في خضم الصراع المتواصل والهجمات المتبادلة لتمرير أو تدمير ما يسمى "خريطة الطريق"، وبعدما تعاظمت معاناة الشعب الفلسطيني لتصل حدوداً غير مسبوقة، لعل من المفيد إلقاء نظرة عامة على الإطار العام لما يجري في فلسطين. كان اتفاق أوسلو هدنة استمرت فعلياً سبع سنوات، لكنها كانت هدنة غريبة، اذ ان وقف الصراع وقف النار بحسب تعبير العسكريين كان مع استثناءات قليلة من الجانب الفلسطيني. أما من الجانب الإسرائيلي فاستمر الهجوم على المصالح والأراضي الفلسطينية وعلى السلام، وتجسد ذلك في ثلاثة الأمور: أولاً: اغتيال اسحق رابين وانتخاب حكومة يمينية بقيادة بنيامين نتنياهو ثم ارييل شارون مع انقطاع قام خلاله ايهود باراك بخدمة اليمين الإسرائيلي على افضل ما يكون عبر تدمير شرعية السلطة الفلسطينية وتكريس الادعاء بأنها رفضت عرضاً سخياً مزعوماً لأنها تريد تدمير إسرائيل. ثانياً: توسيع النشاط الاستيطاني بمواصلة فرض الحقائق على الأرض. اذ بلغ عدد المستوطنات التي أنشئت منذ وقع اتفاق أوسلو أكثر من 100، وزاد عدد سكان المستوطنات التي كانت قائمة بنسبة 100 في المئة. ولم يكن هذا مجرد توسع استيطاني عادي، بل سباق مع الزمن لإدراك ما لم تنجح إسرائيل في إكماله على مدار 27 عاماً من الاحتلال. والحال، ان ما جرى كان توسيعاً للمستوطنات وإنشاء لمستوطنات جديدة، بل مدن جديدة، وإرساء لشبكة طرق التفافية واستيطانية كان هدفها تغيير معالم الجغرافيا والاقتصاد في الأراضي المحتلة، بهدف تحويل الضفة الغربية من منطقة فلسطينية تتناثر فيها عشرات المستوطنات إلى منطقة استيطانية إسرائيلية تتناثر فيها القرى والمدن الفلسطينية. فالصراع احتدم بين عامي 1967 و1993 على تغيير الواقع على الأرض، واقع القدس، وواقع الاستيطان. أما خلال هدنة أوسلو فانصب الجهد الإسرائيلي على تغيير المحيط الجغرافي للأراضي المحتلة. وكان ذلك تكراراً لما قامت به إسرائيل في الجليل والنقب والمثلث ويافا. واللافت أن المطالب الفلسطينية واصلت التراجع منذ عام 1967 في حين واصلت المطالب الإسرائيلية التصاعد وتبخرت بعد اتفاق أوسلو الأوهام بأن القبول بحل دولتين في "حدود 1967 سيخلق تسوية وسلاماً". فبعدما قبل الفلسطينيون بما لا يزيد على 22 في المئة من ارض فلسطين بدل 45 في المئة كما كان مقرراً في مشروع التقسيم، غدا عليهم التفاوض على اقتسام الضفة الغربية نفسها، وهذا هو مضمون مشروع باراك وبعد ذلك شارون. ثالثاً: التدمير المنهجي لامكان تطور بنيان السلطة الفلسطينية في اتجاه دولة مستقلة، والافادة من الوضع العربي المتردي وتعقد الوضع الدولي لاعادة صوغ مرجعيات الصراع. وفي هذا الجهد، فان إسرائيل التزمت ثلاث قواعد وثقها رجا شحادة، وهي: 1 إن أي كيان فلسطيني ينشأ يجب ألا يسمح له بالسيطرة على الحدود مع أي دولة اخرى، ومحاطاً دائماً سواء كانت الترتيبات موقتة او دائمة، بالجيش الإسرائيلي. 2 إن صلاحيات أي كيان أو حكم ذاتي فلسطيني يجب أن تبقى وظيفية من دون السماح بتحولها إلى صلاحيات سيادية. 