ما نسبة من لا يزالون يستخدمون القلم والورقة في الكتابة الآن؟ شخصياً، كففت عن ذلك منذ سنوات ليست بالقليلة إلا إن كنت مضطراً. بالطبع مررت بمراحل مختلفة وتدرجت ببطء في الانتقال من الكتابة بالأدوات التقليدية إلى استخدام الكمبيوتر ولوحة المفاتيح. كنت أكتب على الورق أولاً ثم أقوم بنسخ ما كتبته على الكمبيوتر، وكانت فكرة الكتابة مباشرة على الجهاز أمراً بالغ الصعوبة وشبه مستبعد، وكنت أندهش ممن يصرحون بأنهم هجروا القلم والورقة وانصرفوا لاستخدام لوحة المفاتيح والشاشة البيضاء بدلا منهما بشكل كلي. لكن التأقلم مع الأسلوب الجديد في الكتابة جاء بالتدريج كما أسلفت إلى أن صار هو النمط السائد والمهيمن بالنسبة لي وبالنسبة لكثيرين مثلي. غير أن هناك بعض الكتاب ممن لا يزالون متشبثين بأسلوب الكتابة التقليدي، غير قادرين على الفكاك من تلك العلاقة التي ليس من المبالغة في شيء وصفنا لها بالرومانسية والحميمية. يصف مؤلف (ثلاثية نيويورك)، الروائي الأمريكي بول أوستر، الكتابة بالتجربة الجسدية ويقول في حواره مع مجلة باريس ريفيو «لطالما شعرت بالرهبة أمام لوحة المفاتيح. إنني لا أتمكن من التفكير بوضوح وأصابعي في ذلك الوضع. إن القلم وسيلة أكثر بدائية؛ فأنت تحس بأن الكلمات تخرج من جسدك ومن ثم تحفر الكلمات في الصفحة. لطالما اتخذت الكتابة ذاك الطابع الملموس لدي». أما الشاعر والكاتب اللبناني عبده وازن في كتابه الصادر حديثاً (غرفة أبي) فيعلن صراحة استهجانه لفكرة «العلاقة بين الرأس ومفاتيح الكمبيوتر»، مستبعداً أن يكون للعلاقة بين المفاتيح والأصابع ما للعلاقة بين القلم والأصابع من حميمية، ويمضي لوصف القلم وصفاً شاعرياً حين يقول: «لطالما تخيلت القلم إصبعاً من أصابع اليد. قلم من لحم ودم أكثر مما هو من معدن أو بلاستيك وحبر. هذا القلم السحري لا يستمد «نوره الأسود» إلا من الشرايين النازلة من الرأس والمعرجة على القلب… حبره نور أسود، حبره دم أبيض، لأنه حبر الروح والمهجة والعقل». ويمضي وازن في هجائيته للمفاتيح والشاشة البيضاء «المعتمة» لينعى عصر المسودات، إذ يكتب الكاتب مباشرة دون مسودات مسبقة يعمل على تنقيحها وتجويدها حتى يصل إلى الصيغة التي ترضيه والشكل الذي يقنع به. وهو بهذا، أعني وازن، يجانب الصواب؛ فللكتابة المباشرة على الشاشة مسوداتها أيضاً، ولكنها مسودات آنية وفورية لا يتم الاحتفاظ بها على الأغلب، ولا يمكن الرجوع إليها كما هو الأمر مع المسودات الورقية. شخصياً أعتقد أن ما يعبر عنه كل من أوستر ووازن هو نوع من الارتباط العاطفي المحض الذي خلقته العادة وطول العهد بالشيء لا أكثر ولا أقل. هي محض عادات نألفها ونشعر بالنفور مما يهددها وينذر بتغييرها وتقويضها وربما الاستغناء عنها إلى الأبد. ومن يدري فلربما يجيء زمن تتطور فيها التكنولوجيا – وهي لا تكف عن التطور في كل لحظة – فيصبح بوسعنا أو يصير لزاماً علينا أن نكيف أنفسنا مع وسائل وتقنيات كتابة أكثر تعقيداً بحيث تصبح الكتابة باستخدام لوحة المفاتيح شيئاً من الماضي الذي يراودنا الحنين إليه.