ولادة المها العربي ال15 في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    نجاح عملية جراحية دقيقة لطفل يعاني من ورم عظمي    ضيوف الملك من أوروبا يزورون معالم المدينة    المملكة تستضيف الاجتماع الأول لمجلس وزراء الأمن السيبراني العرب .. غداً    فيصل بن بندر يرعى حفل الزواج الجماعي الثامن بجمعية إنسان.. الأحد المقبل    المملكة واليمن تتفقان على تأسيس 3 شركات للطاقة والاتصالات والمعارض    اليوم العالمي للغة العربية يؤكد أهمية اللغة العربية في تشكيل الهوية والثقافة العربية    "الوعلان للتجارة" تفتتح في الرياض مركز "رينو" المتكامل لخدمات الصيانة العصرية    الصحة تحيل 5 ممارسين صحيين للجهات المختصة بسبب مخالفات مهنية    قمر التربيع الأخير يزين السماء .. اليوم    القبض على ثلاثة مقيمين لترويجهم مادتي الامفيتامين والميثامفيتامين المخدرتين بتبوك    نائب وزير الخارجية يفتتح القسم القنصلي بسفارة المملكة في السودان    "سعود الطبية": استئصال ورم يزن خمسة كيلوغرامات من المعدة والقولون لأربعيني    تنفيذ حكم القتل بحق مواطنيْن بتهم الخيانة والانضمام لكيانات إرهابية    طقس بارد إلى شديد البرودة على معظم مناطق المملكة    أسمنت المنطقة الجنوبية توقع شراكة مع الهيئة الملكية وصلب ستيل لتعزيز التكامل الصناعي في جازان    اختتام أعمال المؤتمر العلمي السنوي العاشر "المستجدات في أمراض الروماتيزم" في جدة    "مجدٍ مباري" احتفاءً بمرور 200 عام على تأسيس الدولة السعودية الثانية    إقبال جماهيري كبير في اليوم الثالث من ملتقى القراءة الدولي    إصابة 14 شخصاً في تل أبيب جراء صاروخ أطلق من اليمن    «عكاظ» تنشر توصيات اجتماع النواب العموم العرب في نيوم    التعادل يسيطر على مباريات الجولة الأولى في «خليجي 26»    «الأرصاد»: طقس «الشمالية» 4 تحت الصفر.. وثلوج على «اللوز»    ضبط 20,159 وافداً مخالفاً وترحيل 9,461    مدرب البحرين: رينارد مختلف عن مانشيني    فتيات الشباب يتربعن على قمة التايكوندو    «كنوز السعودية».. رحلة ثقافية تعيد تعريف الهوية الإعلامية للمملكة    وفد «هارفارد» يستكشف «جدة التاريخية»    حوار ثقافي سعودي عراقي في المجال الموسيقي    رينارد: مواجهة البحرين صعبة.. وهدفنا الكأس الخليجية    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    200 فرصة في استثمر بالمدينة    «العالم الإسلامي»: ندين عملية الدهس في ألمانيا.. ونتضامن مع ذوي الضحايا    5 حقائق حول فيتامين «D» والاكتئاب    سمو ولي العهد يطمئن على صحة ملك المغرب    التعادل الإيجابي يحسم مواجهة الكويت وعُمان في افتتاح خليجي 26    الحربان العالميتان.. !    رواية الحرب الخفيّة ضد السعوديين والسعودية    وزير الطاقة وثقافة الاعتذار للمستهلك    معرض وزارة الداخلية (واحة الأمن).. مسيرة أمن وازدهار وجودة حياة لكل الوطن    رحلة إبداعية    «موسم الدرعية».. احتفاء بالتاريخ والثقافة والفنون    هل يجوز البيع بسعرين ؟!    لمحات من حروب الإسلام    12 مليون زائر يشهدون أحداثاً استثنائية في «موسم الرياض»    «يوتيوب» تكافح العناوين المضللة لمقاطع الفيديو    السعودية أيقونة العطاء والتضامن الإنساني في العالم    مدرب الكويت: عانينا من سوء الحظ    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    وصول طلائع الدفعة الثانية من ضيوف الملك للمدينة المنورة    أمير القصيم يرعى انطلاق ملتقى المكتبات    ضيوف خادم الحرمين يشيدون بعناية المملكة بكتاب الله طباعة ونشرًا وتعليمًا    المركز الوطني للعمليات الأمنية يواصل استقباله زوار معرض (واحة الأمن)    الأمر بالمعروف في جازان تفعِّل المعرض التوعوي "ولاء" بالكلية التقنية    شيخ شمل قبائل الحسيني والنجوع يهنى القيادة الرشيدة بمناسبة افتتاح كورنيش الهيئة الملكية في بيش    الأمير محمد بن ناصر يفتتح شاطئ الهيئة الملكية بمدينة جازان للصناعات الأساسية والتحويلية    السيسي: الاعتداءات تهدد وحدة وسيادة سورية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



( تباينات الأحلام والهواجس والرؤيا .....)
