لعلها من المفارقات النادرة أن تضطر التلفزيونات، التي تقتات على الصورة أولاً وآخراً، إلى التخلي عن وظيفتها الرئيسة المتمثلة في عرض الصور عبر اللجوء إلى عرض بعض المشاهد والامتناع عن عرض مشاهد أخرى، ل «بشاعتها وقسوتها». ولم يعد غريباً أن نسمع من مقدمي النشرات الإخبارية هذه الجملة: «تحتوي الصور على بعض المشاهد تمتنع المحطة عن بثها كاملة لبشاعتها»، وهم بذلك يلمحون الى «أن ما خفي كان أعظم». المُشاهد الذي يسمع هذه الجملة ويشاهد الصور «المرعبة» التي تليها، يتساءل: هل ثمة صور أكثر إيلاماً وقسوة مما يُرى من أشلاء قتلى ووجوه أطفال مهشمة و «دماء على الأسفلت» واستغاثات الجرحى وصرخات الثكالى وبيوت مهدمة على ساكنيها وشوارع أشباح خالية إلا من رائحة الموت...؟ وما يزيد الموقف تراجيدية، هو أن الناشطين والمصورين المبتدئين الذين يروون مأساتهم للشاشات، يرددون قولاً يحمل في طياته بلاغة مريرة: «ليس من رأى كمن سمع»، في إشارة إلى أن حرارة الواقع اليومي بكل صخبه وقتامته، لن تصل يوماً إلى الشاشات، مهما برع مصورو الهواتف الخليوية في توثيقها، وجازفوا بأرواحهم في سبيل ذلك. لا معايير واضحة تحدد لهذه القناة أو تلك عرض أجزاء من الصور والامتناع عن أجزاء أخرى، فهذه المعادلة خاضغة للسياسة الاعلامية والتحريرية للقناة، وهي متباينة، على أي حال، إذ يمكن أن نلحظ فروقاً بين محطة وأخرى. ولكن رغم هذه الفروق، ثمة -كما يبدو- اتفاق خفي بين معظم المحطات يقضي بالامتناع عن عرض مشاهد «تخدش الضمير الانساني وتهز الوجدان والمشاعر». وإذ يلتزم معظم الفضائيات بهذه القاعدة الأخلاقية، فإن الأذهان تتجه صوب من يقترف تلك المجازر التي تتسامى الشاشات عن عرضها! ها هو التلفزيون إذاً، الذي يستميت لأجل لقطة، ويكافح لأجل مشهد، ويكاد ان يحوّل تفاصيل الحياة برمتها إلى صورة على شاشة، يجد نفسه مضطراً إلى التنازل -نسبياً- عن هذا الدور. وحين تمتنع فضائيات عن عرض بعض الصور «لسبب أخلاقي»، ثمة في المقابل فضائيات تتجاهل الصور كلها «لسبب سياسي». ولئن كانت الفئة الأولى محقة في ما تذهب إليه «حرصاً على مشاعر مشاهديها»، فإن الفئة الثانية من الفضائيات تتجاهل تماماً ما عرضته شقيقاتها وما لم تعرضه، وهي بذلك تقوم بتضليل متعمد لتحقيق غرض سياسي. تلك إشكالية أخرى لا مجال للخوض فيها هنا، لكن الحقيقة البسيطة تقول ان تجاهل المأساة لا يعني أنها ليست قائمة، بل لعل التمادي في نكرانها دليل على وجودها، وبكثير من الحسرة يمكن أن يقال في حال كهذه: لحسن حظ الضحايا أن ثمة فضائيات تنقل همومهم وخساراتهم، وإن أحجمت عن عرض بعض تفاصيلها المؤلمة، في موازاة فضائيات أخرى لا تعرف شيئاً سوى «الإنكار والنفي والدحض»!