3 لا يجب أن توقف أي ترتيبات أو اتفاقات مع الفلسطينيين أو العرب - وكان أوسلو النموذج الأسوأ في هذا المجال - قدرة إسرائيل على مواصلة تغيير الواقع وفرض الحقائق الجديدة. ولتكريس كل ذلك استخدمت إسرائيل انعدام المنهج الاستراتيجي الشامل للمفاوضين الفلسطينيين والعرب، وركزت على الحلول الجزئية والانتقالية واستثمرت سوء الأداء التفاوضي الفلسطيني واستخدمت القوانين والأوامر العسكرية الجائرة وشق الطرق وإنشاء المستوطنات والعقوبات الجماعية. وبعد انفجار الانتفاضة الثانية، بدأت إسرائيل استكمال مشروعها من خلال ممارسة غسيل دماغ إعلامي للعالم، لاعادة صوغ تاريخ الصراع مع الفلسطينيين وحقائقه ومعطياته. وهنا تجري محاولة ليس فقط لنفي حقوق اللاجئين، بل أيضاً لتشويهها بحيث يصبح من يطالب بها متهماً بالنية في تدمير إسرائيل، وتحويل الأراضي المحتلة إلى أراض متنازع عليها، ومحاولة تصوير الانتفاضة بأنها صراع عسكري بين جيشين متكافئين ومحاولة طمس كلمة الاحتلال من قاموس الإعلام السياسي. وفي كل ذلك يصدق القول ان شارون يعتبر نفسه المكمل الحقيقي لما بدأه ديفيد بن غوريون وانه يدير المرحلة الثانية من حرب 1948. وإذا كان الأمر كذلك فلماذا إذاً "خريطة الطريق"؟ ولماذا القبول حتى من شارون بفكرة قيام دولة فلسطينية؟ ولماذا لا تضم إسرائيل كامل الأراضي المحتلة كما ضمت القدس والجولان. هناك ثلاثة أسباب لذلك: أولاً: المشكلة الديموغرافية، اذ ان إسرائيل لم تجد حلاً لهذه المشكلة بعدما تحول الوجود البشري الفلسطيني إلى أهم إنجازات الشعب الفلسطيني الذي تعلم بأقسى الوسائل من تجربة عام 1948. وهذا الوجود لم يعد مجرد وجود كمي كما كانت عليه الحال قبل 1967، بل صار وجوداً حياً مقاوماً ومكلفاً في صورة لا تستطيع إسرائيل احتمالها. ويتجلى ذلك في أربع ظواهر: 1 حساسية إسرائيل للخسائر البشرية، 2 عدم قدرة المجتمع الإسرائيلي على تحمل مواجهة مفتوحة، 3 تراجع الاقتصاد الإسرائيلي تحت ضغط الانتفاضة، ومن معالم ذلك معاناة إسرائيل من أسوأ بطالة وأسوأ انكماش اقتصادي وأسوأ هروب للاستثمارات الاقتصادية في تاريخها، 4 حساسية إسرائيل للرأي العام العالمي وإدراكها، إنها وان استطاعت أن تضمن القوة العظمى الوحيدة في العالم إلى جانبها فإنها في حال نزيف على صعيد شعوب العالم. اذ خسرت أوروبا شعبياً، وأغلقت في وجهها أبواب التطبيع العربي ونشأت مع الشعب الفلسطيني حركات تضامن دولية من نوع جديد، والتحمت حركة التضامن الفلسطينية مع حركة مناهضة العولمة، وبدأت إسرائيل تفقد ليس فقط البرلمان الأوروبي بل والبريطاني أيضاً، وتبلورت قضية فلسطين باعتبارها قضية التحرر الوطني الأولى في العالم، ولا شيء يدعو للاعتقاد إن وضع الفلسطينيين البائس على صعيد الولاياتالمتحدة في ظل هيمنة اللوبي الإسرائيلي، سيبقى على حاله، لو نجح الفلسطينيون هناك في تجاوز انقساماتهم وذاتيتهم ومخاوفهم. ولنلاحظ، انه على رغم الاختلال المريع في ميزان القوى فان الرئيس جورج بوش لم يستطع حتى الآن القفز عن عنصرين أساسيين لأي تسوية: قيام دولة فلسطينية ديموقراطية مستقلة وإنهاء الاحتلال الذي بدأ عام 1967. ولن يستطيع القفز عنهما إلا اذا وفّر له طرف فلسطيني أو عربي المنصة لذلك. ثانياً: عدم توافر فشل الحل العسكري للانتفاضة مرة تلو الأخرى. ثالثا: استحالة تهجير سكان الأراضي المحتلة وممارسة عملية الترانسفير التي طالما حلم بها شارون. ولن تتوافر لإسرائيل فرصة افضل من حرب العراق لو كانت قادرة على ذلك، لكنها لم تستطع ما يؤكد أن هناك حدوداً للقوة الطاغية مهما كبرت. إذاً ما الذي تريده حكومة إسرائيل؟ انه ببساطة هدنة جديدة وأوسلو ممسوخ جديد ومزيد من الوقت لهضم ما تبقى من الأراضي المحتلة ولتفتيت ما لم يحطم من الحركة الوطنية الفلسطينية أو ما نما بأشكال جديدة. انهم يريدون مرحلة جديدة من وقف الصراع شرط أن يكون وقفاً من جانب واحد. يريدون ترتيباً يبدو سلاماً ولكنه ليس بسلام، وخنوعاً فلسطينياً للأمر الواقع مبرراً بالمعاناة الاقتصادية، ومتواصلاً بتغذية الإنقسامات والصراعات الداخلية الفلسطينية. ومن هنا ولدت فكرة الدولة الموقتة أو الدولة بحدود موقتة. ومن هنا اعتراض إسرائيل حتى على "خريطة الطريق" على رغم تضمنها لفكرة الدولة الموقتة، لأن "الخريطة" ببساطة وضعت تجميد الاستيطان في مرحلتها الأولى. وحتى نتعلم من تجاربنا علينا أن نتذكر أن اتفاق أوسلو نص على إعادة انتشار الجيش الإسرائيلي وخروجه بحلول عام 1999 من جميع مناطق الضفة والقطاع ما عدا مناطق الحدود والمستوطنات والقدس، وذلك يعني بالحساب البسيط 90 في المئة من مساحة الضفة والقطاع، وذلك في مقابل تأجيل قضايا اللاجئين والقدس والحدود والتي كان يجب أن تحسم بالمفاوضات مع حلول عام 1999، ولكن حتى أيلول سبتمبر 2000 لم تكن إسرائيل خرجت إلا من 18 في المئة من الأراضي. لذلك فان فكرة الدولة الموقتة هي من أجل: أ - تأجيل القضايا الجوهرية كالحدود واللاجئين والاستيطان والقدس، بهدف تصفيتها وتعقيد حلها. ب - إعادة صوغ الصراع بما يلغي الحقوق الأساسية وإتاحة حل يعفي إسرائيل من الأعباء الديموغرافية لضم الأراضي. ولذلك يتحدث الإسرائيليون عن دولة في حدود 42 في المئة من الأرض. ومضمون كل ذلك تزوير فكرة الدولة المستقلة بتحويلها ليس فقط إلى كانتونات مقطعة الأوصال عديمة التواصل الجغرافي، من دون سيادة حقيقية بل واستبدال الدولة بنمط "الغيتو" حيث يستطيع السكان حكم، بل واضطهاد، بعضهم بعضاً وتولي المسؤولية عن أكلهم وشربهم واقتصادهم وصحتهم من دون سيادة أو قدرة على تحويل "الغيتوات" إلى دولة ذات قدرة على الحياة. ج - تجريع الفلسطينيين هذا الحل الظالم بالتدريج باعتباره حلاً موقتاً، ثم كما جرى في أوسلو يتحول الموقت دائماً، وتقدم الذرائع لعدم تنفيذ المراحل اللاحقة باعتبار أن إيجاد حلول لقضايا القدس واللاجئين من المستحيلات. بل إن شارون يريد أن يتنازل الفلسطينيون عن حق اللاجئين في العودة وان يعلنوا إنهاء الصراع في مقابل هذه "الغيتوات الممسوخة". أي أنه يريد فعلياً تمرير تهويد وضم معظم الضفة الغربية وقطاع غزة باعتباره حلاً ويريد من الفلسطينيين استسلاماً تاريخياً وتنازلاً عن حقوقهم في مقابل عبودية دائمة في ظل نظام فصل عنصري هو الأسوأ في التاريخ. كما يريد أن ينتقي من "خريطة الطريق" ما يريد وهذا سر تعديلاته ال100 تحت 15 عنواناً. فهو يريد وقف الكفاح وإلغاء حق العودة ويرفض تجميد الاستيطان وبحث موضوع القدس. وتوضح الخرائط المرفقة كيف يعتبر شارون حلقة مكملة في سلسلة تطبيق المشروع الصهيوني، فهي تظهر التراجع في حدود الدولة حتى وصلنا الى إنشاء جدار الفصل العنصري لتقطيع أوصال الأراضي المحتلة. فمن مشروع التقسيم عام 1947 45 في المئة إلى حل دولتين على أساس حدود 1967 22 في المئة إلى دولة شارون تسعة في