عبدالله باشراحيل ...وما نَشرهُ في صحيفة (الندوة) من شعر ...!
نشر في الندوة يوم 29 - 03 - 2011

كانت العرب تجعل من دار الندوة برلمانا لكل حياتها ومهما تعددت الأوجه والغايات ( الثقافة ، السياسة ، الاقتصاد ، الصُلح ، والتشاور ) ، أي أن دار الندوة كانت منبر العرب لتأتي إليه وتبث ما في جعبتها من شجن ورؤيا ومظالم وقصيد ...!
ويقيناً أن صحيفة الندوة المكية أخذت من عبق ندوة الأمس وجود حاضرها ومسيرتها في جعل الثقافة المكية عولمة من الفكر والإسلام والتحضر .فقد كانت مكة ومنذ أن حملت مهمتها الإلهية لتكون نقطة البدء في تواصل الإنسان مع السماء وخالقه تمثل قطب الجذب والمكان المحج ومقصد كل نفس تريد أن تتوج أعمالها بفعل لا شائبة تدنو إليه .
بل هو الصفاء أن يجد المرء رغبته لا تمتلك فتنتها إلا في القصد إلى مكة .
وكان أهل سمر قند يكتبون على تمائم مواليدهم اسم مكة بعد البسملة ليضمنوا لهم الحج حين يكبرون .
تعودت على مطالعة الندوة كل يوم لأتعقب منتجاً ابداعياً لرجلٍ تجمعني معه آصرة مودة القصيدة والنُبل . وتعودت أن أفاجأ في صفحتها الثقافية أو أخيرتها بفيض من وجدانيات هذا الشاعر .وتعودت أيضا أن أجمع قصائد هذا الرجل في ملف وأتابع سيره الإبداعي وتنوع اشتغالاته .مدركا أن صحيفة الندوة على يقين من أن عبدالله باشراحيل يمثل وعي مكة وهاجسها ورغبتها أن تظل صاحبة زمام المبادرة في كونها حاضرة لأكثر من مليار من البشر يهمسون بوعي العبادة والإيمان بلا إله إلا الله .واحدة لايتغير مسارها وقطبها صوب أي جهة عدا جهة مكة ( القبلة )..!
هذا الرجل المسكون بجدلية القصيدة وهي ترتدي ثوب التمكن في كل مواضعها .يدرك تماما أن الهبة الإلهية في هكذا منحى تمثل نعمة وفضيلة ولهذا نراه يسخر وعيه وموهبته في اتجاهات تظهرها لنا عناوين قصائده التي تنشرها الندوة بين حين وحين ..!
فهو كما أراه في مشروعي التدويني أنه طاقة وجدانية لم ينتبه إليها بقدر مدروس بعناية ، فحين تضع نصه في ميزان النقد والتحليل أو تُلبسه التفسير الجماعي للعنوان والمعنى تجد الكثير من غايات الشعر تنساب بعناية وعفوية ووعي .وفي نصه أيضا يحرص الشاعر على منح عبارته كماً هائلا من موسيقى جرس اللفظ لتأتينا القصيدة محتفية تماما فيما تريد أن تقوله وتوصله للقارئ والناس عموما..!
باشراحيل يظهره كتابي الجديد بما هو عليه في حقيقة إدراكه لمهنة الروح .عندما نراه بالرغم من مشاغل الحياة يعطي لموهبته العناية الفائقة .ومن يدرسه جيدا سيرى كيف لمكة أن تكون منبعا لكل خصائص الكلام لديه لهذا نراه مؤثرا في عبارته ويلبسها طقسا روحيا وبلاغيا وجماليا يليق بقدسية وطهر مكة .
الكتاب ربما سيكون أول كتاب يجمع هذا المكان الأنيق بفضاء قداسته بروح شاعر على مستوى القراءة الحديثة للنص بجماليته المعولمة .
يشكل الوعي في ذاكرة عبدالله باشراحيل رؤيا متسعة المشاهد ، ولم يكن الرجل متفرغا فقط لإنسانيته الوطنية في ثوبها الشعري بل كان يتسع برؤاه ومداد روحه وقلمه إلى أكثر من فضاء ومساحة ونافذة وإبداع .
