ها هم يعودون من جديد... ليس كلّهم بالطبع، ولكن عدداً لا بأس به منهم. الباقون كانوا هنا في العام الفائت ومن بينهم من سيعود في العام المقبل. ومنهم من هو هنا للمرة الأولى. في فيلم أول أو حتى بعد مسيرة طويلة من دون ان يسبق للمهرجان ان احتفل به. تأخير يجابه عادة بالعبارة التبريرية الأشهر «ان يأتي متأخراً خير من الا يأتي ابداً». هم في الإجمال نجوم «كان»، المهرجان السينمائي الأشهر في العالم والأكثر إثارة للإهتمام عاماً بعد عام. وحين نتحدث عن «النجوم» في سياق ايّ كلام عن مهرجان «كان» لا يتوقّعنّ منا احد ان نتحدث عن الممثلين او الممثلات او عارضات الإزياء او غيرهم من اولئك الناس الذين تقفز اسماؤهم وصورهم الى الإذهان ما ان تذكر كلمة «نجم»... الحكاية اننا هنا في «كان» انما نتحدث عن نجوم من نوع آخر: عن مبدعي السينما، مخرجي الإفلام وربما كتّاب السيناريوات في بعض الأحيان. هؤلاء هم النجوم في مهرجان مثل «كان». حسناً، لا يعني هذا ان النجوم الآخرين غائبون ولا مكان لهم. على العكس انهم حاضرون وبقوة وبهرج وبخاصة عندما يتعلق الأمر بالسجادة الحمراء والصعود الإسطوريّ عليها. ولكن في الحقيقة، وعدا عن لحظة السجادة الحمراء السحرية والساحرة، يكاد يكون الأمر وقفاً في بقية اللحظات «الكانيّة» على صانعي الأفلام انفسهم. من هنا لا يقال في كان ان هذا الفيلم فيلم جوليا روبرتس او توم كرويز او جوني ديب... يقال ان الفيلم فيلم وودي آلن او لارس فون تراير او تيرنس ماليك... وهكذا. في نهاية الأمر ربما نكون شططنا هنا وأوردنا اسماء ليست حاضرة في دورة هذا العام... بيد ان ما يشفع لنا هو اننا نقول هذا في شكل عام من دون ان نحصر انفسنا في دورة هذا العام من «كان» التي تقام بين السادس عشر والسابع والعشرين من الشهر الجاري في تلك المدينة السياحية الفاتنة في الجنوب الشرقيّ الفرنسي. خيبتان وأكثر منذ البداية لا بد من التعبير عن خيبتين، اولاهما ان تيرنس ماليك المخرج الأميركي من اصل لبناني الذي عرف بقلة اعماله (5 او 6 افلام خلال ما يزيد على ثلث قرن) لم يحقق هذا العام «المعجزة الصغيرة» التي كان عالم السينما ينتظرها بدهشة منذ اكثر من عام: لا يحضر في «كان» هذا العام بفيلم تالٍ لفيلمه «شجرة الحياة» الذي كان فاز العام الفائت بالسعفة الذهبية في «كان» نفسه. كانت الحكاية تقول ان ماليك وبعد صمت طويل، اشتغل على فيلمين في وقت واحد هما «شجرة الحياة» وعمل ثان حققه بعده مباشرة وانه اذا كان الأول عرض في الدورة السابقة فإن الثاني سيكون مفاجأة هذه الدورة. في النهاية لم ينجز ماليك فيلمه لكنه سيكون في غيابه على الأرجح أكثر حضوراً من كثر حاضرين. فذلكم هو تيرنس ماليك وتلكم هي اسطورته. غياب آخر سيكون ملحوظاً هو غياب اميركيّ آخر: بول توماس آندرسون (صاحب «ستكون هناك دماء» و «ماغنوليا» بين تحف سينمائية أخرى). كان حضور آندرسون هذا منتظراً حتى اللحظات الأخيرة. ولكن أعلنت في النهاية اسماء الأفلام المشاركة من دون ان يكون من