احتفل العالم قبل أيام ولأول مرة بيوم السعادة، حيث اعتمدته الأممالمتحدة يوم 20 مارس من كل عام، إيمانا بأهميتها وضرورة اتباع نهج أكثر شمولا وإنصافا وتوازنا نحو النمو الاقتصادي. العالم اليوم بحاجة إلى نموذج اقتصادي جديد يحقق التكافؤ بين دعائم الاقتصاد الثلاث: التنمية المستدامة، والرفاه المادي والاجتماعي، وسلامة الفرد والبيئة، هي الأسس التي تشكل تعريف السعادة العالمية. كان ذلك بمبادرة من «بوتان»، أسعد دولة في آسيا، هي التي أقرّت بأثر زيادة مستوى السعادة الوطنية على زيادة مستوى الدخل القومي منذ سبعينيات القرن الماضي، واعتمد نظامها الاقتصادي شعاره المشهور بأن السعادة الوطنية الشاملة هي «أهم ناتج قومي للبلاد»! ذلك الخبر يأتي متناغما مع البحوث التي نقرأها بين حين وآخر حول أسعد بلدان العالم. وقد نشرت الأممالمتحدة مؤخرا أيضا تقريرا عن السعادة بالتعاون مع معهد إيرث بجامعة كولمبيا بعنوان «تقرير السعادة العالمي World Happiness Report «، الذي يعرض أكثر الدول سعادة في العالم. استند التقرير إلى إحصائيات من 156 بلدا شملت دراسة عوامل مختلفة مثل ظروف العمل وفساد الشركات ومشكلات الأسر وحرية الاختيار والصحة. وقد حلت السعودية في المرتبة 26 وسبقت الكويت 29 وقطر 31، في حين تصدرت الإمارات قائمة أكثر الشعوب العربية سعادة، بينما حلت اليمن في ذيل التقرير ضمن قائمة أكثر الشعوب العربية تعاسة، التي تضمنت كذلك كلا من سوريا والسودان والعراق. مثير هو مفهوم السعادة حين يتعلق بالشعوب. لا سيما أن أسباب السعادة تختلف من زمن إلى آخر، ومن شعوب إلى أخرى. فأسباب السعادة في الماضي ليست بطبيعة الحال هي أسباب السعادة في عالم مكتظ بالتكنولوجيا والتقدم. لقد كان الاعتقاد السائد فيما مضى أن السعادة تنبع من الداخل، من النفس، ومن العقل الذاتي. وطُبع كثير من الكتب والبرامج التي تحرض وتدعو إلى أن السعادة هي داخلية نحرثها فتظهر. لكن علماء الاجتماع اليوم يكسرون هذا النسق من الاعتقاد بدراساتهم، بأن السعادة الداخلية فحسب هي محض وهم، أو ربما نصفها بأنها ناقصة. فالسعادة في البحوث الأخيرة نابعة أيضا من الظروف الخارجية بدرجة كبيرة. فها هي في الألفية الجديدة تتخذ أسبابا أخرى. ومؤخرا أيضا، وضع عالم النفس «أدريان وايت» من جامعة لييستر البريطانية أول خريطة عالمية للسعادة، اعتمد فيها على بيانات متعددة، واستند فيها إلى تحليل المعلومات الصادرة عن المنظمات الدولية كاليونيسكو ومنظمة الصحة العالمية. وقد وجد الباحث أن السعادة في المقام الأول هي ثقافة وطنية، فبعض الثقافات الوطنية تنجح في إنتاج مواطنين سعداء مقارنة بثقافات وطنية أخرى. وقد اختار الباحث خمسة معايير لتصنيف 178 دولة من حيث سعادة شعوبها، وهي الصحة والغنى وتربية الحس الوطني وجمال المناظر. وجاء الشعب الدانماركي أسعد شعب في العالم. والمثير اللافت في الدراسة أيضا تقدم الديمقراطيات الغربية الصغيرة في المراكز العشرة الأولى لأسعد الشعوب، وهي دول مسالمة بجيوش عسكرية متواضعة واقتصاد ليس متفوقا وإن كان جيدا إجمالا. والغريب في هذه الدراسة أن الدول الإمبريالية ليست الأسعد، فأمريكا العظمى سياسيا واقتصاديا وعسكريا وتكنولوجيا جاءت في المرتبة الثالثة والعشرين، بينما الدول الصناعية المتقدمة في مراكز مفاجئة متأخرة أيضا. والمثير أيضا أن دراسة «وايت» تدحض أن الرأسمالية هي من تصنع بؤس الشعوب، حيث اعتقد أن مشكلات الحياة المعاصرة لا يمكن مقارنتها بمستوى التعليم والمال الذي يكسبه الفرد. مفهوم السعادة مختلف ومعاييره مختلفة، لكن الأسس واحدة. وإذا كانت السعادة ثقافة وطنية كما ترى الدراسات المتعمقة، فهل يمكن أن نوجد هذه السعادة في أي مكان في ظل التطور التقني الذي يلغي حدود الجغرافيا؟ الحق أن التطور التقني لا يلغي الجغرافيا تماما وبشكل مطلق وإن كانت تختصر المسافات. فالوطن يظل أيقونة مهمة أيضا. أن تكون السعادة ثقافة وطنية هي أهم ناتج قومي للبلاد بحسب دولة «بوتان» الصغيرة، إنه لمفهوم جدير بالقراءة. هل بالإمكان تعزيز ثقافة السعادة وطنيا في بلادنا؟ بلادنا الشبيهة نسبيا بثقافة دول أمريكا اللاتينية من حيث الترابط الأسري والاجتماعي ووجود العامل الديني، حيث العامل الديني بحسب الدراسات يرفع من نسبة السعادة والرضا النفسي، رغم أجورهم بين المتدنية والمتوسطة، في حين نتفوق عليها نحن من ناحية الاقتصاد العام. بين الذاتية والظروف الخارجية، ما الذي يخلق ثقافة السعادة الوطنية؟ سؤال يستحق التفكر.