ففي الشعر مثلا ترى في باشراحيل عاطفة لاتنته بحدود التلقي والموهبة والهواية ، بل انه يشعرك انه في هذه البوصلة يتجه إلى مديات تُعلمْ الآخرين أن القلب المؤمن لاتتسيده الصلاة فقط بل أناشيد الروح وخدمة الناس.
ورغبته بأن يكون اسماً مميزاً ليس في عالم الأعمال بل في عالم النشر والقصيدة والفكرة الجميلة التي أطرها من خلال جملة النثر الفخمة والقصيدة التي ظلت تفيض بشجن روحها وقدسيتها وشجنها في عالم من براءة الحب والجمال والتناغم ..وقطف الشعر على خط التأمل في كل ذاكرة ، ولكن بمستويات مختلفة ، أنه يفترض انه يوزع رؤاه بشيء من قدرية التحكم بمصير الوجود ، وفيما يخص البشر فالشعر هو الحكمة التي تدلنا على الوضوح. ربما لأن مجمل ما ينتجه باشراحيل آت من وعي مكتسب من عطر مكان الولادة وهيبته ولكنه لم يقف عند زاوية البيت الحرام وينتظر من عكاظ مواسم إلقاء القصيدة وانتهاج المديح بين شعوب القبائل وقوافلها بل جعل من عطر المكان المكي ، عطرا للتواصل والمد الحضاري وإظهار حقيقة أن مكة بقصيدتها هي الواصلة ونقطة القطب الأول لجمع العالم في لحظة السلام والوفاق والحصول على مطالب العدالة الاجتماعية والدينية والاقتصادية. فرؤاه متعددة المشارب والغايات ويربطها هاجس فكري يتوحد في إطار فقهي وثقافي وذي مرجعية لاتتصلب فيها المواقف وإنما الرجل يدرك في عقلانية الكلمة ما يريد قوله تماما ..لهذا تشدني كثيرا حماسته وفرادته واختياراته وتوقيتاته لما يريد أن يسمع محبيه وقراءه ومريديه ..!
وهذه التوقيتات هي ما أتعقبه هنا في رؤيا شاملة لقصائد مختارة وهي في كل معانيها تتحدث عن هواجس روح لمعنى يختلف في أهدافه لكنه يلتقي في غايته ، لهذا فان الشاعر هنا يلتقي تماما مع فكرة شيخ المتصوفة الحلاج في قوله في واحدة من معاني الهيام بالحرف : إن مكة تقرب الله للمعنى .وأن المعنى يقرب الروح للسمو .وأن السمو ينشئ القصيدة.
إذن الشاعر عبدالله باشراحيل يصنع القصيدة بسمو الكلمة .وحتما الكلمة من دون معاني لاتعد مهيأة لصنع عبارة .
لهذا نراه يحقق في غاية كلمته حرفا حرفا ليصنع لنا معنى تتعدد أغراضه بين ( الوطنية ، والفكر الفلسفي ، وجمالية الوصف والغزل ، والدالة الإيمانية لما يعتقد نبتاً تربى عليه وشب ).
كل عناوين القصائد التي نشرت في صحيفة الندوة حملت مختلفات عديدة وهواجس تتنوع في اختياراتها ومضامينها ولكنها حتما تلتقي في نقطة واحدة هي ( الرؤيا ) التنويرية على مستوى الثقافة الإسلامية والفلسفة الحضارية ، وجمالية المنتج الإبداعي وعطر المكان المكي .وهذه المفاصل الأربعة أعطت للشاعر صفة التميز في جعل ما يكتبهُ ويقولهُ ويطرحه حتى على المستوى الكتابة الصحفية والمقالات يمثل مبدءاً ثابتا لاحياد عنه إن أرضى به صديقاً أو أغاظ المتصيدين والحُساد .
وعلى عموم العناوين في أناشيد باشراحيل نرى مستويات من القول والمناجاة تختلف في حماسها وروحها وثورتها .أي أن القراءة النفسية للقصائد تعتمد على مشاعر المضمون ومنها نعرف تماما المقياس الوجداني والروحي لكتابة النص لحظتها.
ففي قصيدة ( لن نبيع ) والمنشورة في صحيفة الندوة في تاريخ السبت 30 ربيع الأول 1432 هجرية .
في القصيدة التي تضج بعطر وطنيتها في بهاء التمكن من إظهار مشاعرها الحقيقية والصادقة اتجاه ما ننتمي إليه ونحس بأننا نشغل فيه مكانا لائقا لوجودنا ، عندما يرينا الشاعر الكثير من مواطن الفخر والتشبه في الانتماء إلى المكان ( الوطن ) .