بينها اسم فيلمه الجديد «السيد»... ربما لم ينجزه بعد، وربما آثر ان يخصّ به مهرجان البندقية المنافس ل «كان»... لا يعرف احد شيئاً حول هذا الأمر حتى الآن. ولكن لئن غاب بول توماس آندرسون هذا فإن ثمة في دورة «كان» آندرسون آخر وتحديداً في ليلة الإفتتاح وخارج المسابقة. انه فيس آندرسون الذي «يكتشفه» مهرجان «كان» للمرة اللأولى بعدما اكتشفه الجمهور السينمائي المتطلّب والمهرجانات الأخرى منذ زمن بعيد وبات يعتبر من علامات السينما الكبيرة في الولاياتالمتحدة. فيلم فيس آندرسون الذي يفتتح المهرجان اذاً، هو «مملكة القمر المشرق»... ونرجو الا يعتقد القارئ هنا ان في الأمر فيلماً صينياً وتاريخياً كما قد يوحي العنوان. ذلك ان لدينا فيلماً اميركياً خالصاً هنا تدور حكايته في اوساط مخيّم كشفي وحبكته من حول طفلين يهربان ويختفيان معاً ويبدأ البحث عنهما. للوهلة الأولى يبدو الموضوع خفيفاً مسلياً، او حكاية رعب مثلاً. ولكن لا هذا ولا ذاك. بل هو فيلم يقال منذ الآن ان غرابته وقوته سيشكلان مفاجأة حقيقية... فلننتظر اذا ونر!! اذا كنا اول هذا الكلام قد أشرنا الى ان «معظمهم» هنا حاضرون، يبدو ان الوقت حان لنوضح الأمر: فمن نقصد بكلمة «معظمهم» انما هم مخرجو «كان» من كبار سينما اليوم الذين كانت في «كان» وخلال العقود والسنوات السابقة اطلالاتهم الأولى او الأهمّ على الجمهور السينمائي العالمي... هؤلاء الذين ما برحوا يعودون دائماً بجديدهم دورة اثر دورة وغالباً من حيث لا نتوقع منهم. وبعضهم كان من اصحاب السعف والجوائز وما الى ذلك في دورات سابقة. وهكذا بين الأسماء الكبيرة في هذه الدورة الإيراني كياروستامي والإنكليزي كين لوتش والبرازيلي والتير ساليس والفرنسي المخضرم آلان رينيه والكندي دافيد كروننبرغ والإيطالي الكبير برناردو برتولوتشي والنمسوي ميكائيل هانيكي والإيطالي ماتيو كاروني والفرنسي جاك اوديار والسويدي توماس فرتنبورغ... وعشرات غيرهم طبعاً... من الذين سنعود اليهم والى اعمالهم الجديدة حالما تشاهد طوال ايام المهرجان ولياليه. الأدب الأميركي الحديث منذ الآن لا يمكن بالتأكيد قول الكثير عن هذه الأفلام على رغم المعلومات الكثيرة المتوافرة... ولكننا نعرف ان الكلام عنها لن يتوقف حتى نهاية العام، اذ من المنطقي ان ما يعرض في «كان» اضافة الى ما يعرض في المهرجانين المنافسين «البندقية» و«براين»، هو في كل عام غذاء محبي السينما الحقيقيين. ومع هذا يمكن ايراد اشارات تمهيدية حول الاتجاهات العامة للأفلام سواء أكانت مشاركة في المسابقة الرسمية أم في تظاهرات أخرى. علماً أن التظاهرات الأخرى تكشف دائماً عن وجود تحف ومحطات سينمائية مدهشة. منها هذا العام مثلاً تكريم راحلين حديثاً، هما كلود ميلر وراؤول رويث بعرض آخر ما حققاه، الأول بفيلم «تيريز ديكيرو» المأخوذ –من جديد- عن رواية معروفة للفرنسي فرانسوا مورياك، في ختام المسابقة الرسمية، والثاني بعرض فيلمه الأخير ايضاً «ليلة الرعب» عرضاً خاصاً في «خمسعشرية المخرجين»... كذلك فإن تكريماً خاصاً سيكون من نصيب الأميركي فيليب كوفمان الذي سيقدم في المقابل درس السينما وسيعرض له فيلمه الأخير «همنغواي وجيلهورن» وهو فيلم منتظر بقوة .