لقد بدأنا نشهد في دولنا العربية خلال السنوات القليلة الماضية دعوات متواترة لترشيق القطاع العام بحيث يتمكن من اداء المهام التي لا ينبغي ان تستقيل منها الدولة، والتي يمكن لها بنتيجة تفرغها ان تؤديها بكفاءة عالية. يجب ان لا ننسى ان القطاع العام يتعامل بموارد مادية وبشرية وزمنية محدودة، وعليه ان يحسن استعمالها بالطريقة التي تؤدي الى النتيجة الافضل للاقتصاد وبالتالي للمواطنين. وهكذا فمع تسارع وتيرة المتغيرات الحاصلة، تزايد الحديث عن ايلاء القطاع الخاص دورا اكبر في ادارة الخدمات العامة، والتي يؤمل ان تسهم في استعمال افضل للموارد المتاحة وفي تحسين مستويات الخدمات العامة. لكن لابد لنا من الاعتراف هنا بان المواطن يرتاح اجمالا لتولي الدولة تقديم الخدمات العامة على خلفية النظرة التقليدية بان الدولة تشكل مصدر طمأنينة له ومصدر قوة واستمرارية في تقديم الخدمة. الا ان المواطن قد لايدرك انعكاس التدني في مستوى الكفاءة والانتاجية والجودة للخدمات المقدمة من قبل مؤسسات القطاع العام على حجم العجز في موازنات الدولة. كما قد لايدرك المواطن انعكاس ذلك بدوره على حجم الدين العام والذي يتحمله هو نفسه من خلال تحمله للضرائب الاضافية التي يستوجبها تنامي الدين العام. وهو بالتالي قد لايربط في ذهنه بين تدني مردودية الانفاق على الخدمات التي تؤدى بكفاءة اقل وانتاجية ادنى من قبل مؤسسات القطاع العام بالمقارنة مع المردودية الاعلى وفي المحصلة الكلفة الاقل للخدمات ذاتها عندما تؤدى من قبل مؤسسات القطاع الخاص بشكل تنافسي ومستند الى قواعد حسن الاداء. ازاء ذلك يكون علينا ان نسلط الضوء على هذه الحقائق للمواطنين وبوضوح وبموضوعية شديدة، وصولا الى توسيع مساحة الحوار الجدي بشأنها واستنادا الى الشواهد الموجودة لدى دول عديدة املا في تغيير القناعات الخاطئة لدى المواطنين بان تولي القطاع العام تقديم تلك الخدمات مباشرة فيه لهم ضمانة اضافية وفيه لهم خفض في كلفة تقديم تلك الخدمات. واضاف: ان المنحى الذي بدأت الحكومات العربية اتخاذه مؤخرا، ومن بينها الحكومة اللبنانية، في العودة الى ايلاء القطاع الخاص دورا اكبر نسبيا في الاقتصاد الوطني وفي تأدية بعض الخدمات التي كانت في يوم من الايام حكرا على الدولة يعود الى ادراكها وقناعتها بان استعمال الموارد المتاحة بالشكل الامثل يجب ان يكون هاجسا اول لدى المسؤولين. لان هذه الموارد انما هي في المحصلة موارد المواطنين ولا يجوز التفريط فيها بطريقة لا تعطي المردود المطلوب وبالكفاءة والجودة المطلوبة. وتقترن هذه القناعة بما بات واضحا من خلال خبرة العديد من الدول المتقدمة والتي وجدت ان القطاع الخاص هو اقدر من الدولة على تأدية قسم كبير من تلك الخدمات وذلك بمردودية اعلى وبكلفة ادنى. ومن ناحية اخرى فان العودة الى ايلاء القطاع الخاص دورا نسبيا اكبر في اقتصاداتنا تؤمن لهذه الاقتصادات فرصا جديدة للتطور ومجالا ارحب للتوسع في انشطتها والقدرة على التعامل والتكيف مع المتغيرات وفي توفير خدمات افضل واشمل للمواطنين. ويعزز ذلك التقدم الاقتصادي