إنه يفرش أمام قارئه مساحات من التخيل للخطوات التي تسكننا عندما يُراد لنا أن نكون مداداً للأوطان في شعورنا أن خطرا ما يداهمنا .
هذا الثبات الذي لايسيسه هاجس سوى الانتماء للتراب وتواريخه البعيدة .
يدونه الشاعر هنا مثل شاعر يدون معلقة على ستائر قلبه ليري الآخرين كم هو حريص على امن وسلامة ورفاهية وطنه لتتسع صور هذه المعلقة من خلال الإحساس المسكون في شجاعة الموقف الذي لايخلده حسام السيف فقط بل حُسام الكلمة وهو الأمضى في أحيان كثيرة .
الكلمة التي يعبر فيها باشراحيل عن وفاء الانتماء للوطن ورغبته في عدم التخلي عنه لحظة واحدة .
وطن تشعرك القصيدة أنه الحاضر الأبدي والمتوقد بشعلة البقاء والخلود والمجد ، فكيف للشاعر أن يفكر أن يضعه في ميزان المساومة ويبيعه للغرباء والطارئين :
(( من ذا يساوم أو يبيع ..
وطنا كموطننا الرفيع
حتى وإن جار الزمان
وإن تحرقت الضلوع
حتى وإن جفت دمانا ...لن نبيع ))
هذه ( لن ) إيقاع القصيدة ومفردتها المحورية .فهو في كل مداد هذا النص يشعر قارئه بقدسية المكان وهيبة تواريخه وجمالية الانتماء إليه شرفا .
فأي من مقاطع القصيدة ترى فيها ما يريده الشاعر ويحسه لوطن يدفعنا الإصرار لنتشبث بترابه وسمائه وهواه لأنه يعتقد إن وطنا مثل هذا بتواريخه ومواقف رجاله ومحطات عصوره الحضارية لايمكن أن يباع ....!
وعليه فإن القصيدة بالرغم من نمطها الوطني وحماس أدائها إلا أن مقاطعها ظلت تمتلك تلك الشفافية المموسقة بصدى رنين الكلمات العذبة .
الشاعر عبدالله باشراحيل يضعنا هنا في طوق روحي بين عطر الرمل وافياء النخيل وقدسية الأمكنة الأثيرة لدى قلوب كل بشر الأرض في موطن هو قدس الأقداس لعاطفة مسلمي هذه الأرض .لهذا نرى الشاعر يشعل ضوء الكلمة وينير في حدقات القصيدة أقمار وصف لوطن يتحدى من خلاله كل قوى الأرض أن تحيده عن عشقه لهذه الربا ليوغل في جمال وصفها ببراعة العبارة والصورة وهمس الكلمات التي تفترش أحلامها ومحبتها على كل ساكنيه .....!
(( هو بسمة تفتر راضية
على ثغر الجموع
هو ديمة لازال ماطرها
تساقته النجوع ))
جمل من خيال متسع الأفق .ندي الكلمات .مبتهج بفخر الانتماء للمكان وتواريخه .
وطن لاكفة توازي كفة مواقفه وقدسيته حين تأتي الموازنات في معايير الحواضر الأبدية للأوطان فتراه كما يظهره الشاعر في مقدمة قصيدته حين يمتد بشعره في عروق أزمنته ووجدانه في أبهى مفاضلة بين زمن وزمن بالرغم من إيمانه أن المكان الذي ولد فيه وعاش هو مكان لأمة ازدان أثيرها بهجة الذكر ومنها رأت البشرية صفاء أحلام القلوب المؤمنة فكانت كما ذكرت في الكتاب الحكيم ( خير أمة أخرجت للناس ).
(( شتان مابين العلا ..ومواطن ترضى الخضوع
كم تشتكي أمم تضام ..وكل شكواها تضيع ..))
وهكذا نرى في قصيدة ( لن نبيع ) إصرار الروح على أن تبقى وفية لإيمانها وانتمائها إلى البيت الكبير الذي يسع الجميع .
وعلى كل مقاطع النص وإنشاده يدرج الشاعر مفاخر وتواريخ وخصائص هذا الوطن من لحظة بدئه وحتى آنية وجوده وهو يضع لنا ولقرائه تفاصيل تلك التواريخ التي مثلت له امتدادا لمفاخره وأصل وحقيقة ينظر إليها على أنها واحدة من اشراقات التكوين الحضاري على الأرض منذ آدم (عليه السلام )وحتى اليوم .
وطن امتداداته نبض الشاعر وعروقه وأمكنته هي النقطة التي تلتقي عندها المكارم والبطولات والأفكار ..!
