لا يسأم بعض الكتاب من العودة إلى سيرتهم الذاتية للكشف عن الجديد فيها والنهل من معينها، ليس فقط في أعمالهم الإبداعية التي لا تكون في الكثير من الأحيان سوى سيرة مقنعة في جوهرها، بل من خلال كتابة أشكال مختلفة من السيرة الذاتية أو المذكرات أو اليوميات شديدة الارتباط بتفاصيل حياتهم وخصوصياتهم وتأملاتهم في الحياة بعلائقها المتشابكة، وفي الكتابة بأسرارها الملغزة وحيلها الملتوية. الروائي الأمريكي (الذي عرفته شخصيًا لأول مرة مترجمًا للشعر) والشاعر السابق، بول أوستر من أبرز هؤلاء الكتاب؛ فقد نشر حتى الآن ثلاثة كتب مما يصنف في باب المذكرات، وهي (اختراع العزلة) عام 1982م (صدرت ترجمته العربية مؤخرًا بقلم أحمد العلي)، و(كراسة الشتاء) عام 2012م، و(تقارير من الداخل) عام 2013م. حتى الآن، ما زال كتابه الأول هو الأبرز والأكثر شهرة في هذه الثلاثية دون أن يعني ذلك بالطبع عدم وجود ما يستحق الاطلاع عليه والاستمتاع به في كتابيه الآخرين. في كتابه الثاني من هذه السلسلة، الذي كتب المقطع الأول منه في شتاء 2011م، يقدم أوستر نوعًا من السيرة المتشظية غير المنتظمة زمنيًا، مستخدمًا ضمير المخاطب في حديثه إلى وعن ذاته عبر مراحل عمره المختلفة بدءًا من طفولته الأولى وانتهاء بسنوات كهولته وشيخوخته وشتاء حياته؛ فالشتاء الوارد في عنوان الكتاب ذو دلالة مزدوجة فيما يبدو. فيما يلي نقدم ترجمة لمقطعين من مقاطع الكتاب، من موضعين مختلفين فيه: «جسدك في غرف صغيرة وفي غرف كبيرة، جسدك وهو يصعد وينزل السلالم، جسدك وهو يسبح في برك، وبحيرات، وأنهار ومحيطات، جسدك وهو يتمشى عبر الحقول الموحلة، جسدك مضطجعًا في العشب الطويل للمروج الخاوية، جسدك ماشيًا على امتداد شوارع المدينة، جسدك وهو يرتقي الهضاب والجبال، جسدك وهو يجلس في مقاعد، ويستلقي فوق الأسرة، ويتمدد فوق الشواطئ، ويقود دراجة هوائية في الطرقات الريفية، وهو يمشي عبر الغابات، والمراعي، والصحاري، راكضًا فوق آثار الرماد، قافزًا فوق خشب الأرضيات الصلب، واقفًا تحت مرش الماء، وداخلاً في أحواض الاستحمام الدافئة، جالسًا على مقاعد الحمامات، منتظرًا في المطارات ومحطات القطارات، صاعدًا في المصاعد ونازلًا منها، متشنجًا في مقاعد السيارات والحافلات، ماشيًا عبر عواصف ماطرة بلا مظلة، جالسًا في غرف الدراسة، متصفحًا في المكتبات ومحلات الاسطوانات التي اندثرت، جالسًا في قاعات، ومسارح سينما، وقاعات عروض موسيقية، راقصًا مع فتيات في الصالات الرياضية التابعة للمدارس، مجدفًا في قوارب في الأنهار، متناولًا الطعام فوق طاولات المطابخ، متناولًا الطعام على طاولات غرف الطعام، وفي المطاعم، متسوقًا في المتاجر متعددة الأقسام، ومتاجر الأجهزة، ومتاجر الأثاث، ومتاجر الأحذية، والبقالات، ومتاجر الألبسة، واقفًا في الطابور للحصول على جوازات سفر ورخص قيادة، مائلًا إلى الوراء في مقاعد وقدماك مرفوعتان فوق المناضد والطاولات