استمرت المفاوضات 13 سنة ثم حصلت المفاجأة ووقعت الولاياتالمتحدةوالصين اتفاقاً يفتح امام الثانية ابواب منظمة التجارة العالمية. وسبب المفاجأة ان فرصة سابقة فوتت عندما زار رئيس الوزراء الصينيواشنطن قبل اشهر وكان الاتفاق شبه جاهز فتردد كلينتون. والسبب الآخر هو ان العلاقات بين الدولتين لم تكن على ما يرام في المرحلة الاخيرة. فهناك فضيحة التجسس النووي الصيني التي تلت الحملات حول تمويل حملة كلينتون الرئاسية في 96. وهناك قضية قصف السفارة في بلغراد والغموض المحيط بها حتى الآن. وهناك قضية "حقوق الانسان" ومطاردة الفرق الدينية التي ينطبق عليها القانون الاميركي الاخير. وهناك قضية التيبت وتسليح "الدول المارقة". وهناك، ايضا، وخاصة، المشكلة الأمنية - الاستراتيجية الكبرى المتمثلة بالتزام واشنطن نشر منظومة صواريخ مضادة للصواريخ تحمي حلفاءها في آسيا. فبكين تنظر الى هذه الخطوة بصفتها تجريدا لها من صفة الدولة العظمى لأنها تحيل ترسانتها النووية، الضئيلة اصلاً، والمتراجعة الأهمية بعد تفجيرات الهند وباكستان الى كم شبه مهمل. ويمكن ان نضيف الى ما تقدم العنصر الخاص بافتتاح المعركة الرئاسية في الولاياتالمتحدة والحضور الصيني المتزايد فيها والمؤسس، بين امور اخرى، على الفائض التجاري الهائل لصالحها. ومع ذلك كله تم توقيع الاتفاق المفاجئ. واحتفل كلينتون، من تركيا، بهذا الانجاز الايجابي لاقتصاديات الصين واميركا والعالم. ولم يتردد في اعتباره مقدمة ستقود، بالضرورة، الى اصلاح سياسي مكرراً بذلك فعل الايمان الاميركي، الفاشل في غير بلد، من ان الديموقراطية تبنى حول السوق وان المجتمع ليس اكثر من امتداد للرساميل وفعلها السحري. يقضي الاتفاق بانفتاح صيني محدود امام الاستثمارات الأجنبية لجهة تخفيض الضرائب عليها، وبالسماح لمصارف وشركات تأمين بافتتاح فروع، والتساهل مع تصدير السيارات، وزيادة عدد الافلام الاميركية المعروضة، الخ… وبالمقابل تلغي الولاياتالمتحدة نظام الكوتا على المنسوجات الصينية وتنأى بعلاقاتهما التجارية عن ذبذبات السياسة وتغيير الادارات. ومع الأهمية الاستثنائية لما حصل في 15 تشرين الثاني نوفمبر فان عقبات ما زالت تنهض في تحويله الى جواز مرور نهائي الى منظمة التجارة العالمية. صحيح ان هناك مشكلة تايوان، وضرورة استكمال المفاوضات مع بلدان وكتل اقتصادية اخرى اوروبا تحديداً، لكن المعضلة الرئيسية قد تكون اميركية. فمن المعروف ان تحالفاً هجيناً يقاوم هذا النوع من العلاقة مع الصين وهو متشكل من اليمين الجمهوري وأقصى اليسار الديموقراطي المدعوم من النقابات. فالجمهوريون يريدون معاملة الصين وكأنها القوة البازغة التي ستتحدى اميركا، في آسيا وربما خارجها، في العقود المقبلة. وسواء كانوا "انعزاليين" او "تدخليين براغماتيين" فانهم لا يمانعون في تحويل سور الصين الى جدار برلين جديد. يزعجهم جداً اي سلوك يقوم على افتراض ان الحرب