(( وطني وميلاد السنا
والبيت والبلد الأمين
من ذا يبدل جلده
من يستطيع
وطن الكرامة والندى
لا ..لن نبيع ))
ها هي القصيدة تختم بذات ( لن ) المعاندة التي ترفض أن تهب ذرة تراب واحدة من تراب الوطن لغرباء أو التخلي عن صناع رؤى حداثته وهيبته وتواريخه .وبذلك نرى هنا جانبا من نمط الرؤيا الوطنية في شعر عبدالله باشراحيل .وهو حتما يمثل جزءا من ذاكرة وخصب التجربة الإبداعية لهذا الشاعر .
في قصيدة ( مدن ورق ) المنشورة في صحيفة الندوة بتاريخ السبت 25 صفر 1432 هجرية نرى رؤيا الشعر تمتد إلى قراءة الكوارث من نافذة وعي الشاعر وثقافته حتى حين يتصاعد فيه نشيج الم ما من كارثة تصيب مكانا أثيرا لديه في بلاده أو أي مكان في العالم . والقصيدة كتبت عن غرق مدينة جدة بأمطار السيول .
لاأدري لماذا وأنا اقرأ هذا النص وأحلله ترتسم أمامي صورتان لرؤيا المطر وتأثيراته في حياة البشر بين هاجسين :أن يكون منبع خير في أسقاء الزرع .والثاني أن يكون طوفانا فيغرق الأخضر واليابس فيكون دمارا .
الصورة في تماثل هذا النص تقع ضمن رؤيا قديمة لمشهد حملته قصيدة بدر شاكر السياب أنشودة المطر ..وفي هذا المقطع بالذات لأنشودة مطر السياب نجد التقابل الروحي وصدى أنشودة المطر في حالة فوضاه بعد أن يتحول إلى طوفان يصنع الحزن والأسى للذين يغرقون في سيله وغزارة هطوله :
((أكادُ أسمعُ النخيلَ يشربُ المطر
وأسمعُ القرى تئنّ، والمهاجرين
يصارعون بالمجاذيفِ وبالقلوع
عواصفَ الخليجِ والرعود، منشدين
مطر.. مطر .. مطر))
نجد الرؤيا تتكرر بهاجس معاصر يسكن نص عبدالله باشراحيل قي قصيدته ( مدن ورق ) .
غير أن السياب يلبس المطر رؤيا الأثر المدمر في البنية الروحية لإنسان بلاده جراء الجوع والقهر وقدرية المكان .فيما تختلف رؤيا باشراحيل في مواصفاتها ويعيد الأمر إلى أناس لايفقهون رغبة الحفاظ على حياة الناس ولا يهمهم سوى سُحت المال ويتركون أبناء مدينتهم يغرقون في طوفان وأمطار وسيول جدة .وهي رؤيا تكررت لمرتين أو ثلاث مرات .فيما رؤيا السياب كانت تتكرر كل عام .
في نص ( مدن ورق ) تبدو القراءة العصرية للظاهرة ( الطوفانية ) تحتفي بحداثة أسى وتركب كلماتها من عمق مدرك الشعر وموهبته غير متأثر بأي مشابه قدري في أي نص آخر لغيره من الشعراء والكتاب وعليه سوف نجزىء النص في أقسام تتعدد فيها هواجس الحس بمصيبة مثل تلك وهي ترسم حالة من الأسى والغضب والتصوير وفي أي حالة من هذه الحالات كان الشاعر واثقاً من التحدث بشجاعة عن المصيبة وأحزانها ومن يتحمل فيها العواقب .
تبدأ القصيدة في مفردة غرق ..غرق ..وهو حتما ما آلت إليه المدينة في تحملها هدير أمطار ليل متواصل .ويرينا الشاعر في مقدمة النص صورة بانورامية تتفاعل فيها الكثير من المشاهد المصبوغة بتأثير ما جرى وكأنه يصور ذات الرؤيا في ملحمة الطوفان البابلية التي صورت رؤى الآلهة لما سيحدث على الأرض من غضب .وفي التقابل الحكائي لهذه الرؤيا تأتي قصة سيدنا نوح (عليه السلام ) حين أمره الله ببناء الفلك لأنه سيجري على الأرض طوفانا يغرقها ..
الشاعر هنا يصور المشهد بمعاصرة الإحساس ويُرينا في دقة وتلوين وعبارة ما كان يراه هو ويتحدث عنه أحباب عليه كانوا قريبين من المصيبة وآثارها ..وهم من أهل بيته :
((غرَقٌ غرقْ
السَّيلُ والطُّوفانُ
بحرٌ بالرَّدى يمتدُّ
وانَتَشَرَ الزَّبدْ
يَطْفُو السَّوادُ مع البَياضِ
فمن عَباءاتِ النِّساءِ ,
وبعضِ أثوابِ الرِّجَالِ
كأنَّهُ سَبْحُ السَّحابِ
وقد طغى الماءُ المُمَوَّجُ كالشَّفقْ..))
