قد لا يكون هذا التوصيف مطابقا لواقع التجاذبات التي تعيشها أول تجربة حكومية يقودها حزب إسلامي. لكنه لا يلغي أن القبضة التي كان يمسك بها عبد الإله بن كيران زمام المبادرة في طريقها إلى الارتخاء. وبعد أن ساعد اعتقاد أن المعارضة قد تخلق له المزيد من المتاعب، جاءت المفاجأة من داخل الائتلاف الحكومي في ضوء تلويح قيادة «الاستقلال» أنها لن تذهب أبعد في مجاراة ما تعتبره أخطاء في التدبير. السؤال الأهم لا يطاول أسباب وخلفيات الخروج إلى العلن، فقد كانت التجاذبات متوقعة من حزب مثل «التقدم والاشتراكية»، يختلف في مرجعيته عن «العدالة والتنمية». لكن صدورها من «الاستقلال» ذي المرجعية الإسلامية والتجربة الغنية في المعارضة والحكم، يفيد أن خلف الأكمة ما هو أكبر من تناقضات في أسلوب التدبير. أقله أن الاجتماعات الحكومية ولقاء لجان التنسيق المنبثقة من الغالبية، كان في وسعها استيعاب أي تباين في وجهات النظر، طالما أنها لا تمس جوهر الالتزامات التي أدت إلى تشكيل الحكومة بعد مشاورات عسيرة. غير أن خروج الخلافات إلى العلن، إن كان في ظاهره يعكس نزوعا نحو الشفافية، فإن كلفته ستكون باهظة، أكان بالنسبة لرئيس الحكومة الذي يتعين أن يحسم في الخلافات الناشئة من دون انتظار، أو بالنسبة لشريكه «الاستقلال» الذي لم يعد في إمكانه مواصلة الالتزامات الحكومية وكأن شيئا لم يقع. ذلك أن تشخيص الأزمة الحاصلة تحول إلى أزمة سياسية تهدد الوفاق الحكومي، في حال اختار الشريك «الاستقلالي» منطق الهروب إلى الأمام. وانسحب الأمر على واقع التجربة الحكومية وهي تدلف نحو عامها الثاني مثقلة بالانتقادات، أقلها أن التصدع الداخلي سيشل من حركتها، وقد يدفعها إلى معاودة النظر ليس في أسلوب التدبير فقط، بل في صيغة التحالفات الممكنة إذا افلت الوضع عن السيطرة. ثمة مخرج يلوح في الأفق، أقربه أن رئيس الحكومة الذي بدا أكثر تشددا في الوفاء بالتزامات حكومة سلفه عباس الفاسي، إزاء إرضاء المركزيات النقابية، عمد إلى فتح ثغرة في جدار التشدد. ودعا إلى طبعة جديدة من الحوار الاجتماعي، في حضور الأطراف الثلاثة (الحكومة والمركزيات النقابية ومقاولات رجال الأعمال). واذا أسفرت اللقاءات عن معاودة النظر في موقف الحكومة، فإن ذلك سيقطع الطريق أمام الفريق الاستقلالي، كما سيحقق من خلاله مكسبا اجتماعيا يذيب جليد الخلافات السياسية المتراكمة. غيرت الحكومة من نبرتها بعض الشيء. وبدت أكثر استعدادا لإرضاء الشركاء الاجتماعيين، بخاصة أرباب المقاولات الذين ناهضوا الموازنة المالية بشدة. وفي حال انسحاب الموقف على طلبات المركزيات النقابية التي لجأت إلى تحريك احتجاجات الشارع، فإنها ستكون امتصت بعض أشكال الغضب، إذ ترضي النقابات وتعزز الموقف التفاوضي للشريك الاستقلالي. هذا إن لم تكن التجاذبات التي اعتلت السطح تخفي غليانا من نوع آخر، يتفاعل خارج رغبات الائتلاف الحكومي. ولعل ما قصده زعيم «الاستقلال» حميد شباط حين شبه «العدالة والتنمية» المغربي أنه يسعى لاستنساخ تجربة «الإخوان المسلمين» في مصر يحتمل أكبر من جزئيات الانتقادات الموجهة ضد الحكومة. إذا كان صحيحا أن إسلاميي المغرب أفادوا من صعود نجم الإسلاميين في بلدان الربيع العربي، فالصحيح أيضا أن الوضع يبدو مختلفا لناحية التزام كل الشركاء السياسيين في المعارضة والموالاة سقفا وفاقيا، عدا أن «العدالة والتنمية» بات يتصرف كحزب سياسي وليس كتنظيم إسلامي، ما يعاود طرح السؤال حول مآل التجربة الراهنة التي لا تنفصل عن توجهات استباقية في احتواء أي تصعيد. ففي الوقت الذي لم يكن فيه أحد يتصور أن في امكان المعارضة أن تحكم البلاد، جاءت تجربة التناوب لتنقل أكبر معارض مغربي من سنوات الاعتقال والنفي إلى رئاسة الوزراء. والحال أن مجيء الإسلاميين إلى الحكم لا يختلف عن هذه التصورات، بخاصة في ضوء ضغوط الشارع والرغبة في ملامسة تغيير هادئ يحفظ الاستقرار ويهذب شوائب الفساد والاستبداد، ما يعني أن لا مصلحة لأي طرف في أن تتعرض التجربة إلى نكسة. بين أن تكون رغبة «الاستقلال» تعكس جانبا من هذا الحرص، وبين أن تنقاد إلى معترك آخر، هناك مسافة دقيقة مثل حد السيف. ويبقى أن هذا التفاعل يملك في ذاته عناصر مشجعة، ليس أبعدها أن الرقابة على الحكومة لم تعد حكرا على المعارضة بل تجاوزتها إلى بعض شركاء الحكومة. غير أن كتلة «العدالة والتنمية» في مجلس النواب اختارت بدورها أن تدخل على الخط، فقد دعت إلى إقرار قوانين تسمح لمراقبين دوليين بمراقبة الاستحقاقات الانتخابية القادمة، ودلالات ذلك أن الرهان على نزاهة منافسات البلديات سيكون حدا فاصلا بين مختلف اللاعبين، داخل الحكومة وفي المعارضة.