أفرزت "الانتفاضة" الفلسطينية في سنوات عمرها الاربع واقعاً سياسياً داخلياً وخارجياً من شأنه ان يعيد تشكيل المشهد الفلسطيني العام الذي ساد في "مرحلة اوسلو" وقبلها، ليس فقط في ما يتعلق بالصراع مع اسرائيل، بل ايضاً في قضية مرتبطة جدلياً بها وهي البنيان السياسي الداخلي او "النظام السياسي" الذي يقف، كما المسألة الفلسطينية، أمام مفترق طرق. وفي "موسم جرد الحسابات" في الذكرى السنوية الرابعة لاندلاع "انتفاضة الاقصى"، ما لها وما عليها وانجازاتها وانتكاساتها ونقاط ضعفها وقوتها، تبرز الانتخابات العامة حاجة اساسية لمعظم الفلسطينيين، ليس فقط لأنها "حق وواجب"، بل لأن الشارع الفلسطيني يرى فيها طوق نجاة من وضع يشهد بوادر انهيار نظامه السياسي الذي فشل في توظيف الانتفاضة ومنجزاتها وتداعياتها وتقنينها في اتجاه اهدافهم المنشودة. ولم تُخفِ الحكومة الاسرائيلية برئاسة آرييل شارون منذ توليها سدة الحكم في اسرائيل نياتها في ما يتعلق بتغيير النظام السياسي القائم، سواء بتدمير اجهزته او محاصرة رئيسه والاعلان عنه في نهاية العام 2001 بأنه "غير ذي صلة" و"طرفاً معادياً" وإعادة احتلال مناطق السلطة الفلسطينية، او من خلال شعار "الاصلاح" الذي تبنته الولاياتالمتحدة وأطراف عربية ودفعت من خلاله نحو "قيادة بديلة" تتلاءم ورؤية اسرائيل وأميركا للحل. غير ان ذلك كله، لم يفد الاسرائيليين والأميركيين شيئاً، الى ان اتخذ المجلس التشريعي الفلسطيني قراراً بإسقاط حكومة الرئيس الفلسطيني الاخيرة قبل استحداث منصب رئيس الوزراء. وهنا، وبحسب اقوال نسبت الى دنيس روس المسؤول الاميركي السابق، طرق الرئيس جورج بوش على الطاولة بيده وقال: "الآن يمكن ان نشهد تغييراً وإصلاحاً في السلطة". غير ان الاصلاح والتغيير الذي تريده اسرائيل وأميركا لا يتقاطع مع ذلك الذي يريده الشارع الفلسطيني، بحسب استطلاعات الرأي الاخيرة التي غيبت وجوهاً قديمة، ورفضت وجوهاً وأسماء ساندتها واشنطن وتل ابيب علناً، ولكنها بينت في الوقت ذاته تأييد الغالبية العظمى من الفلسطينيين للتغيير والاصلاح والانتخابات نحو 83 في المئة. ومنذ "خطاب حزيران" الشهير للرئيس بوش عام 2002 والذي دعا فيه صراحة الى تشكيل "قيادة فلسطينية جديده"، شهد النظام السياسي الفلسطيني مجموعة من التغيرات والتحولات زادت من ضعفه وضعضعته. فكان ان شهد العام الثالث من الانتفاضة تنصيب اول رئيس وزراء فلسطيني بعد تعديل "القانون الاساس" في آذار مارس 2003 تحت ضغوط اميركية وإسرائيلية. وسرعان ما اعقب ذلك اعلان الولاياتالمتحدة بعد اكثر من شهر عن "خريطة الطريق" مشروعاً سياسياً جديداً لحل الصراع. وفيما كانت "القيادة الفلسطينية" محاصرة في رام الله وتساند كفاح الشعب الفلسطيني بما فيه الكفاح المسلح، اعلن رئيس الوزراء الفلسطيني الجديد محمود عباس ابو مازن في قمة العقبة الثلاثية في حضور شارون وبوش "وقف الانتفاضة المسلحة". وقبلت السلطة الفلسطينية "خريطة الطريق"، على رغم تحفظات شارون ال14 عليها والتي نسفتها. ولم يطل عمر حكومة "ابو