واصلت إيران نهجها في المنطقة، بوصفها «دولة مارقة»، دون أدنى اعتبار لسنوات طويلة من العقوبات الاقتصادية التي رفعت للتو، فيما لا يتورع قادتها -في كل مناسبة- عن تأكيد تمسكهم بنهج إدامة "العنف" و"الدم". وانبرى السياسيون الإيرانيون، من فورهم، للحديث عن نهج بلادهم فيما بعد الإعلان الغربي عن رفع العقوبات، مؤكدين مجدداً أن طهران لن تحيد عما اختطته منذ اختطف الخميني السلطة في البلاد قبل ثلاثة عقود ونصف. «السياسة الخارجية ستتواصل على ذات المنحى»، هي خلاصة ما قاله المسؤولون الإيرانيون على مدى الثلاثة الأيام الأخيرة، في رسالة تؤكد «مواصلة» العنجهية والصلف الإيراني، في منطقة أثخنتها الجراح، وأملت طويلاً عودة «الدولة الضالة» إلى رشدها. "التهديد" و"الوعيد"، و"نظرية المؤامرة الكونية" ما زالت تحكم الخطاب الرسمي الإيراني، وهو ما تجلى في رد المرشد العام علي خامنئي على رسالة الرئيس حسن روحاني، اللذين أكدا -الرسالة والرد- على ذات النهج، ما يعني أن رفع العقوبات سيوفر لإيران "نافذة تمويلية" ل"إدامة الدم" ومواصلة "العنف" و"الإرهاب". ولم يُخف رئيس مجلس الشورى الإيراني علي لاريجاني، في تصريحات تناقلتها وكالات الأنباء، وجهة بلاده، وقال: إنها ستواصل العمل باتجاهين اثنين، الأول: تدعيم "محور المقاومة" و"حركات الممانعة"، والثاني: تعزيز نفوذ إيران وأذرعها في المنطقة، ما يعني أن إيران ما بعد رفع العقوبات ستواصل سياساتها في تهديد السلم الإقليمي والدولي. تأجيج المنطقة ويرى الخبير والباحث في الشؤون الإيرانية د. نبيل العتوم -الذي استطلعته "اليوم"- أن "طهران لن تألو جهداً في تأجيج المنطقة، وإعادة تدوير التوتر والفوضى"، فهي -بحسبه- ستستفيد من التطورات الجديدة المتعلقة برفع العقوبات. وفي تفسيره لما هي مقبلة عليه، يقول العتوم: إن "إيران ستسعى إلى تسخين الإقليم"، مدعومة بتقديرات موقف "غير دقيقة" حول ردة فعل الولاياتالمتحدة، مبيناً أن "العين الإيرانية ترى أن الاتفاق يعني تفويضاً أمريكياً في المضي بسياستها الإقليمية المتهورة". ردة الفعل الأولية الصادرة من طهران في أعقاب إعلان وكالة الطاقة الذرية بداية الأسبوع المنقضي عن تثبتها من تنفيذ إيران لالتزاماتها، تكشف زهواً ب"نصر" وصفه روحاني ب"المجيد"، في محاولة للقفز بعيداً عن "الوقائع الإيرانية"، وهو ما يدفع إلى استفهام أساسي: هل كان نصراً "مجيداً" أم "زائفاً"؟. مبدئياً، لا شك أن طهران حققت "منافع آنية" برفع العقوبات، فعلى المستوى الاقتصادي ستستعيد أرصدة مالية محتجزة منذ سنوات (تقدر قيمتها ب100 مليار دولار)، ستوظفها في عمليات "الإنفاق الداخلي"، ضمن جهود إقناع الإيرانيين بجدوى "الصمود" المزعوم في مواجهة "الشيطان الأكبر"، وكذلك في تمويل "أنشطة إرهابية" في عدة مناطق، من بينها سوريا واليمن، بما يَقِي حلفاءها "هزيمة محققة"، بيد أن هذه الارصدة ستنتقل إليها عبر عملية