لا يراها إلا المبدع.. في العمل، في الشارع، في البيت، في شروط الحياة، في استلاب الكائن وفي مقاومته وتحولاته. إنها حكاية نجدية تمتد من ليلى العامرية إلى الكاتبة.. لكن نجداً تتسع لتصبح بمساحة المملكة.. بامتداد تاريخها وتنوعه، بقهوتها التي لا مثيل لها..