مازن" الا حتى أيلول سبتمبر من العام نفسه حيث اعلن استقالته من خلال خطاب امام المجلس التشريعي، في وقت كان مسلحون فلسطينيون من "كتائب شهداء الاقصى" التابعة لحركة فتح يهددون ويتوعدون خارج قاعة المجلس. ولم يتوقف "الصراع على الصلاحيات" وتعدد الاستراتيجيات والرؤى في عهد رئيس الوزراء الفلسطيني الحالي احمد قريع ابو علاء الذي هدد في اقل من شهرين مرتين بالاستقالة. وخرج شارون بمشروع "خطة فك الارتباط" الاحادية الجانب والانسحاب من قطاع غزة وأربع مستوطنات في الضفة الغربية في كانون الاول ديسمبر من العام 2003، وتعاطت السلطة الفلسطينية مع هذه الخطة مع تأكيد أنها يجب ان تكون في اطار خطة خريطة الطريق على رغم اعلانات شارون المتكررة ان هذه الخطة "بديل" عنها. ويعزو المحلل السياسي الفلسطيني هاني المصري ضعضعة النظام السياسي القائم "وطرح وجوده برمته على بساط البحث" الى اسباب عدة ابرزها "فشل السلطة الفلسطينية في بلورة استراتيجية وخطوط العمل والاهداف بعدما انهارت استراتيجية السلام والمفاوضات بفشل اوسلو، وباتت تتعاطى مجموعة من الاستراتيجيات المتداخلة والمتناقضة من دون ان تعتمد اياً منها، وتبنت سياسة الانتظار والانفعال مع الاحداث اكثر من التأثير فيها". وأضاف: "اعتقد ان النقطة المفصلية التي ادت الى بدء هذا الانهيار في النظام السياسي هي عدم تجاوبها مع متطلبات العمل السياسي بعد 11 ايلول في ما يتعلق بالعمليات الاستشهادية، والتي اذا كانت قابلة للاجتهاد قبل هذا التاريخ، الا انها اصبحت خطيئة بعده لأنها وفرت لشارون المزج بين الارهاب والنضال الفلسطيني المشروع دينياً ودنيوياً واستمرت في توظيفها تكتيكياً او استراتيجياً". ورأى السكرتير العام ل"المبادرة الوطنية الفلسطينية" مصطفى البرغوثي ان الفشل الاكبر الذي يسجل على السلطة الفلسطينية هو "عدم تقديم رسالة واحدة واضحة لا للشعب الفلسطيني ولا للعالم ولا حتى للعدو الاسرائيلي. السلطة الفلسطينية واصلت ولا تزال حتى اللحظة اعطاء رسائل متناقضة. فمن جهة تساهم في تنظيم الكفاح الوطني بما في ذلك الكفاح المسلح ثم تدين العمليات المسلحة، وتدعو الى حركة تضامن دولي فيما لا تقوم بواجبها الاعلامي بشرح رؤيتها للعالم، وتتحدث عن الالتزام ببرنامج منظمة التحرير فيما تبدي مرونة إزاء خطة شارون ويشارك احد اعضاء اللجنة التنفيذية في هذه المنظمة في اتفاق جنيف الذي يلغي حقوق اللاجئين ويلغي سيادة الدولة الفلسطينية ويعطي 80 في المئة من القدسالشرقية للإسرائيليين. هذه الازدواجية في الخطاب السياسي اكبر خطأ ويجب ان تتوقف". مفترق طرق وأمام مفترق الطرق الذي تقف فيه السلطة الفلسطينية، يرى الكثيرون انها تواجه خيارين: إما ان تسارع الى تشكيل قيادة وطنية موحدة تأخذ في الاعتبار المتغيرات الحاصلة في البنيان السياسي الداخلي وتمسك بزمام المبادرة في انتظار نتائج انتخابات سياسية او تتحول الى وسيط او "وكيل" للاحتلال بأن تكون سلطة في بانتوستات مغلقة ومفتتة الاجزاء. أما الاستحقاقات التي يجب ان تتعاطى معها فهي الحفاظ على "انجازات" الانتفاضة من جهة وتدارك "الاخطاء" التي وقعت فيها. ويلخص الفلسطينيون هذه الانجازات بأنها كسرت حال وقف الصراع من جانب واحد، حيث اقتصرت من الجانب الفلسطيني على مفاوضات تتحكم فيها اسرائيل فيما تفرض امراً واقعاً من جانبها، والازمة التي تعيشها اسرائيل ديموغرافياً وسياسياً ممثلة بفشل الحل العسكري، وكنست التنازلات الفلسطينية التي سجلت في اتفاق اوسلو وقرار محكمة العدل الدولية وإقرار الجمعية العامة التابعة للامم المتحدة لما ورد فيه والذي اعاد للقضية الفلسطينية وضعها الحقيقي بأنها تعيش حال احتلال وحركة تحرر بعدما صورتها اوسلو على انها مجرد قضية "نزاع على ارض"، وعرت من خلال "الجدار" النيات الحقيقية الاسرائيلية من وراء ابرام اتفاق اوسلو. وإن كان بعضهم يرى في بناء الجدار الاسرائيلي نتاجاً سلبياً للانتفاضة. ويعتبر البرغوثي ان "المفارقة في هذا الشأن تتجلى في ان خريطة اتفاق اوسلو تتطابق وخريطة الجدار الاسرائيلي في صورة كاملة، وتؤكد انه لم يكن في ذهن اسرائيل سوى المزج بين الاحتلال ونظام ابرتهايد. وهذا ما كشف عنه شارون قبل اسبوع عندما اكد ان سلفه اسحق رابين موقع اتفاق اوسلو خطط لبناء هذا الجدار عام 1995، اي بعد عام واحد من دخول السلطة الفلسطينية واتفاق القاهرة المكمل لاتفاق اوسلو. وبحسب الاحصاءات الفلسطينية، فإن الكفاح الشعبي الجماهيري الفلسطيني شكل 98 في المئة من المقاومة الفلسطينية خلال الانتفاضة، لكن التركيز الاكبر اعلامياً واسرائيلياً كان على الاثنين في المئة من الكفاح المسلح و"العمليات الاستشهادية" التي لا يزال الفلسطينيون منقسمين في شأن "الافراط" في ممارستها في ظل التفوق العسكري الاسرائيلي اللامحدود مقارنة مع قدرات الفلسطينيين الشديدة التواضع. وهنا يبرز تصاعد "التيار الاسلامي" ممثلاً بحركتي "حماس" والجهاد الاسلامي في ظل الانتفاضة، والذي يعزوه خبراء الى اسباب عدة منها ضعف النظام السياسي الفلسطيني وعموده حركة فتح - حزب السلطة وفقدانه صدقيته في الشارع الفلسطيني ليس فقط بسبب الفساد الاداري والمالي، بل أيضاً الفساد السياسي. فحركة "حماس" التي حصلت على تأييد 12 في المئة من الفلسطينيين منتصف التسعينات، تضاعفت قوتها في الشارع الفلسطيني حتى اوشكت على تقاسمه مع حركة فتح. وجاء مشروع شارون "خطة فك الارتباط" والانسحاب من قطاع غزة ليدعم رؤية "حماس" بإمكان "تحرير" جزء من الارض على اسس لا تعتمد على المفاوضات. واذا اجريت الانتخابات السياسية في ربيع العام المقبل، ستكون المعركة بين الطرفين على نحو 40 في المئة من الفلسطينيين الذين يشكلون غالبية صامتة. وكما في الانتفاضة الاولى التي ابرزت حركة "حماس"، برز في الانتفاضة الحالية تيار ثالث ممثل ب"التيار الديموقراطي" الذي حصل على تأييد اكبر من اشخاص تم طرحهم ك"بدائل" لرئيس السلطة ياسر عرفات، مثل ابو مازن نصف في المئة ومحمد دحلان 1.6 و"ابو علاء" الذي حصل على تأييد واحد في المئة من الفلسطينيين بحسب الاستطلاع الاخير الذي اجراه "برنامج التنمية" التابع لجامعة بيرزيت.