الوطنُ قيمةٌ لا غنيمة، مشاعر متبادلة بين أرض وإنسان، اتصال حميم لا تكفي الكلمات في التعبير عنه، تفاعل فطري بين المعاني واللغة، حقيقة لا مجاز، حبٌ وحذر، طمأنينة وقلق، ومساراتٌ مليئة بالمنعطفات والمُفاجآت، حركة انسيابية تربط بين الشكلي والجوهري، التحام عاطفي بين ظاهر وخفي، علاقةٌ لها أبعادها ودلالاتها، واقعٌ ومتخيل، دفءٌ وبرود، حركةُ زمن تتجلى آثارها في صحف التاريخ وتضاريس الجغرافيا، ثوابتٌ ومتغيرات، ومعرفةٌ وانفعالات، ارتباط الذهن بالمعيش والمؤمل، ترقّب المشاعر للأجمل، بهو نقي يتزين بما نتعلق به، ونذوب فيه، ونتماهى معه، اختبار شرس للانتماءات العفوية والمصطنعة، وضوحٌ حد اللبس، وجهٌ لا تنساه أعيننا، ومساحةٌ تسكن قلوبنا، ونظرات متبادلة تستقبل وترسل.. لا أتحدثُ عن معشوقة بشرية لم يخلق مثلها في البلاد، أو فاتنة لا تُعاد ولا تستعاد، أتحدث بعفوية مواطن عن عمق العلاقة بوطن، سكننا وسكنّاه، وتربينا على لذة التحديق فيه، والانجذاب إليه، والاستمتاع بمنجزه، والحزن لإخفاقه، إنه العدلُ حين يُحدق بالفرد طغيان الجور، والأمن كلما استبدت بنا المخاوف، والأمل إذا ما تملّكنا اليأس، والتنمية في ظل ركود وخراب بلدان تعسّف الطغاة في حكمها بالحديد والنار، وليس كلنا ذا بصيرة في إدراك محاسن وطنه وهي أكبر من أن تغطيها الشائعات أو تلتبس بترهات ومغالطات، وطنٌ أثبت نفسه بنفسه، على ترابه وُلدنا، ومن خيره غُذّينا، وفي مدارسه ومعاهده وجامعاته تعلمنا، وفي مؤسساته عملنا، فبادلنا الحُب بمثله، وعزز فينا روح الانتماء لكل شبر منه، ما أشعرنا بالثقة المتبادلة، ووضعنا أكفنا بكفه فرسم بنا الخُطى وحدد الاتجاهات إلى محراب الوطنية الصادقة، ونمّى فينا معنى التصالح على التفاصيل والحفاظ على الكينونة ومنحنا فرصة الاختلاف كي لا نكون عالة على غيرنا في التفكير وحرية التعبير، فتحصنت ذواتنا، واتسعت مخيلتنا، وانطلقت حواسنا في المشاركة والعمل على تجميله وإبراز مفاتنه، وتعديل مظنة الغوايات، ونجح الولاء في حماية الاجتهادات من الوقوع في شرك الإساءة لأعز وأقدس الأوطان، وكانت وما زالت وستظل الأسرة الحاكمة في السعودية محل بيعتنا ورضانا وتوافقنا وإن نعقت غربان الليل وخفافيش الظلام، فالقادة هنا في منزلة الآباء نسعد بهم، ونفاخر بمنجزهم، ونستمد منهم الضوء لتصحيح المسار، ونحفظ لكل واحد منهم حق الولاية الشرعية والوطنية، وحين يتعرض أحدهم لمكروه نستشعر ألمه ونحزن لمصابه لأنها مشاعر متبادلة، ومصيبة الموت صادمة والفقد موجع. ورحيل رمز وطني بحجم الأمير نايف بن عبدالعزيز رحمه الله مدعاة لاستحضار حمى الجسد عندما يُصاب عضو من أعضائه كيف لا ونحن نُحسن الظن بملوكنا وقادتنا ونلمس حس الأبوة في تعاملهم معنا، ما يُحتّم عند كل منعطف أن نزداد تواصلاً وقرباً ووحدةً تعزز مكانتنا وتحمي صفنا، رحم الله أبا سعود وأحسن عزاءنا جميعاً، وعند الفقد تخلع الروح حجابها وتفتح نافذة مُعتّقة بالحنين.