المئة من مساحة فلسطين. أما الفلسطينيون، ففي وقت واصلوا خسارة الأراضي من مواجهة إلى أخرى، الا انهم طوروا أيضاً اتجاههم المضاد الخاص. فراكموا وجودهم البشري، وحوّلوه إلى وجود صامد ومقاوم، كما واصلوا بناء مؤسساتهم، وتعظيم الوعي الوطني بقضيتهم، وكسب الرأي العام. والطبيعي والحال هذه إن أهم ما يملكه الفلسطينيون في صراعهم هو العنصر البشري وامتداده في أرجاء الشتات. وإذا كان الفلسطينيون استثمروا بل وأنهكوا اكثر من مرة قواهم في الداخل فانهم لم ينجحوا حتى الآن، خصوصاً بعد اتفاق أوسلو، في تنظيم طاقات الفلسطينيين في الشتات لتسند نضالهم في الداخل، وذلك هو أحد أهم أهداف المبادرة الوطنية الفلسطينية التي أطلقت في حزيران 2002 لتمثل محاولة لاستنهاض طاقات الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج. وستواجه "خريطة الطريق" غالباً بالفشل لأن شارون يريد إفشالها ولا تبدي الولاياتالمتحدة حتى الآن استعداداً للضغط عليه لدرجة إلزامه بها. بل قد نرى تكييفاً للخريطة مع ملاحظاته. وما يواجهه الشعب الفلسطيني في هذه المرحلة الصعبة يفوق في أبعاده كل تحد سابق. فالصراع لم يعد يدور حول نسب مئوية من أراضيه بل حول أن يكون أو لا يكون كشعب وقضية وهوية. ولذلك فان اكثر الأمور أهمية عدم السماح بتشويه طابع الصراع، أو اختزاله في الرؤية الإسرائيلية، فصراع الفلسطينيين مع الاحتلال ليس نزاعاً بين طرفين متكافئين وليس خلافاً تفاوضياً على نسب مئوية من الأراضي حتى يمكن حله بمجرد إجلاس الطرفين على طاولة المفاوضات. إن نضال الفلسطينيين هو كفاح لشعب حرم من الحرية والاستقلال والوطن على مدار 55 عاماً واخضع لاحتلال شرس منذ 36 عاماً. انه كفاح شعب يسعى لحقه في تقرير المصير، مثل سائر شعوب الأرض بما في ذلك الإسرائيليون. كفاح شعبٍ من حقه أن يحلم بوطن حر مستقل كامل السيادة يعيش فيه الإنسان بحرية وكرامة، ويسوده القانون وتمارس فيه المواطنة. والطرف المهدد في الصراع ليس إسرائيل، التي تمتلك رابع اكبر ترسانة نووية في العالم وأكثر أسلحة الدمار الشامل في المنطقة وواحد من اضخم الجيوش، بل الشعب الفلسطيني. إن تحديد هذه الرؤية للصراع وتعميمها وتبنيها وتكرارها من كل فلسطيني أمر حيوي، لأن ذلك شرط لإعادة صوغ الوعي الوطني الجماعي والحس المشترك. مثلما أن تعميق الإيمان بالديموقراطية الداخلية هو أيضاً شرط حيوي لتحويل الرؤية المشتركة إلى فعل مشترك ومؤثر، وتحويل الفلسطينيين من مجرد كم بشري إلى قوة فاعلة ومقررة. الطريق الى المستقبل وفي مواجهة مؤامرة شارون بحل المشكلة الديموغرافية الفلسطينية من خلال نظام الغيتو والابارتهايد، لا بد من التمسك بخمس وسائل أساسية: أولاً: تشكيل قيادة وطنية موحدة، لتكون إطاراً لتنظيم المشاركة وبلورة الرؤية الوطنية والاستراتيجية النضالية وتوجيه العمل النضالي والنشاط السياسي بما في ذلك التفاوضي. فالفجوة بين السلطة الوطنية وحركة التحرر الوطني إما تنتهي إلى انقسام كارثي أو باندماج في قيادة موحدة، أو باستمرار الوضع الحالي في المراوحة بين الأمرين، مراوحة تقي شر الانقسام لكنها تنفي ترجمة التضحيات والصمود والعمل والكفاح إلى نتائج ملموسة. فالشعب الفلسطيني ليس الوحيد الذي تنوعت في صفوفه الاتجاهات والقوى وحتى