متدرجة، ما يفقدها قيمتها ك"رافعة نوعية" قادرة على إحداث فارق جوهري في النظام الاقتصادي الإيراني. كما أن طهران -بموجب الاتفاق- ستعاود تصدير النفط إلى السوق العالمي، بيد أن أسعار النفط الحالية ستشكل بالنسبة لها معيقاً جوهرياً في جني الفوائد المرجوة، خاصة في ظل حاجتها إلى "بنية تحتية نفطية"، ما يستدعي استثمارات كبيرة وتحديثات تحتاج إلى إنفاق واسع ووقت طويل نسبياً، فضلاً عن بيئة استثمارية آمنة وموثوقة للشركات العملاقة، التي تتجنب المجازفة في البيئات الصراعية. على المستوى السياسي، استطاعت طهران اختراق جدران العزل، لكنها لم ولن تستطع أبداً إزاحة إرث ثقيل وممتد زمنياً من المواقف العدائية وغير المطمئنة، سواء حيال الغرب الصناعي أو حيال الشركاء المفترضين كروسيا الاتحادية، إضافة إلى جوار يشعر بالريبة، إن لم يكن بالقلق من عدائيتها، حيال مجمل السياسات الإيرانية. وكذلك عجزت طهران تماماً على مدى أشهر أعقبت توقيع الاتفاق النووي عن توظيف خطاب سياسي معتدل، على المستويين الداخلي والخارجي، إذ واصل الرسميون الإيرانيون "خطاب الشيطنة"، سواء في توجيه الرأي العام الداخلي، أو في التعامل مع الفاعلين الاقليميين والدوليين، وهو ما تظهره التصريحات الصادرة عن المسؤولين الإيرانيين، الأمر الذي يمكن تفسيره ب"عجز النظام السياسي الإيراني، بتركيبته البنيوية والفكرية الحالية، عن إحداث التغيير". ويتفق خبراء في الشأن الإيراني -استطلعتهم "اليوم"- على أن طبيعة النظام السياسي الإيراني، على المستويات الفكرية والبنيوية والفردية تشكل عائقاً وعقبة كأداء أمام مغادرة إيران لدورها، بوصفها دولة مارقة، إلى دولة طبيعية، الأمر الذي يبقيها -رغم الاتفاق مع القوى الغربية- في إطار كيان خارج على مجمل القيم والتقاليد والقوانين الهادفة إلى بناء السلام الإقليمي والدولي. ويرى الخبراء أن "التوزيع الظاهر للسلطة في النظام الإيراني لا يعكس -بحال من الأحوال- حقيقة البنية السلطوية، إذ تتداخل في السلطة مراكز نفوذ في حقيقتها أقوى بكثير من السلطات الظاهرة، ومرد هذا الأساس الفكري لنشأة النظام السياسي فيما يُعرف بثورة الخميني، التي كرست وجذّرت من تصفهم بالقوى الثورية كفاعلين أساسيين في عملية اتخاذ القرار، وبات هؤلاء بعد عقود أشبه بكنتونات (أمنية وعسكرية وسياسية واقتصادية) داخل كيان يوصف بالدولة". ويؤكد الخبراء أن "بنية النظام السياسي الإيراني -بما تتضمنه من مؤسسات شرعية دستورية وأخرى ثورية، مدنية وعسكرية واقتصادية، وسعي كل منها إلى الديمومة وتوسيع النفوذ والمكاسب- تمنع بشكل قطعي إحداث تغيير في نهج الكيان السياسي القائم، ما يحيل تأثير القوى الإصلاحية إلى تأثير هامشي، وعاجز عن إحداث الفرق المأمول، الأمر الذي يشي بأن طهران وساستها سيواصلون ذات النهج في إدارة إيران ذاتها أولاً، وفي إدارة الملفات الخارجية ثانياً". في مقابل ذلك، يختطف "المتشددون" السلطة