على عكس ما كان يتصوّر كثر خلال انعقاد دورة العام الفائت لمهرجان «كان» السينمائي، خرج ناني موريتي من مولد تلك الدورة بلا حمّص. بدا يومها أن فيلم المشارك في المسابقة الرسمية «صار عندنا بابا»، لم يقنع لجنة التحكيم بإعطائه أية جائزة تذكر. يومها لم يعلق موريتي على الأمر كثيراً، حتى وإن كان المقربون شعروا أن ثمة شيئاً من المرارة اعتراه. فالرجل اعتاد على الجوائز منذ بداية مشاركاته المهرجانية قبل نحو أربعين عاماً من الآن، بل وصل ذات مرة إلى نيل سعفة كان الذهبية، وكان ذلك في عام 2001 عن رائعته «غرفة الابن»، علماً بأن «كان» نفسه كان قبل ذلك بسبع سنوات (1994) قد منحه جائزة الإخراج عن تحفته الأخرى «كارودياريو». طبعاً لا يتسع المجال هنا لتعداد الجوائز التي نالها موريتي عن معظم أفلامه ليس في «كان» وحده، بل كذلك في «البندقية» و «برلين» و «شيكاغو».. وفي عدد كبير من المهرجانات، في وطنه الإيطالي. لم يفز موريتي، إذاً، في «كان» الفائت، ولكن قبل أن تنتقل المرارة منه إلى معجبيه، وهم كثر، كان التعويض قد أتاه: تم وسط تكتم شديد أول الأمر اختياره رئيساً للجنة التحكيم لدورة هذا العام. وهكذا، ما حرم منه صاحب «صار عندنا بابا» في العام الفائت، سيعطيه لغيره هذا العام. لمن سيعطيه؟ طبعاً لا نعرف، ولكننا نعرف أن المهمة لن تكون سهلة. وهي مهمة سيقوم بها موريتي، كعادته، بدقة ونزاهة على الأرجح، في رفقة زملائه الأعضاء الآخرين في لجنة التحكيم: الفلسطينية هيام عباس والمخرجة الانكليزية اندريا آرنولد (صاحبة جائزتين من لجنة التحكيم في «كان» نفسه عامي 2006 و2009)، والممثلة الفرنسية ايمانويل ديفوس، وزميلتها الألمانية الأصل ديان كروغر (شاهدناها خاصة في «سفلة سيئو السمعة» لكوينتين تارانتينو، في «كان» نفسه قبل أعوام)، والممثل البريطاني ايون ماكغريغور، إضافة إلى مصمم الأزياء الفرنسي الشهير جان - بول غوتييه، والمخرج الأميركي ألكسندر باين (من أبرز وآخر أفلامه «الأحفاد» مع جورج كلوني الذي كاد ينتزع أكثر من «أوسكار» هذا العام، وأخيراً المخرج والكاتب راؤول بيك من هايتي الذي كان شارك في دورات سابقة ل «كان» بخاصة بفيلمين مميزين هما «رجل على الرصيف» و «لومومبا». مع مثل هذه الصحبة، من المؤكد أن ناني موريتي سوف يشعر بالراحة. فالرجل وقبل أي شيء آخر، هاوي سينما ومحبّ للجانب المتقدم منها. ولعل خير صورة تعبر عن هذا، ليس أفلامه التي بات عددها يربو على العشرين، كمخرج، والثلاثين كممثل، وليس عشرات الجوائز التي نالها، بل ذلك المشهد الذي يصوّره في الفيلم القصير «يوم افتتاح عرض فيلم لقطة مكبرة»... الذي حققه و «مثله» في عام 1996، مبرزاً فيه مشهده كمدير لصالة مسرحية/ سينمائية يحمّس المارة للدخول ومشاهدة فيلم عباس كيارستمي، «صورة مكبرة» (1996). هنا يمكننا أن نقول أن موريتي، قال في هذا المشهد أشياء كثيرة، من خلال تعبيره عن حب السينما، ولكن أيضاً حب الاكتشاف والوقوف أمام ما يتصوره قضايا عادلة... ولا ريب أن جرّ الناس لمشاهدة فيلم «مجهول» يعتبر بالنسبة إليه قضية عادلة. لعبة السياسة والذات غير أن موريتي يحب هنا أن يوسع البيكار كثيراً: فهذه القضايا بالنسبة إليه ليست سينمائية فقط، بل هي سياسية واجتماعية أيضاً، وكيف لا يكون الأمر كذلك لدى سينمائي، «جابه» في سينماه، وعبر عقود من السنين طويلة، الدعائم القوية والسياسية الثلاث للحياة السياسية في إيطاليا: الحزب الشيوعي واليمين البرلسكوني... والفاتيكان. ولئن كانت هذه المجابهة حاضرة في معظم سينماه، التي بدأ يحققها منذ عام 1973، فإن في الإمكان هنا ذكر ثلاثة أفلام على وجه الخصوص تجلت فيها: «الحماقة الحمراء» و «أحلام ذهبية»، بالنسبة إلى معركته «الداخلية والذاتية» مع الحزب الشيوعي الإيطالي؟ و «الكايمان» بالنسبة إلى معركته مع برلسكوني، وأخيراً «صار عندنا بابا» بالنسبة إلى معركته مع الفاتيكان، وهو لئن كان يشعر بالزهو حين يقال له انه حقق انتصاراً في المعركتين الأوليين (الشروخ العميقة التي أصابت جمود ذاك الحزب الذي كان الأقوى في إيطاليا على رغم أخطائه ذات يوم، وسقوط برلسكوني المدوّي بعد ذلك)، فإنه ينبه، إلى أن «صار عندنا بابا» لم يكن، بالنسبة إليه فيلم معركة مع الفاتيكان، بل فيلماً هو كناية عن طرح همومه السينمائية والذاتية، جعل من انتخاب البابا واستنكاف هذا الأخير، مجرد ذريعة لها. مهما يكن لا بد من إشارة أخيرة في هذه العجالة، إلى أن الهم الذاتي، ممزوجاً بالهم السينمائي، وغالباً في شكل جعل البعض يطلق على موريتي لقب «وودي آلن إيطاليا»، حاضر بدوره في كل سينماه، ولكن خاصة، قبل الفيلم الأخير الذي يمثل فيه دوراً رئيسياً، في الفيلمين الذاتيين جداً والمتكاملين «كارد دياريو» (أجندتي العزيزة) و «أبريل»، اللذين بدوا في نهاية الأمر أشبه بمدونات يومية في حياة مخرج سينمائي طريف وعميق الفكر، يكاد يكون هو نفسه ناني موريتي.