الرؤى. ولا سبيل لحل هذه الاختلافات إلا الانتخابات الديموقراطية والقبول برأي الغالبية من دون الإجحاف بحق الأقلية في مواصلة التعبير عن رأيها وعملها. غير أن الوضع الحالي، لا ينتظر توافر الظروف لحدوث هذه الانتخابات، ولا يحتمل الاتكال على التوافق العفوي. بل يتطلب المبادرة السريعة لتشكيل القيادة الموحدة، لتوفر ولو الحد الأدنى من التنسيق والتوافق ولتقدم للناس رؤية وقيادة وتوجيهات افتقدوا وجودها لزمن طويل. والقيادة الموحدة لا تعني مجرد تجميع ممثلي الفصائل، فهم مجموعون في هياكل عدة من اللجنة التنفيذية إلى لجنة تنسيق القوى والفصائل إلى هيئات الانتفاضة. بل تعني تكوين هيئة مرجعية مكونة من ممثلي القوى السياسية وممثلي المجتمع المدني والشخصيات الوطنية والسلطة الفلسطينية واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، ولكي تكون مرجعية حقيقية لا بد من الإعلان أن هذه الهيئة ستكون مخولة اتخاذ القرارات المتعلقة في شأن التحركات والمواقف السياسية بما في ذلك كل موقف يطرح على طاولة المفاوضات، وأن تكون مخولة اتخاذ القرارات تجاه أشكال أساليب النضال في كل مرحلة. وقد يبدو الأمر خيالياً بالنسبة للبعض إذ كيف يمكن أن يتفق ممثلو الاتجاه الإسلامي والسلطة والاتجاه الديموقراطي الثالث على مواقف تفاوضية مشتركة. الجواب أن عليهم أن يفعلوا ذلك إن كان إخلاصهم الأكبر لقضايا شعبهم وليس لمصالح فصائلهم. وعلى كل حال فان المطروح هو صيغة موقتة لن تمنع أي طرف من طرح برنامجه النهائي على الشعب في الانتخابات. ولكن قوة هذه الصيغة تكمن في تقبل الجميع مبدأين، الأول أن الانتخابات يجب أن تكون نزيهة وخالية من التزوير الذي حدث في الانتخابات السابقة، وثانياً أن المجتمع يقبل بقواعد الحياة الديموقراطية وباحترام رأي الغالبية وبالحق في التعددية السياسية والتنافس على السلطة بالوسائل السلمية وحدها. وإذ كانت "حماس" والسلطة الفلسطينية أبدتا تردداً في السابق تجاه هذه الفكرة، فان المتردد الأكبر الآن هو السلطة الفلسطينية أو جزء منها والتي يريد بعض أقطابها وحدة من دون استعداد لإشراك الآخرين في القرار السياسي ويريدون دعماً من دون استعداد للمساءلة والمحاسبة عن قراراتهم، ويريدون شرعية من دون إخضاعها للانتخابات الدورية، وحقاً بالتفاوض على قضايا مصيرية من دون تفويض واضح من الشعب بالوسائل الديموقراطية. ولا بد من تجاوز كل ذلك بقبول مبدأ التشارك والمشاركة، وفي نهاية المطاف فان التفويض الديموقراطي بالانتخاب هو أقوى وسيلة لإسناد أي مفاوض فلسطيني ولإعادة التوازن لعملية المفاوضات، المختلة بحكم أن شارون يفاوض ومن خلفه الحكومة بأحزابها المختلفة وتأييد غالبية واسعة من الكنيست المنتخب، والجمهور الإسرائيلي الذي يقبل بحقه في التفاوض ما دام منتخباً وذلك في مقابل الرئيس ياسر عرفات وأبو مازن حالياً، الذي يقود حكومة أقلية تمثل أقل من خمس رأي الجمهور الفلسطيني في أحسن الأحوال، وتحصل على الثقة من مجلس تشريعي فقد تفويضه الانتخابي منذ عام 1999، وهو أصلاً منتخب من جزء من الشعب الفلسطيني. وإذا كان الرئيس عرفات بكل ما يمثله من رمزية ودور تاريخي وكونه منتخباً ديموقراطياً، لجأ للمجلس الوطني والمركزي لتوفير الغطاء للقرارات السياسية، فان أبو مازن في