لعل من مفارقات السياسة والزمن أن تتحول تركيا (العدو التاريخي للأكراد) إلى الدولة الإقليمية الأكثر قبولاً بالاستقلال الكردي بعد أن تحول الأكراد من ورقة إلى لاعب إقليمي، وانتقلت مسألة إقامة دولة كردية من الأحلام والمستحيلات إلى الواقع والامكانات والمقومات. فالزعيم الكردي مسعود بارزاني لم يعد الرجل العشائري بنظر أنقرة بل بات يستقبل فيها بالسجاد الأحمر، والعلاقة مع أربيل لم تعد تمر ببغداد بعد أن أصبحت الأولى حليفاً سياسياً موثوقاً من الدرجة الأولى. ثمة سؤال جوهري يطرح نفسه: ما هي العوامل التي تقف وراء هذا التحول الكبير في العلاقة بين أنقرة وأربيل؟ في الواقع ثمة أسباب وعوامل كثيرة، لعل أهمها: 1- سياسة الانفتاح الكبير التي اتبعها مسعود بارزاني تجاه تركيا وتحديداً حكومة أردوغان، ولعل قناعة بارزاني بأن موقف تركيا يشكل الأساس أو المدخل لفتح نافذة في جدار الاتفاق الإقليمي المسبق على منع إقامة دولة كردية في المنطقة هي التي دفعته إلى انتهاج هذه السياسة وربما للحد من النفوذ الإيراني، وهو عندما فعل ذلك كان ينطلق من معادلة أن السياسة في النهاية تعني المصالح، وعند المصالح بات من الواضح أن ثمة كيمياء مشتركة بينه وبين أردوغان الذي وجد جملة من المصالح الحيوية في علاقة بلاده مع إقليم كردستان. 2- لعل ما سرع من وتيرة تحسن العلاقة بين أنقرة وأربيل هو التوتر الكبير في علاقة أردوغان بنوري المالكي والذي وصل إلى الاتهامات المتبادلة على الهواء مباشرة، ومعروف عن أردوغان انه كثيراً ما يميل إلى جعل قضايا السياسة الخارجية قضايا شخصية، لا سيما إذا كان الشخص من نوعية المالكي الذي ظهر التحالف بينه وبين طهران ودمشق إلى العلن. 3- جملة الفوائد التركية من العلاقة بإقليم كردستان، فعلى المستوى السياسي يمكن لقيادة الإقليم أن تمارس دوراً مهماً لدفع حزب العمال الكردستاني إلى القبول بحل سياسي للقضية الكردية في تركيا. وعلى المستوى الاقتصادي يشكل الإقليم سوقاً وبوابة اقتصادية لتركيا في ظل سياسة الاغراء الاقتصادي التي اتبعها الإقليم مع تركيا، فحجم التبادل التجاري بين الجانبين بلغ ما يقارب 12 بليون دولار، والشركات التركية استفردت بالنصيب الأكبر من المشاريع الخدمية والعقارية الكبرى حيث هناك أكثر من ألف شركة تركية تعمل في الإقليم، ونسبة ورادات الإقليم من تركيا تجاوزت 80 في المئة من اجمالي الورادات. 4- تطور العلاقة الاقتصادية مع إقليم كردستان على هذا النحو، سهل الانتقال إلى مرحلة استراتيجية في التعاون، وأقصد هنا الانتقال إلى إقامة خطوط أنابيب لنقل النفط والغاز من الإقليم إلى تركيا ومن ثم تصديره إلى الخارج، حيث تشير آخر التقارير إلى ان انتاج الإقليم من النفط بلغ 350 ألف برميل يومياً. وفي النهاية فإن الثروة التي يملكها الإقليم تشكل عنصر جذب قوي لتركيا، ولعل هذا ما يفسر عدم اهتمام تركيا بموقف بغداد في علاقتها مع أربيل. وفي الحسابات التركية، ربما ترى أنقرة أن العلاقة الجيدة مع إقليم كردستان تشكل ضمانة لعدم قيام تحرك كردي معادٍ لها سواء في الداخل أو الخارج، كما أنها تؤمن حليفاً مهماً في مواجهة التحالف الإيراني السوري وعراق المالكي. 5- وفي كل ما سبق لعب العامل الأميركي دوراً إيجابياً في تحقيق التقارب الهادئ بين أنقرةوبغداد والذي انتقل من التعاون في مواجهة حزب العمال الكردستاني قبل نحو عقد إلى الشراكة السياسية اليوم. هذه العوامل وغيرها هي التي تقف وراء التحول الكبير في العلاقة بين أنقرة وأربيل، وهو تحول يشير إلى وعي تركي متعاظم بتطورات القضية الكردية وآفاقها ومخاطرها معاً، على وقع التطورات والمتغيرات الجارية في المنطقة. لكن السؤال الجوهري وسط هذه الشراكة المتنامية، هو هل ما جرى يشكل تحولاً استراتيجياً نهائياً في موقف أنقرة من إقليم كردستان أم أنه نوع من المناورة التي فرضتها الظروف والمصالح والتطورات؟ تنبثق مشروعية السؤال من جملة عوامل، في المقام الأول من السياسة التركية التقليدية الرافضة قيام أي كيان أو دولة كردية في المنطقة، وفي المقام الثاني من أن الأكراد سواء في العراق أو تركيا او إيران أو سورية يبحثون عن دولة قومية توحدهم، فيما يعرف الجميع أن تركيا هي الدولة الأكثر عناية بالقضية الكردية تاريخياً نظراً الى حجم الوجود الكردي فيها (قرابة 16 مليوناً) على مساحة جغرافية تقدر ب225 ألف كيلومتر مربع، بما يعني ان إقامة دولة كردية في هذا الجزء ستهدد جغرافية الدولة التركية وربما تحيي من جديد اتفاقية سيفر بعد الحرب العالمية الأولى والتي أقرت إقامة كيان كردي في جنوب شرقي تركيا. في الواقع، ثمة قناعة تركية دفينة بأن أنقرة لن تتمكن حتى النهاية من وقف مسار التطور الكردي باتجاه الدولة، وانطلاقاً من هذه القناعة ربما ترى أن الانفتاح الإيجابي من خلال شكل من أشكال الاعتراف بالأكراد سيصب في النهاية لمصلحتها وسيساهم في إيجاد حل لقضيتها الكردية بأقل الخسائر، فالمشروع الذي أقره البرلمان التركي أخيراً ويقضي بالاعتراف بحزب العمال الكردستاني محاوراً رسمياً عن الأكراد بعد أن كانت أنقرة تصفه بالإرهاب طوال العقود الماضية، شكل منعطفاً كبيراً لجهة التقارب التركي- الكردي على رغم ان البعض يرى ان هدف أردوغان من ذلك هو الحصول على صوت الناخب الكردي لتحقيق حلمه في الوصول إلى قصر شنقاي الرئاسي في أنقرة. من الواضح، ان العلاقة التركية بإقليم كردستان العراق وصلت إلى مرحلة غير مسبوقة، وأن هناك الكثير من القضايا التي تجعل هذه العلاقة في تطور مستمر على طريق تحقيق التطلعات المتبادلة، ولكن، ماذا لو أعلن عن إقامة دولة كردية بعد الاستفتاء الذي دعا إليه بارازني؟ هل ستعترف تركيا بالدولة الكردية الوليدة؟ * كاتب سوري