لعل المفارقة وحدها هي التي جعلت ترشيح السيد محمود عباس ابو مازن ليكون اول رئيس الوزراء فلسطيني في وقت سابق من الشهر الجاري، يتزامن مع تنفيذ آخر عملية "استشهادية" في مدينة حيفا، تلك التي اوقعت 17 قتيلاً اسرائيلياً. فأبو مازن هو الداعي القديم الى حل سياسي او سلمي للقضية الفلسطينية والداعي المعلن اليوم الى عدم عسكرة الانتفاضة، والعمليات "الاستشهارية" هي ذروة العمل العسكري الذي خاضه الفلسطينيون ضد اسرائيل، وهي في الوقت نفسه ذروة عسكرة الانتفاضة الثانية. لكن هذه ليست المفارقة الوحيدة التي يمكن الوقوع عليها في العلاقة بين عسكرة الانتفاضة وبين تسييسها. بين حل القضية الفلسطينية عبر الكفاح المسلح وحلها عبر التفاوض. بين الوصول الى تسوية تنطلق من مبدأ حق الفلسطينيين المطلق الذي لا ينازع في كامل ارضهم التي سلبت منهم عنوة، وبين تسوية يتنازل فيها الفلسطينيون عن جزء من حقهم والاسرائيليون عن جزء من حلمهم. وهذان خطان ظلا معظم الوقت متوازيين خلال سير النضال الفلسطيني طوال العقود الثلاثة الماضية على الاقل. وبمعنى ما فان كلاً من الانتفاضتين اللتين قام بهما الشعب الفلسطيني خلال السنوات ال15 الماضية كانت ذروة احد هذين الطريقين. فكانت الانتفاضة الاولى 1987 - 1993 بنزوعها السلمي وطابعها الجماهيري، على رغم ما شابها من عنف من الجانب الاسرائيلي، ذروة العمل السلمي الفلسطيني، في حين ان الانتفاضة الراهنة بطابعها العسكري الذي تزايد حتى غلب على اشكال العمل الاخرى، تمثل ذروة العمل العسكري الفلسطيني. وفي صورة ما فالشعب الفلسطيني كان يلجأ الى تكثيف نضاله السياسي حين يجد ان العمل العسكري لن يجدي، ويلجأ الى الخيار العسكري حين يرى ان العمل السلمي قد وصل بسبب المماطلات الاسرائيلية والدعم الاميركي غالبا الى طريق مسدود. لقد انطلقت الانتفاضة الاولى بعد ان غاب اي افق لعمل عسكري مهما كان ضئيلاً، وذلك بعد ان خرجت منظمة التحرير من بيروت في 1982 وتوزعت الكوادر العسكرية بين تونس واليمن والعراق، فيما اندلعت الانتفاضة الثانية في ايلول سبتمبر 2000 بعدما تحولت اتفاقات اوسلو بفعل المماطلات الاسرائيلية التي لا تنتهي الى بنود لا تلزم الاسرائيليين بشيء، فكانت الانتفاضة رداً على فشل الحل السلمي لأوسلو 1993. اما الطابع العسكري الذي اتخذته الانتفاضة في ما بعد فكان متوقعاً لكل مراقب لمجرى الصراع آنذاك. ففي 1996، وهو العام الذي تسلّم فيه ليكود السلطة ممثلاً ببنيامين نتانياهو، اندلعت اعمال عنف عسكري شارك فيها عدد من رجال الامن الفلسطينيين في اعقاب فتح اسرائيل نفقاً تحت المسجد الاقصى، متجاهلة الدعوات الى تنفيذ التزاماتها بالانسحاب من مدينة الخليل، وهو ما كان مقرراً قبل تسلم ليكود السلطة. لقد كانت تلك الاحداث التي اودت بحياة 17 اسرائيلياً ونحو 70 فلسطينياً مجرد "بروفة" على ما يمكن ان يحدث لو امتنعت اسرائيل عن تنفيذ باقي التزامات اوسلو. ومنذ ذلك الحين دخل عنصر جديد في الصراع هو السلاح. وعليه فما ان جاءت زيارة زعيم المعارضة الاسرائيلية آنذاك ارييل شارون للمسجد الاقصى، واتضحت نوايا رئيس الوزراء الاسرائيلي آنذاك ايهود باراك، الذي لم يقم بفعل ما يميّزه عن نتانياهو، حتى اندلعت الانتفاضة المتوقعة. وكما كان متوقعاً ايضاً قياساً على ما جرى في ما عُرف بانتفاضة النفق عام 1996، فانها جاءت عنيفة ولم تخل من طابع عسكري ما لبث ان غلب عليها، واختفت النشاطات الجماهيرية والسلمية. ومن اوجه المفارقة ان عسكرة الانتفاضة