وضع أصعب كونه لم ينتخب للمنصب الذي يشغله، ولا يمتلك المفاتيح التي يمتلكها عرفات سواء في حركة فتح أو منظمة التحرير، وبالتالي فان حكومته أحوج من أي حكومة سابقة للقيادة الوطنية الموحدة وللانتخابات الديموقراطية، وهي انتخابات لا يجوز السماح بتأجيلها أو المماطلة في إجرائها. وإلا فان شرعية أي قرارات تفاوضية تتخذها الحكومة الحالية ستكون مفقودة، أو ستضطر الحكومة للتفاوض عليها وإعادة التفاوض كل مرة مع القوى المختلفة وشرائح المجتمع المدني والهيئات والمؤسسات الوطنية. وتلك صيغة تتسم ليس بانعدام الفاعلية فقط، بل وباحتمالات فشل مؤكد كلما اقتربت المفاوضات من قضايا مصيرية وحساسة. ويواجه الشعب الفلسطيني أربعة تحديات رئيسية حالياً: 1 كيفية المحافظة على مشروعه الوطني وعدم السماح باختراق رؤيته الوطنية، 2 كيف يصون وحدته الوطنية ويحول دون نجاح الضغوط العاتية في جره إلى اقتتال داخلي، 3 كيف يحافظ على الشرعية الوطنية والقرار الوطني المستقل في عصر تبدو فيه حتى دول كبيرة عاجزة عن فعل ذلك، 4 كيف نحقق إصلاحاً وتغييراً داخلياً حقيقياً يزيل عن القيادة الفلسطينية صفة عدم الكفاءة أو انعدام المساءلة ويحرر النظام السياسي من قيود عفا عليها الزمن ويفتحه للمشاركة الواسعة خصوصاً لجيل الشباب ولقطاع النساء، وكيف تنجز إصلاحاً يحقق إعادة توزيع الموارد بحيث تنصب لدعم صمود الناس وقدرتهم على البقاء في وطنهم وتفعّل مصدر القوة الرئيسي: الطاقة البشرية الفلسطينية. إن القيادة الوطنية الموحدة، ولو اتخذت صفة موقتة حتى إجراء الانتخابات الحرة، ضرورية لأن الصراع سواء كان كفاحاً أو مجابهة ديبلوماسية لا يخاض بصفوف مقسمة وبرامج متصارعة أو مصالح متضاربة وقرارات تؤخذ من أقلية لا تستطيع ضمان تأييد الغالبية لها او أن تفرضها على هذه الغالبية. ثانياً: الإصرار على حق الفلسطينيين في ممارسة الانتخابات الحرة الديموقراطية من خلال وجود دولي يخرج القوات الإسرائيلية ويتيح للشعب الفلسطيني انتخاب من يثق به للتفاوض على قضايا الحل النهائي، وبذلك تنتهي حال تهميش الشعب الفلسطيني ويفتح له مجال المشاركة في صنع القرارات المتعلقة بمستقبله. فالانتخابات تصلح لأن تكون أداة مقاومة مدنية وآلية لبناء مؤسسات فعالة للدولة المستقلة وتنفيذها أمر واقعي. إذ نصت عليها "خريطة الطريق" وتشكلت لإجرائها لجنة مستقلة ورصدت لتنفيذها برامج تمويل أوروبية، وهي وحدها يمكن أن تنهي الحال غير المتوازنة في التعامل مع المطالب الإسرائيلية في مقابل المطالب الفلسطينية. فكم من مرة جرى تبرير التراجعات الدولية أمام إسرائيل بحجة أن إسرائيل دولة ديموقراطية ولا يمكن فرض حلول عليها لا يقبلها الناخب الإسرائيلي، أما فلسطينياً فيكفي إقناع عرفات أو أبو مازن أو الضغط عليهما لتمرير قرار ما. ولا بد من إسناد المطالب الفلسطينية بالمشاركة الشعبية وبقوة الديموقراطية، ويمثل إجراء الانتخابات تكريساً لمبادئ المساءلة والشفافية أمام الشعب، ويصبح من واجب كل وزير وعضو برلمان ومفاوض أن يتذكر انه يمثل الناس، وان كل موقف يتخذه سيكون عليه الدفاع عنه أمام ناخبيه. ولا يمكن تصور بناء مؤسسات الدولة الفلسطينية من دون إجراء انتخابات فورية وسريعة للمجالس البلدية والقروية وللمجلس التشريعي ورئاسية. فالمجالس