هكذا يصور طوفان القرن الحادي والعشرين ويربط بهاجس الشعر تصوير وأرشفة ما حدث ، فتمتد في رحاب القصيدة صورة ما روته بابل عن طوفان دونته الأساطير بسبع أيام ماطرة ، ويدونها هو بسبعة دمعات تهطل بحروف القصيدة من سماء قلبه وهو يسعف حسرته على ما يمكن أن يشاهده من دمار وتخريب لبنية المكان فيدركه بدعاء وبتذكير بمأساة الغرق ، ويتعالى معه ذات نشيج السياب من حزن أمطاره ليؤلف في زحمة حماس المشهد والرؤيا هذا النشيد وكأنه الشاهد البعيد لحزن المدينة وحيرتها مع مصائبها المتكررة ليقترب في وصفه مع ذات الوصف الذي قامت عليه أسطورة بابل في قصة الخليقة وفصل الطوفان وما تركته الألواح من شواهد على غضبة السماء على أهل الأرض .
لكنه هنا يخفف المأساة ويبقيها على مستوى دمعة المدينة الغارقة غير إني أراه وقد مد رؤيا التناظر بين طوفان الأمس وطوفان اليوم :
((وتَهدّمَتْ حتى البيُوتُ تَذوبُ تطمُرُها التِّلاعْ
وتساقطتْ عالي الجُسُورِ
وغارتِ الأنفاقُ صارت كالحُفَرْ
فكأنَّما أشراطُ يومِ الحَشْرِ تبدو تنبثقْ
أو أنَّه يومُ الفِراقِ
يَلفُّ ساقاً فوقَ ساقْ
فإليك يا ربُّ المسَاقْ...))
هذه المناجاة العميقة العالية الصوت والبليغة الصور والجميلة في جعل عبارة المناداة خالصة ومضمخة بالكثير من موسيقى التأثير بما حدث ، جسده الشاعر بحماس غريب وتصوير أشبه بما يكون شهادة لتاريخ وطوفان لايحسن سوى الشعراء ليبقوا ذكراه درسا لأجيال التواريخ وهو الذي اقترب من صورة المأساة بأدق تفاصيلها وراح يناجي روحه ويتنفس مشاعر المبتلين فيه ويكاد أن يصفهم ويتحدث عنهم واحدا ..واحدا ..!
وكأنه في قصيدته يواسي الضحايا ويُصبرَ عنهم بلاء ما كان .انه يتحدث عن قدرية أتت بغير موعدها وكان يمكن تلافيها في ظل أماني الشاعر للحفاظ على كيان الإنسان وبنائه .لهذا نراه يقترب من أجساد الضحايا ويرسم للعالم والرأي العام صورة الحدث بما تمثله مشاعر القصيدة ونبض قلبها .
أنه شاعر فطنة وحدث ووعي تاريخي لما يمكن أن يكون مصيبة وعلى الشعراء أن يبعدوها عن صحائف البشر من خلال التذكير فيها وبمظلوميتها كي لا يتكرر هذا ثانية .
لهذا أوغل في وصف اؤلئك الذين نالهم من الطوفان ماجعلهم يتمنون الفلك كي ينقذ أحلامهم بعدما يئست البلديات والمشاريع الوقتية أن تنقذهم :
((شِيِبٌ وولدَانٌ هُناكَ تَنَاثرتْ أشلاؤُهمْ مثلَ الخِرَقْ
غصَّّ المكانُ بِهَا وضَيَّعَها الزّمانُ
وكم سرتْ أصواتُهُمْ بالوجدِ تصرُخُ والفَرَقْ
غَرَقٌ غَرَقْ
كم يَستغيثُ الموتُ
والأيدي تَشبَّثُ بالهواءِ وبالرَّجاءِ..))
تبدو القصيدة ( مدن ورق ) كمشهد ملحمي مؤثر كتبها الشاعر تحت تأثير ما يراه وأشعل القلوب حزنا .وكما عند السياب وخليقة الطوفان البابلي يجد الشاعر المسبب لكل هذا البلاء .
أناس ضعاف النفوس ويستغلون ثقة الدولة بهم ليتهاونوا في الحفاظ على مصائر البشر وما يملكون ..لتبدوا نهاية صورة لمدن من الورق.
إنها تتمزق مع سيل الطوفان لتبقى دمعة الشاعر في نهاية القصيدة مثل لافتة احتجاج يرفعها في وجوه اولئك الذين لايحسبون لثقة الأمة والدولة بهم ويجنوا مالا على حساب حياة البشر وأحلامهم.