الباردة انتهت وان اميركا "محرومة" من عدو. ويلقى هؤلاء دعماً من اليسار الديموقراطي وأصوليي الليبرالية بالمفهوم الاميركي. فبالنسبة الى هؤلاء لا يستحسن تقديم هدية الى الصين وحال حقوق الانسان على ما هي عليه. والأهم من ذلك يخشون من اغراق الاسواق الاميركية ببضائع بخسة تضغط على العمال الاميركيين وأجورهم. ستجد الادارة نفسها في مواجهة مع هاتين القوتين ولكن لن تواجه، على الارجح، الاهانة التي حلت بها عندما رفض الكونغرس التصديق على معاهدة حظر التجارب النووية، ولن تضطر الى التسوية التي اقدمت عليها، مع الكونغرس نفسه، من اجل دفع بعض متأخرات ديونها الى الاممالمتحدة. ولذا ليس مستبعداً ان يحاول كلينتون تسريع الامور بحيث تكون الصين حاضرة، ولو بصفة مراقب، في الاجتماع الذي يستضيفه، بعد ايام، في سياتل مدينة بوينغ وميكروسوفت من اجل اطلاق "دورة الألفية" من مفاوضات التجارة الدولية. ولا يمكن، اصلاً، النظر الى الاتفاق مع الصين الا من منظور سياتل والخلافات التي ما زال الاجتماع يثيرها. فالاميركيون كانوا يفضلون تقسيط التفاوض، حسم كل نقطة على حدة وبتها سريعاً. والاوروبيون مصرون على جدول اعمال متكامل وعلى تمديد النقاش لفترة تزيد عن ثلاث سنوات. وشعار الاتحاد الاوروبي "ان لا مجال للاتفاق على شيء قبل الاتفاق على كل شيء" ليونيل جوسبان. اكثر من ذلك يضغطون من اجل عدم الاكتفاء بالعناوين الرئيسية المطروحة: الانفتاح امام الرساميل، حرية المنافسة بما تعنيه من الغاء لقوانين تقيم تمييزاً لصالح ما هو محلي، اخضاع مشاريع القطاع العام لمناقصات دولية. وتدعمهم اليابان من اجل اقحام عناوين جديدة: المعايير الاجتماعية، البيئة، الأمن الغذائي، النظر الى الزراعة من زاوية توزيع عناصر الانتاج فوق المساحة الوطنية، الخ… وفي ظل صراع الجبابرة هذا تحاول الدول الفقيرة ان تكون كلمتها مسموعة. يطالب بعضها، لاعباً الدور السيئ، بألا تتحول "المعايير الاجتماعية" الى الغاء لمزاياها التفاضلية، ويذهب البعض الآخر الهند وباكستان معاً ولمرة أولى، ماليزيا، الخ.. الى ابعد من ذلك. فهذه الدول تطالب بوقفة في سياتل من اجل افتتاح مرحلة تقويم ما جرى بعد مراكش، واستكمال ما لم ينفذ، والتبصّر بالآثار التي تركها على اقتصاديات الدول الفقيرة. ومتى تم ذلك امكن الانتقال الى دورة جديدة وفق جدول اعمال متفق عليه. لقد خرجت الصين من هذا الصف وبالضبط لأنها اكثر استفادة من غيرها الميزان التجاري الفائض، الحصة في الاستثمارات الاجنبية المباشرة.... ولكن عندما يخرج خُمس البشرية دفعة واحدة ففي الامر ما يدفع الى التأمل والتفكير بكيفية مقاومة الزحف وبكيفية تحصيل الحقوق عبر المواكبة. ولئن كان متوقعاً من الصين ألا تكون شريكاً سهلاً في منظمة التجارة العالمية، فإن ذلك لا يعدو كونه تأكيداً لخاصية ثابتة: لقد كانت الشيوعية الصينية، على الدوام، الرداء الخارجي لنزعة قومية شديدة الصلابة.