البلدية لم تنتخب منذ 1976، أما المجلس التشريعي فانتهت مدة تفويضه عام 1999، ولا يمتلك الصلاحية السياسية أو الأدبية أو المعنوية لإقرار اتفاقات الحل النهائي. أما المجلس الوطني الفلسطيني الذي كان يفترض إن يكون مرجعية منظمة التحرير فتجاوز مدته منذ عقد من الزمن، ولم تجر انتخابات له ولا يبدو أنها ستجرى، وفعلياً تم تجاوز صلاحياته مثل كل هياكل منظمة التحرير التي همشت داخل مؤسسات السلطة. والسبب في كل هذا تجميد الحياة الديموقراطية الداخلية في هياكل المنظمة ومؤسساتها. وستمثل ممارسة الديموقراطية الفلسطينية سلاحاً لانهاء المقولة الإسرائيلية بأن اسرائيل هي الديموقراطية الوحيدة في الشرق البربري، وانها مضطرة لاستخدام وسائل التنكيل لحماية ديموقراطيتها. كما إن ممارستها مع تبلور تيار ديموقراطي عريض من شأنه نفي النمطية التي تحاول حكومات اسرائيل تكريسها بأن الفلسطينيين اما حكام ديكتاتوريون او متطرفون اصوليون. ثالثاً: رفض الحلول الجزئية وإحباط محاولة تزوير هدف الاستقلال بالإصرار على عدم التورط مرة أخرى في نفق الحلول الجزئية والانتقالية. وذلك يعني الإصرار على إقامة الدولة المستقلة ذات السيادة الكاملة من دون المرور بمرحلة الدولة الموقتة "أو الدولة بحدود موقتة"، مع التأكيد على طرح قضايا الحل النهائي وحسمها، لأن الموقت في عرف إسرائيل دائم ولن يكون سوى محطة لتنفيس الضغوط وإعادة الأزمة للمربع الأول كما جرى في أوسلو. وبالتالي فان المطلوب هنا تبني موقف مشترك وجماعي برفض الحلول الجزئية والانتقالية، والإصرار على أن أي حل يجب أن يشمل قضايا اللاجئين والحدود والقدس والمستوطنات، وأن يؤدي إلى قيام دولة مستقلة ذات سيادة حقيقية. إن اعتراض فكرة الدولة الموقتة ممكن وقابل للتطبيق، ولم نلتق بأحد من المبعوثين الديبلوماسيين سواء كانوا أوروبيين أو أميركيين أبدى حماسة أو تمسكاً ولو بسيطاً بفكرة الدولة الموقتة التي لا تصمد لأبسط نقد. بل من الواضح أن هذه الفكرة تم تبنيها بفعل الضغوط وعمليات الابتزاز الإسرائيلية. وفي مقابلها يجب الاصرار على اقامة الدولة الفلسطينية ذات السيادة الكاملة. رابعاً: إسناد صمود الفقراء. اذ دعت المبادرة الوطنية الفلسطينية إلى تفعيل طاقات الشعب الفلسطيني وزجها في الكفاح من اجل حريته واستقلاله. وذلك يعني أولاً إسناد صمود الفئات الشعبية والكادحة والمتضررة في الأراضي المحتلة وإيجاد الوسائل لإعادة استنهاض مشاركة الفلسطينيين في الشتات وإعادة التلاحم بينهم وبين شعبهم في الداخل من خلال إحياء المشروع الوطني واستنباط أشكال الكفاح الشعبي والمدني ضد استمرار الاحتلال ومن اجل إزالته. فالهدنة لو حدثت ستساعد في نزع الطابع العسكري عن الانتفاضة الشعبية، وإعادة ترسيخ التفوق الأخلاقي للنضال الوطني الفلسطيني وفتح الباب على مصراعيه لأوسع أشكال النضال الشعبي. ولن يعني وقف النار وقف الصراع. فالمفاوضات ليست سوى مرآة تعكس هذا الصراع الذي سيشتد ويتفاقم، ونحن نشهد ملامح ذلك من الجانب الإسرائيلي بالإعلان عن خطط التوسع الاستيطاني الجديدة، ومشروع أبو ديس لتهويد القدس، ومواقف شارون بأنه لن يسمح بالتفاوض حول القدس أو اللاجئين. خامساً: مواصلة استنهاض حركة التضامن الدولي والتي اتسعت بصورة واضحة. ولعل التاريخ سيسجل أن أبرز إنجازات انتفاضة الأقصى والاستقلال كان إعادة استنهاض حركة التضامن الدولي مع الشعب الفلسطيني والوصول بها إلى ذرى لم تبلغها من قبل بعدما بعثرها سوء الأداء الفلسطيني والانطباع الكاذب الذي أنشأه اتفاق أوسلو بأن السلام حل في حين واصلت أنياب الاحتلال والاستيطان نهش الأراضي الفلسطينية. ومثل إنشاء الحملة الشعبية الدولية ابتكاراً مبدعاً لإعادة بناء حركة التضامن الدولي. ومن المؤكد أن هذه الحركة قابلة للاتساع أكبر وهي تمثل العامود الثاني الذي يرتكز عليه النضال الفلسطيني إلى جانب الكفاح الشعبي على الأرض وبتكاتف العاملين يصبح النضال الفلسطيني أشبه بنضال شعب جنوب أفريقيا وتتعزز الفرص لعزل سياسة الاحتلال والاستيطان بل والعمل على إنهاء هذا الاحتلال والاضطهاد العنصري الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني مرة والى الأبد. وسيكون ذلك تعويضاً جزئياً للمعاناة الإنسانية التي عاشها الفلسطينيون عبر قرون من الزمان. إذ لم يعرف أجدادنا وآباء أجدادنا إلا حكم الغرباء، واضطروا المرة تلو الأخرى للتعايش مع اضطهادهم وعذاباتهم. وعبر مئات السنين لم تتح للفلسطينيين فرصة واحدة لحكم أنفسهم وتقرير مستقبلهم وتخطيط حياتهم والعيش بحرية في وطنهم. وهم تساموا عن عذاباتهم وتجاوزوا الشعور بأنهم الضحية وأبدعوا في التعليم والنهوض المتواصل وصار الإنجاز العلمي والمهني والنضالي هدفاً لكل منهم يشعر من خلاله أنه يحقق ليس فقط ذاته بل كل ما تعنيه كلمة فلسطين. وساهم الفلسطينيون في بناء عشرات الدول وساندوا العديد من حركات التحرر، وآن الأوان لهم أن يبنوا دولتهم وأن يحققوا حريتهم. وذلك سيكون إنجازاً ليس للفلسطينيين وحدهم، بل للإنسانية، ولقضية السلام العادل، بل وحتى للإسرائيليين الذين يستطيعوا أن يروا العالم من نافذة أخرى غير فوهة الدبابة والبندقية ومنظار تصويب طائرات الأباتشي. الإسرائيليون القادرون على إدراك أن شعباً يضطهد ويستعمر ويحتل شعباً آخر لا يمكن أن يكون هو نفسه حراً. وفي الطريق إلى ذلك هناك عناصر ثلاثة يحتاجها الفلسطينيون في كل مكان: أولا: الإيمان بأنفسهم وبالثقة في قدرتهم على تحقيق أهدافهم في الحرية والاستقلال، وهو الإيمان الذي يجب أن يساعدهم على الترفع عن كل ما يؤذي أو يضعف الاستقامة الأخلاقية للنضال الفلسطيني. ثانياً: الاعتماد على الذات وتنظيم النفس، أي تنظيم الطاقات والإمكانات. وكان هذا هو الدرس الذي تعلمه الشعب الفلسطيني من تجربته المؤلمة مع كامب ديفيد الأول عام 1977. وكلما تعزز التنظيم الشعبي والمدني والمؤسساتي كلما عظمت القدرة على الفعل والأداء. ثالثاً: التغلب على الشرذمة والانقسامات الداخلية بقبول الديموقراطية وممارستها كحكم نهائي لحل كل الاختلافات والخلافات، بل بالأحرى لتنظيم التنوع والاختلاف ليصبح مصدر قوة، بدل أن يكون سبباً لتشتيت الطاقات. وفي مقدور المبادرة الوطنية الفلسطينية ان تكون المدخل لأفق جديد عريض أمام الشعب الفلسطيني يستنهض طاقاته ويشحن إرادته ويحقق الفاعلية لنضاله ويصل به إلى هدفه في دولة ووطن حر مستقل ديموقراطي. لأنها قبل كل شيء مشروع لانتزاع زمام المبادرة والسير بالنضال الفلسطيني حتى النهاية إلى لحظة الإنجاز. * سكرتير المبادرة الوطنية الفلسطينية.