استعيد بين حين وآخر قصة ذلك المعلم الذي أبدى استعداده لتعليم حمار العمدة القراءة والكتابة ، شريطة أن يتم التعليم في ظرف عشرين عاماً وأن يدفع العمدة جنيها ذهبياً للمعلم كل يوم طيلة هذه المدة ، وحين عاتب بعض العقلاء المعلم على قبول مهمة شاقة كهذه كون العمدة سيقتله إن لم يف بما التزم به ، ردّ عليهم بقوله : أيها الحمقى لقد ضمنت إعجاب العمدة بي ، وتوفير قوتي وقوت عيالي وسكنى القصر طيلة عشرين عاماً ، ولا ريب أنه خلال هذه الحقبة إما سيموت الحمار أو يموت العمدة أو أموت أنا!. تستوقفني هذه القصة التراثية كلما حاولت إعادة النظر في مفهوم الزمن وخصائصه ، ورؤيتنا له كأمم مستهلكة نعبث بكل أو معظم القيم والأفكار ونطيل حبال الأمل من دون استغراق في عمل أو إنتاج لافت ، ما يخيّل للمرء معه أننا كعرب ومسلمين حققنا للبشرية كل ما تصبو إليه من رقي وتمدن وإصلاح ، وأنجزنا لأوطاننا من التحضر والمدنية ما يعجز عن تحقيقه سوانا من مجتمعات وأمم الأرض ، وبما أن مطل الغني ظلم كما في الحديث ، فإن المطل أو المطال من الدولة أو المسؤول أو المؤسسة في إنجاز مشاريع تنموية وبنى تحتية وتشريعات ونظم تحفظ توازن المجتمع وتوطد دعائمه يكون حينها المطل أظلم وأطغى وعاقبته أخزى خصوصاً حين نغدو شركاء متشاكسين والزمن يتجاوزنا ساخرا منا. والزمن في المنظور الشرعي كائن حي ومتقوم ، ومن النصوص الدالة على أهميته أن الإنسان سيسأل يوم القيامة عن عمره فيما أفناه وعن شبابه فيما أبلاه ، والله عز وجل خلق الدنيا وخلق لها زمنا مقدورا لرحلتها العمرية، لينظم حركة الاستخلاف فيها كما شاء بما لمخلوقه الآدمي من مواهب وقدرات وأفكار وتصورات ، ولذا لفت ابن حزم إلى التلازم بين الزمان والمكان والإنسان بقوله (ولا شك في أن الله تعالى إذا خلق الجسم فإنما يخلقه في زمان ومكان) وحينها تتجلى أهمية الزمن وينتفي ما يريده البعض من إهمال عامل الوقت وإعمال العبثية واللامبالاة والرهان على المطال وتبديد الوقت أو تمييعه بالتسويف والتأجيل. ومن خصائص الزمن عند مفسري القرآن أنه كائن مخلوق كسائر الخلائق، له وجود معجل ببداية ، ومؤجل بنهاية ، ومراحل تجعل منه زمنا سريع الانقضاء ، ومن يدرك هذه الخاصية يثمّن قيمة الزمن ويستيقن أن استغلال المتاح واهتبال الفرص من دلائل التوفيق ، كيف لا ونحن نمتدح العوالم المتقدمة التي أنجزت حضارة مبهرة في أزمنة قياسية علماً بأنها تأخذ الزمن في إطار دنيوي وكقيمة حياتية ، بخلافنا نحن الذين نتعاطى مع الوقت باعتباره نعمة يحاسب عليها معطاها ، ويتحسر على كل تفريط فيها عند الحساب ، والقرآن الكريم كثيراً ما لفتنا إلى سرعة مرور الزمن بالإنسان عموماً ، وبالأعمار خصوصا ، من خلال التعالق بين حقيقتي الموت والحياة التي تجعل من العمر مهما طال قصيراً ، ونوح عليه السلام جاءه ملك الموت بعد حياة امتدت أكثر من ألف سنة ، وسأله يا أطول الأنبياء عمراً ، كيف وجدت الدنيا؟ فقال كدار لها بابان دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر. ومن خصائص الزمان الدنيوي أن ما سلف منه ومضى وانقضى ، لا ولن يعوض ولا يسترد. وبما أن للزمن أبعاده المرئية أو اللامرئية الحاضرة أو المغيبة عن وعينا الجمعي والفردي ، فمن المهم أن نُعيد نظرتنا ونظرنا لقيمة الوقت والتسليم بأن ما يمكن أن يكون ممكناً اليوم قد يغدو مستحيلاً في زمن آخر، مع الأخذ في الحسبان أن من خصائص الزمن تسارعه فهو يتقدم وما يمر به يتقادم ، وفي هذا ملمح خطير إلى الزمن يفعل بالإنسان فعلاً سلبياً إن لم يبادر الإنسان إلى الفعل الإيجابي النافع ، وما أكثر المحبطين الذين سقطوا في رتابة الملل وملل الرتابة كونهم ينتظرون من الزمن مساعدة تمكنهم من نيل مآربهم ، وتؤهل الظروف لتحقيق مطالبهم ، مراهنين على زمن لا يراهن عليهم. ولعلي أتوقف أحياناً مع ما يثار من قضايا الإعجاز ومنها أن الله خص الكون بنواميس كلية لا تتغير في الغالب إلا أنه أكد على أهمية السببية فجعل لكل مسبب سبباً ولكل مقدمة نتيجة ، ومنها العمل الصالح الذي لا يضيعه الله ويحفظ ثمرته حتى لغير المسلم (إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا) ، وحضارية دين الإسلام من الأمور المتفق عليها ومن تجليات حضاريته أنه يرفض تبرير البعض بكونهم مستضعفين في الأرض ، ويأبى التخلي عن العمل والإبداع والاستعاضة بالتقهقر والتخلف تحت ذريعة المقدر والمكتوب ، وفي الأثر (إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها) وهذا إعلاء لشأن العمل وتقديسه وفتح لنافذة الأمل برغم هول اليوم العصيب وانتهاء الحياة على كوكب الأرض. وبعودتنا إلى واقعنا الإنتاجي، وبرامجنا الإصلاحية ، نجدنا مغرقين في تفاؤلنا بصنع التحولات قبل أن نهيئ لها بنية تحتية اقتصادية واجتماعية وفكرية، مغفلين محدودية الزمن ، ومستغرقين في استرضاء ومناورة استبداد الضمير الجمعي الذي يراوح بين عتيق يتجدد وبين جديد يتعتق ، ما أدخل بعضنا في محيط الجبرية الذي يحيل قوى المجتمع إلى كائنات مسلوبة الإرادة ، مرتبكة الخطى، عاجزة عن تحقيق ذاتها وإسعاد مجتمعاتها ، وإذا كان البعض يبرر هذا الهدر في الوقت في مستواه الشعبي فإنه لا يمكن تبريره أو قبوله في برامج الدول والحكومات كون الدول مؤهلة بمؤسساتها المدنية وتوجهاتها الإصلاحية لمواجهة المنظومة العمرية ، ومسايرة حركة الحياة وإن كانت أسرع مما نتوقع ، ولعل بعض الشعوب العربية اليوم تخاطب حكامها من خلال رائعة الأمير الشاعر عبدالله الفيصل (يا مالكا قلبي) مرددين (قل لي إلى أين المسير ، في ظلمة الدرب العسير ، طالت لياليه بنا والعمر لو تدري قصير).