وأنت تكتب في كراسات، منحنيًا فوق آلة كاتبة، ماشيًا خلال عواصف ثلجية دون قبعة، داخلًا إلى كنس وكنائس، مرتديًا وخالعًا ملابسك في غرف النوم، وغرف الفنادق، وغرف الملابس، واقفًا فوق السلالم المتحركة، مضطجعًا فوق أسرة المستشفيات، جالسًا فوق طاولات الفحص الخاصة بالأطباء، جالسًا في مقاعد الحلاقين ومقاعد أطباء الأسنان، متشقلبًا فوق العشب، واقفًا فوق رأسك على العشب، قافزًا في برك السباحة، ماشيًا ببطء في المتاحف، مدحرجًا كرات السلة في الملاعب، قاذفًا بكرات البيسبول والفوتبول في الحدائق العامة، شاعرًا بالأحاسيس المختلفة للمشي فوق الأرضيات الخشبية، والأسمنتية، والمبلطة، والحجرية، الأحاسيس المختلفة لوضع قدميك فوق الرمل والتراب والعشب، ولكن أكثر من ذلك كله الأحساس بالأرصفة، إذ هكذا ترى نفسك كلما توقفت لتفكر حول من تكون: رجل يمشي، رجل أمضى حياته ماشيًا في شوارع المدن». (ص 58-59) «لا تستطيع أن ترى نفسك. تعرف كيف تبدو بسبب المرايا والصور الفوتغرافية، ولكن هناك في العالم الحقيقي، وفي الوقت الذي تتنقل فيه بين البشر الآخرين، سواء أكانوا أصدقاء أو غرباء أو أكثر حبيباتك حميمية، فإن وجهك غير مرأي بالنسبة لك. تستطيع أن ترى أعضاء أخرى من جسدك، الذراعين والساقين، الكفين والقدمين، الكتفين والجذع، ولكن من الأمام فقط، لا شيء من الخلف فيما عدا الجزء الخلفي لساقيك إذا ما قمت بثنيهما في الوضع الصحيح، ولكن ليس وجهك، ليس وجهك أبدًا، وفي نهاية المطاف– على الأقل فيما يخص الآخرين– فإن وجهك هو أنت، الحقيقة الأساسية لهويتك. جوازات السفر لا تحتوي على صور للأيدي والأقدام. حتى أنت، من عشت داخل جسدك لأربعة وستين عامًا الآن، لن تتمكن على الأرجح من التعرف على قدمك في صورة منفصلة لتلك القدم، فما بالك بأذنك، أو مرفقك، أو حتى إحدى عينيك في لقطة مقربة. كل تلك الأعضاء مألوفة بالنسبة لك في سياق كلي، ولكنها مجهولة تمامًا حين يؤخذ كل منها على حدة. نحن جميعًا غرباء بالنسبة لأنفسنا، وإذا ما كان لدينا أي إدراك بما نحن، فإن سبب ذلك هو أننا نعيش في عيون الآخرين. فكر فيما حدث لك حين كنت في الرابعة عشرة من عمرك. لمدة أسبوعين في نهاية الصيف، عملت مع والدك في جيرسي سيتي، منضمًا إلى إحدى فرق العمل الصغيرة التي كانت تقوم بإصلاح وصيانة بنايات الشقق التي كان يمتلكها ويديرها هو وأشقاؤه: كنتم تطلون الجدران والأسقف، وتصلحون الأسطح، وتثبتون المسامير في الألواح الخشبية، وتنزعون أغطية المشمع المشققة. الرجلان اللذان عملت معهما كانا أسودين، وكل واحد من مستأجري الشقق كان من السود، وكل الجيران كانوا من السود، وبعد مرور أسبوعين من النظر إلى الوجوه السوداء فحسب، بدأت تنسى أن وجهك ليس أسود. بما أنك لا تستطيع رؤية وجهك، صرت ترى نفسك في وجوه الناس من حولك، وشيئًا فشيئًا كففت عن رؤية نفسك بوصفك مختلفًا. وفي الواقع، كففت عن التفكير في نفسك كليًا». (ص 163-164)