في إيران، ويجثمون على مختلف مفاصل الدولة، الأمر الذي يستحيل معه أحداث أي تغيير يذكر، خاصة مع إحباط مجلس صيانة الدستور لتوجه الإصلاحيين نحو الانتخابات المقبلة بإبطاله ترشيح 2970 مرشحا إصلاحيا لانتخابات مجلس الشورى (البرلمان) المرتقبة الشهر المقبل، وسماحه فقط بترشيح 30 إصلاحياً، ما يعني "قرصنة جديدة" للسلطة في إيران لسنوات مقبلة. مختلف الدراسات، التي تناولت المجتمع الإيراني، تشي بأن شريحة كبيرة من الشعب الإيراني، تشكل الغالبية، راغبة بالانفتاح الداخلي والخارجي، وتسعى إليه، بما يعيد إيران إلى دولة طبيعية في الإقليم والعالم، بيد أن "مختطفي السلطة" يعيقون هذا الانفتاح، ويقفون في وجه الإرادة الشعبية وحق الايرانيين في تقرير مصيرهم. ويشكل استعراض سريع للمكونات القومية والدينية والمذهبية في إيران دليلاً دامغاً على حقيقة "اختطاف المتشددين للسلطة" و"قرصنتهم للإرادة الشعبية"، عبر "منظومة أمنية - سياسية"، قوامها الاستبداد والقمع، وجرى تكييفها وفق مقتضيات ورغبات "الكنتونات" المكوّنة للكيان الإيراني، وهو ما يظهر جلياً في آليات ومعدلات إعدام المعارضين السياسيين، التي ناهزت 1000 "إعدام مُسَجّل" وفق المنظمات الحقوقية، فيما لا يُعرف الرقم الحقيقي. وتتضمن هذه "القرصنة" النظام "الديمقراطي" في إيران، الذي يخضع تماماً لإرادات ورغبات المرشد الأعلى ومجلس صيانة الدستور، واسعي النفوذ في البلاد، وهو ما أعاق في وقت سابق مساعي إصلاحية لتقويض مكانة "الكنتونات" الأمنية والعسكرية والاقتصادية في البلاد، إلا أنه مسعى باء بالإخفاق. هذه الحقائق وغيرها تؤكد أن إيران ستواصل سعيها في محاولة السيطرة على المنطقة، وتبديد الأمن والاستقرار فيها عبر مواصلة دعمها للإرهاب وأذرعه، سواء في العراقوسوريا ولبنان، أو في اليمن، فضلاً عن مواصلة تبني "الثورية" ضمن الفهم الصفوي - الفارسي، الذي يعني التدخل -دون موجب أو رادع أخلاقي أو قيمي- في شؤون الدول لتحقيق "الحلم الآثم" ب"إلحاق" الشيعة العرب بولاية الفرس، وهو ما يعبر عنه الدستور الإيراني بحديثه "الزائف" عن "دعم المستضعفين". وتعليقاً على النهج الإيراني وضرورة مواجهته، يرى السياسي والبرلماني الأردني المخضرم د. ممدوح العبادي -الذي استطلعته "اليوم"- أن الخيار الإقليمي الوحيد هو "تجذير التحالف العربي، وتكريسه كحقيقة دائمة"، لمواجهة المد الفارسي. ودعى العبادي إلى "توسيع التحالف العربي، بضم كافة الدول العربية إليه، وضمن رؤية إستراتيجية دفاعية تصالحية، تمكنه من إحباط أي مسعى للنيل من الأمة". ويتفق الخبير العتوم مع ما ذهب إليه العبادي، ويقول: «لا بد من انتهاج خط سياسي عربي، يُقيم صيغة تعاونية أفضل مع دول مجلس التعاون الخليجي، عبر تعزيز العلاقات العربية - العربية، بما ينتهي به المقام إلى قوة إقليمية عظمى، تكون قادرة على ضبط الإقليم في ظل الانسحابات الأمريكية من المنطقة».