القصيدة صوت شجاع وبلاغة من سرد لغوي متين اكتملت عباراته في جمالية وصف حساس ورائع .وكأنه أحسن فيها بريشة فنان ليرسم الطوفان الذي اغرق مدينة جده بكل تفاصيله ليرينا في غضبه الأخير صورة ما كان ويكون مع أطماع البشر وقلة إحساسهم بحياة الناس وأمانهم :
((من يا تُرى يدري ، بما قد أفسدتْ أيدي الخَرابْ ؟
وتَضيعُ أصداءُ الجَوابْ إلاَّ الأقاويلَ الكِذَابْ
من كلِّ من رَاضَ الضَّميرَ على المَلَقْ
ولِكلِّ من قد أرخصُوا ، فينا وباعُوا واشْتَرَوا ,
ثم اغتنَوا حتى الشَّبَقْ
لكأنَّهمْ لم يبتنُوا إلاَّ مَدائنَ من ورق
تبّاً لهمْ..))
وهكذا يجتمع في النص طيف رؤيا أنشودة المطر ولكن ليس بمحاكاتها .فما عانته جدة يختلف تماما عن ما كان يعانيه ( عراق السياب ) لأن مدينة جدة تغرق في موسم .وعراق السياب غارق في كل المواسم .لهذا حمل النص خصوصية حملت هم الشاعر ورؤاه الخاصة في تناول حدث ما ......!
في قصيدة ( الكون على جسد القروح ) والتي نشرها الشاعر عبدالله باشراحيل في صحيفة الندوة في العدد 944 بتاريخ 17مارس 2011. يؤشر الشاعر إلى هواجسه الفكرية والفلسفية ويضعنا أمام الكثير من الرؤى والتساؤلات .بل ويحدد هنا في مفهوم الشعر بذات الرؤيا التي كان أرسطو يحاور فيها تلامذته ويهمس لهم :إن قدرة الشعر في إيجاد صيغة معادلة لفهم كوني متعادل هي أكثر يسرا مما تستطيع أن تفعله الفلسفة.
عبدالله باشراحيل يضع القصيدة ( الكون على جسد القروح ) في ذات المعيار ليرينا فهما جماليا لإحساسه الكوني وتفسيره لظاهرة وجودنا عبر أكثر من نافذة ليخلدوا زهوها بإيمانها السماوي وبعض عذوبة التذوق الصوفي لتلك الرؤية .بل يوقعنا في جدلية القراءة المتناقضة للموجودات ويصل في الآخر إلى تحليل واقعي وفلسفي لمحصلة هذا الوجود وتأثيره على البشر وكل هذا عن طريق الشعر كما كان أرسطو يريد ذلك.
((ولكلِّ عصرٍ أمَّةٌ
ولكلِّ مخلوقٍ وطن
فوق السحائب ما يخيف
ترى هيوليًّا قديمْ
وترى مجرات عظامْ
ترى السعود ترى النحوس
ترى الجهامة والعبوسْ
مَدٌّ رحيبٌ من قتامْ
كالظلِّ في عمق الظلامْ..))
نظرة كونية تؤطرها دقة المشاهدة ووعي تفاصيل المرأى الذي يقرأه الشاعر ويعيشه .لكنه هنا وفي هذه القصيدة يحاول أن يضع مدايات القصيدة في قراءة لحال العالم بكل متغيراته وقديمه ومستجداته وحتما هو من كل هذا يريد أن يصل إلى دالة ما .ففي القصيدة إحساس بكل تفاصيل الوجود المحيط بنا .بكل فضاءاته وأجرامه البعيدة والتواريخ المعاشة في رخائها ويبابها .
قدرية كما رؤية العراف لحال العالم والتنبؤ بكل مجرياته .هي قصيدة لسعة الحديث ومعرفة الصالح الذي ينبغي أن نركن إليه لنعيش حياتنا بما يضمن صفاء العيش والأيمان وما هذا الطالع في مقدمة النص إلا قراءة وعي لعالم كان من أول سديم له .عالم يرتهن في سعادته ونحسه إلى أفعال أولئك الذين خلفهم أبونا آدم (عليه السلام ) على الأرض ليرثوه .
إنه يحمل مهمة الشاعر العراف .والذي عليه أن يرى ويتلوه وهي ذات المهمة التي كان الشاعر الفرنسي سان جون بيرس يهمس فيها بنصائح الشعر بعد استلامه جائزة نوبل للآداب عندما قال : مهمة الشعر أن يرى قبل أن ترى الأشياء الأخرى .ومهمة الشاعر أن يصنع نبؤته من عمق إيمانه بالأشياء العظيمة والبعيدة والتي تبهرنا بأضوائها .