والعلمي والتقني في بلداننا العربية. فثمة علوم وتكنولوجيات ومعارف مستجدة يكون علينا مواكبتها والتقدم في مجالاتها حتى لانستمر في الاعتماد على الخارج في تأديتها من جهة، او ان تنفرد الدولة في تقديمها وهي التي تنوء اصلا بما عليها من احمال واعباء وهي لاقبل لها بتحمل الكلفة الاضافية والمسؤولية الادارية والتنظيمية والتطويرية التي تترتب على تحملها مسؤولية تقديمها مباشرة، بينما في المقابل من الممكن توفير تلك الخدمات وبشكل غير مباشر من خلال ايلاء امر تقديمها الى مؤسسات القطاع الخاص الذي يمكن له ان يتولى تلك بشكل متزايد. كما يمكن ايضا ايجاد تنافس حميد بين مؤسسات القطاع العام ومؤسسات القطاع الخاص تنعكس ايجابياته على نوعية وجودة الخدمات وعلى المواطنين وعلى الاقتصاد شريطة ان تستمر الدولة طبعا في دورها الرقابي حماية لمصالح المواطنين والمستهلكين. ولكن هذه القناعة عند المتنورين من القادة طالما اصطدمت بتشبث قادة اخرين يصرون على تولي الدولة او مؤسساتها اداء تلك الخدمات بصورة مباشرة اما لظنهم ان في تولي القطاع الخاص مثل هذه الاعمال تخليا من جانب الدولة عن بعض دورها واما بصراحة لان استمرار تولي الدولة لهذه الاعمال يتيح لبعض منهم الاستمرار في استدرار منافع خاصة، مادية او سياسية كما يتيح لهم الاستمرار في التوظيف في اداراتها، عن جدارة او غالبا دون جدارة وحتى دون الحاجة المبررة لخدماتهم، لا لشيء الا لتعزيز شعبيتهم وحظوظهم الانتخابية، والله اعلم. هناك امران اثنان اذا: العجوزات المالية التي تواجهها دولنا وتنامي نسب الدين العام الى الناتج القومي في معظم دولنا العربية، والثاني المتغيرات الاقتصادية والديمغرافية في العديد من الدول العربية حتى النفطية منها والتي لم تعد تسمح بالتغاضي عن استنزاف موارد الدولة، التي هي ملك لجميع المواطنين. من هنا كان اصرارنا الدائم على ضرورة الاصلاح الاداري والمالي والبنيوي الذي يتصدى للحجم المتزايد للقطاع العام على حساب الخزينة وعلى حساب جيوب المواطنين. ومن هنا ايضا كان اصرارنا على ترشيق حجم الادارة بشتى دوائرها واسلاكها. كما كان اصرارانا على ضرورة ان تتدرج الدولة ودون ابطاء في افساح المجال من امام القطاع الخاص لتولي الخدمات كافة التي يستطيع تأديتها بما يحفظ حقوق المستهلكين والمواطنين وبما يعود بالوفر الضروري في أموال الخزينة التي هي في محصلة الامر جيوب المواطنين. ان الاتجاه نحو التخصيص لايعني، كما يزين لذلك معارضو اعطاء القطاع الخاص دورا اكبر في الاقتصاد وفي الخدمات العامة، تخلي الدولة عن مهامها او استقالتها من مسؤولياتها ودورها الاساسي الذي هو خدمة المواطنين وتقديم الخدمات لهم. وهذا لايعني تحولا من احتكار القطاع العام في تقديم تلك الخدمات الى احتكار للقطاع الخاص، والا كان في ذلك حتما ظلم للناس واستقالة من واجبات الدولة. مما لا شك فيه ان الانتقال التدريجي والمدروس لهذه الخدمات من مؤسسات القطاع العام الى مؤسسات القطاع الخاص امر يشكل تحديا ونقلة نوعية في النظرة الى دور الدولة. * وزير المالية اللبناني