أولاً لأنه يروي حكاية العلاقة والزواج بين احدى اكبر الصحفيات الأميركيات في القرن العشرين وكاتب اميركا الروائي الأشهر ارنست همنغواي... وثانياً لأن كوفمان نفسه غائب عن الشاشة منذ زمن. مهما يكن من أمر، فإن همنغواي لن يكون الأديب الأميركي الوحيد الحاضر في «كان»... فأدب الأميركيين الحديث حاضر بقوة من خلال جاك كيرواك وروايته الأسطورية «على الطريق» (التي أسست لجيل البيتنكس وأدبه في الخمسينات من القرن العشرين) وهي رواية لم يخل تاريخ السينما المعاصرة في اميركا من مخرجين حلموا بأن ينقلوها الى الشاشة الكبيرة وكان آخرهم فرانسيس فورد كوبولا الذي اشترى الحقوق وداعب الحلم سنوات قبل ان يتنازل عن المشروع لوالتر ساليس ما ان شاهد فيلماً سابقاً له هو «يوميات سائق دراجة بخارية» المتحدث عن جولة المناضل الأرجنتيني غيفارا في اميركا اللاتينية يوم كان طالب طب شاباً. هذا الفيلم اقنع كوبولا يومذاك بأن مشروعه سيكون في ايد امينة. فكان ان حقق ساليس الفيلم عن النص الذي اشتهر باستحالة أفلمته. اما نحن المنتظرين الفيلم منذ سنوات، فما علينا الا انتظار بضعة ايام اخرى لنعرف ما اذا كان سيشكل حياة جديدة لرواية كيرواك ام انه سيسفر عن خيبة امل تشابه كل خيبات الأمل التي كانت من نصيب كلّ الأفلام التي حققت انطلاقاً من أدب الخمسينات المركّب والصعب! في المقابل علينا ايضاً ان ننتظر بعض الوقت لنرى ما الذي فعله دافيد كروننبرغ برواية دون ديليلو النيويوركية بامتياز «كوزموبوليس» التي تحكي عن يوم في سيارة تجوب مانهاتن امضاه الملياردير اريك باركر ليصبح حياة كاملة في يوم واحد على غرار ما يحدث في «اوليس» جيمس جويس، ولكن هنا في زمن الحداثة والبورصة وأحدث وسائل الإتصال و-ما بعد ايلول- 2001. تحكيم صعب وعرب حاضرون هذه الحداثة الطاغية لن تظلل مع هذا على افلام اخرى لكبار آخرين يتطلع بعضهم منذ الآن الى السعفة الذهبية التي ستخضع هذا العام لتحكيم لجنة يرأسها ناني موريتي، المبدع السينمائي الإيطالي الذي ادهش اهل السينما في العام الفائت ب «صار لدينا بابا»... هذه المرة لا يشارك موريتي بفيلم وانما بقيادة لجنة تحكيم تضم مبدعين معروفين في عالمي الإخراج والتمثيل من بينهم الفلسطينية هيام عباس والأميركي الكساندر باين والممثلتان دايان كروغر وايمانويل دافوس والممثل ايوان ماكغريغور... وهذه اللجنة ستتولى تعيين الفائزين بالجوائز الكبرى في نهاية الأمر. ومنذ الآن يمكن القول ان المهمة لن تكون هينة. ففي دورة مثل هذه ينتقل فيها كياروستامي الإيراني الى اليابان لتحقيق فيلم عن صبية تبيع جسدها لإكمال دراستها. ويصور ميكائيل هانيكي حكاية حب مدهشة بين عجوزين (جديده عنوانه «حب» الذي يعود فيه الى الشاشة والى «كان» بعد سنوات من سعفة ذهبية مميزة حازها عن تحفته «الرباط