ما كان لها ان تكون لو لم تكن هناك اتفاقيات اوسلو. فما بين توقيعها ونشوب الانتفاضة بعد ذلك بسبع سنوات، جرت تحت الجسر مياه كثيرة: فالزمن لم يكن يوماً محايداً: خلال تلك السنوات دخلت فلسطين كميات كبيرة من الاسلحة المخصصة لرجال الامن الفلسطينيين الذين، للمفارقة، كانت مهامهم تتضمن المحافظة على امن الفلسطينيين والاسرائيليين. كما دخلتها كميات كبيرة من الاسلحة التي سربتها اجهزة الامن الاسرائيلية التي كانت تراهن على حرب اهلية بين الفلسطينيين طرفاها"فتح" او السلطة الفلسطينية وحركة "حماس". فإذا اضيفت تلك التي ادخلتها تهريباً وشراء من اسرائيل نفسها جهات فلسطينية مختلفة استعداداً لخوض الكفاح المسلح لتحرير كامل التراب الفلسطيني، لعرفنا حجم السلاح الذي دخل فلسطين خلال الاعوام السبعة التي تلت توقيع اوسلو، ولعرفنا ايضاً ان اي انتفاضة ستندلع في الاراضي الفلسطينية ثانية لن تكون سلمية. وعليه فان العسكرة لم تكن قراراً فلسطينياً بقدر ما كانت امراً حتمياً فرضه الوجود الكثيف للسلاح في فلسطين، معطوفاً على الاستهتار الكبير للجانب الاسرائيلي في تنفيذ الاتفاقات المنصوص عليها. وبنظرة الى بعض استطلاعات الرأي في السنوات العشر الاخيرة يتضح ان الشعب الفسلطيني كان الى ما قبل تسلم ليكود السلطة، مؤيداً في صورة لافتة لاتفاق اوسلو ولحل سلمي، والى ان العنف لم يبدأ الا بعد ان فقد الامل بتحقيق ما اتفق عليه في اوسلو مهما كان هزيلاً قياساً بمقياس الحق الذي يعتمده الكثيرون طريقاً الى حل. وتشير استطلاعات رأي فلسطينية الى ان نسبة التأييد الشعبي لاوسلو في 1993 بلغت نحو 80 في المئة. وتزامن ذلك مع انخفاض نسبة تأييد العنف بين الفلسطينيين الى 20 في المئة. وبحسب هذه الارقام فانه حتى 2001، باستثناء 1996 الذي شهد انتفاضة "نفق الاقصى"، لم تهبط نسبة التأييد لاوسلو الى اقل من 60 في المئة، لكن منذ تلك الاحداث العنيفة لم تتوقف نسبة المنادين بالعنف عن الارتفاع. وما ان اندلعت الانتفاضة الثانية في اواخر ايلول من العام المذكور حتى بدأت نسبة المؤيدين للعنف في الازدياد لتصل، بعد تسعة اشهر، الى نحو 71 في المئة من شعب كان، قبل ذلك، محض أوسلو تأييده بنسبة 80 في المئة. لقد ادت المماطلة الاسرائيلية في تنفيذ ما نصت عليه اوسلو الى ان يصاب باليأس من راهن عليها في الوصول الى حل عادل. وفاقم ذلك كله وجود كل هذه الكميات من الاسلحة بين ايدي المواطنين الفلسطينيين، كما تزايدت دعوات القتال والحسم العسكري واجدةً لها صدى عميقا في الوجدان العربي الذي لم يحقق انتصاراً عسكرياً واحداً في تاريخه الحديث، هو الذي غزا اجداده الارض شرقاً وغرباً في يوم من الايام. كل هذ العوامل اعادت ترجيح كفة دعوات الكفاح المسلح وشعارات كان كثيرون اعتقدوا انها ولت الى غير رجعة، مثل "ما اخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة" و"لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، فكأن أوسلو اكتفت بتغطيتها بدثار رقيق. وكانت تلك الشعارات تعلن يأس الفلسطينيين من تحقيق شيء عبر حل سلمي، اكثر من تأكيدها أن انتفاضة عسكرية الطابع هي التي ستحقق ما عجزت عنه اوسلو حتى لو كانت هذه الاتفاقيات تمت برعاية اكبر دولة على وجه الارض. ما تقدم لا يعني تأييداً لعسكرة الانتفاضة، بل محاولة لقراءة الظاهرة في تعقيدها وليس باعتبارها قرارا اتخذه هذا الفصيل او ذاك تحقيقاً لمآرب خاصة، وللتنبيه الى صعوبة المهمة التي تنتظر اول رئيس وزراء فلسطيني في التاريخ.