الأبيض»)... ويستعيد صاحب «هيروشيما يا حبي» آلان رينيه اشهر عبارة في فيلمه هذا وربما اشهر عبارة في السينما الفرنسية «انت لم تري شيئاً بعد» ليبني عليها عملاً جديداً يدور، تحت العنوان نفسه، من حول ممثلين يتجمعون من حول كاتب صديق لهم مات لكي يقرأوا وصيته... في دورة مثل هذه قد لا يحب المرء كثيراً ان يكون عضواً في لجنة تحكيم! غير ان هذا ليس كل شيء... فالدورة تعد منذ الآن بعروض كثيرة وربما مفاجآت لا يزال الوقت أبكر من ان يضعنا على تماسّ معها... لا سيما بالنسبة الينا نحن العرب... ولعل في امكاننا ان نقول منذ الآن ان الحضور العربي سيبدو هذا العام كبيراً، بل قد نقول استثنائياً وحتى ان نحن نحّينا جانباً وجود الممثلة والمخرجة الفلسطينية هيام عباس في لجنة التحكيم الرئيسية ووجود المنتجة المصرية ماريان خوري في لجنة تحكيم اخرى. ونحن اذا كنا سنعود الى هذا الحضور العربيّ اللافت في مناسبة اخرى فإن في وسعنا ان نقول منذ الآن، ان ما لا يقلّ عن اربعة من ابرز المبدعين السينمائيين العرب يشاركون هذا العام بجديدهم في تظاهرات «كانيّة» مهمة. وذلك بدءاً بالمصري يسري نصرالله الذي يخوض معمعة التنافس في المسابقة الرسمية الرئيسية بفيلمه الجديد «بعد الموقعة» (المتحدث كما يمكن ان نتوقع عن فرد من خلال ما بات يسمى في مصب «موقعة الجمل»)... وهذه المشاركة هي الأولى على هذا المستوى لمخرج مصري منذ «المصير» ليوسف شاهين في العام 1997، والأولى لمخرج عربي منذ مشاركة ايليا سليمان، قبل سنوات عديدة. وايليا سليمان يشارك بدوره ولكن ضمن سياق فيلم جماعي عالمي عنوانه «سبعة ايام في هافانا»... يدور من حول سبعة مخرجين رصد كل واحد منهم الحياة اليومية في العاصمة الكوبية وصورّها. وهذا الفيلم حققه سليمان الى جانب بنيشيو ديل تورو وكارلوس تابيو وكاسبار نوي ولوران كانتيه وغيرهم. ويعود الجزائري مرزاق علواش بدوره الى «كان» ولكن في «خمسعشرية المخرجين» بفيلمه الجديد «التائب» الذي يصوّر صعوبة عيش شاب كان منخرطاً في «الجهاد الإسلامي» ثم تاب من دون ان يعرف كيف ستكون حياته بعد ذلك. اما المخرج العربي الرابع الذي يؤمّن بدوره حضوراً عربياً لافتاً في «كان» فهو المغربي البارز نبيل عيوش بفيلمه الجديد «أحصنة الله» الذي يشارك في تظاهرة «نظرة ما». كلّ هذا، كما اشرنا، ستكون لنا ولغيرنا بالطبع عودة بل عودات اليه خلال الأسابيع المقبلة... فمهرجان «كان» الذي يعتبر عرساً سينمائياً سنوياً حقيقياً هو في زمننا هذا اكثر مهرجانات السينما في العالم اثارة لاهتمام الصحافة والإعلام بشكل عام... يشغل الكتّاب والقراء انما من دون ان يلهيهم عن شؤون العالم وشجونه. بل بالأحرى – واذا حكمنا عليه من خلال مواضيع الأفلام وهمومها - سنجده، كما في كل مرة، في صلب هذه الهموم... وذلكم سيكون بالتأكيد الجزء الأهم مما سيكتشفه المتفرجون خلال «كان» ومن بعده، وما سيتطرق اليه الكتّاب الذين يربو عدد من يحضر منهم في «كان» على الخمسة آلاف بين ناقد وصحافيّ ومتطفل كذلك.