باشراحيل يرى الأمر في هذه الزاوية تماما وتعدد القراءات في هذه القصيدة يذهب بنا إلى هذا المنحى تماما وتقودنا رؤيته إلى قراءة الهاجس البشري وتبدل مصائره ويحاول هنا أن يأخذ بنصيحة القصيدة لتكون منارا للبشرية كي ترينا الطالع الحسن في سبيل صناعة التاريخ المجيد للبشر الرائعين والمتفانين لصنع الأحداث العظيمة في عمق قرائي حكيم ونفسي ورؤيا هي بصيرة لكل المتغيرات في الكون .
انه هنا يوسع ذائقة التحليل من خلال الشعر ليصل مع تساؤلاته إلى أكثر من حلم وأمل ورجاء:
((شيء يقول ولا يقولْ
سرٌّ إلى الغيب ارتهنْ
وهناك ينحدر الزوالْ، هناك ينتصب المحالْ
يا سرَّ آياتِ الجلالْ....
خضعتْ تلالْ ، كبرت رجالْ
صغرتْ نمالْ، عصفت رمالْ
الكونِ يغْشَاهُ انبهارْ ، ما بعده إلا الزَّوال...))
إنه يضع الحقيقة البشرية أمامنا كأمر لا مفر منه وهو مقدر بأزل الهي ذكر في الكتب المقدسة . يتحدث لنا عن غيبيات ارتهنت بفكر الإنسان وحيرته وتفسيراته ، يضعنا باشراحيل عند الدلالة والعبرة والدرس الكبير ويصف البدء منذ خليقة الأشياء وحتى النهايات الموعودة .وفي هذه المساحة الكونية تراه يتراص مع جمله ليحمل الموعظة والإشارة والتأريخ ليذكر البشر بقدرية الوجود والنهاية الحتمية والتي تحتاج منا إلى بطولة وصلاة وأعمال خيرة وكبيرة وإلا كما يقول باشراحيل :
((الكونِ يغْشَاهُ انبهارْ ، ما بعده إلا الزَّوال...))
شاعر يعي ويفهم ما يقول حتى مع صعوبة جمع المعنى بنظم القصيدة وموسيقاها . هو يذكرنا بتبدل الأقدار والمصائر وأنها لاتدوم لأحد .فما كان لقارون وفرعون وقيصر .
يتحدث عن رؤية الصلاح والإصلاح في جعل النفس البشرية قادرة على وعي حياتها من خلال عبر ودروس التاريخ والمتغيرات التي صنعتها الأحداث والفلسفات والديانات في كشف ما للروح من وعي لمكاشفات الحياة وصيرورتها .
يكتب الشاعر عن كون يحيط بنا بسديم لاينتهي ، وعلينا أن نعيش ضمن المقدر بوعي أرواحنا وعقولنا ويرينا من خلال القصيدة وفكرها الناضج الكثير من المشاهد التي تكون لسان حال أمم عاشت وذهبت وعلينا أن نقلد محاسنها ونترك سيئاتها .
هو يرينا فهمه الفلسفي لحركة الكون وبالتالي يستطيع من خلال الجملة الشعرية أن يقربها إلى القارئ بعد أن نضجت في عقبه من خلال فلسفته ورؤاه الشعرية :
((أدعوك إحساس الشقاءِ
لوقفةٍ
لا تنتقمْ
فالبحر طاغٍ
والأعاصيرُ تَولَّت بالنِّعَمْ
جاء الصباح
فأينها تلك النسمْ ؟
لم يبق شيء للزوابع ينحطمْ
إلا دبيبٌ أو هديرٌ أو حممْ
المقبل الطوفان يستحيي العدمْ..))
رؤيا تتسع وفهم واع لما يحدث اليوم في عالم تسوده الصراعات وغضب الطبيعة وتناحر عولمي في سباقات الحضارات لإثبات وجودها.
وعليه يجد الشاعر نفسه أمام مهمته النبيلة كما يذكرها عبدالوهاب البياتي : الشاعر نذر نفسه ليفكَ الطلاسم .
عبدالله باشراحيل يفك الطلسم في رؤاه الكونية لهذا نراه يحدثنا بعقل الفضيلة بقيمة ما يمكن أن نكون عليه في ذاكرة روحانية ممتلئة بالوعي والقدرية ومحصنة بقراءات وتجارب كثيرة وضعها الشاعر عصارة لنصه هذا في أفق رحب من العبارة الشعرية الجميلة والتي تحمل الكثير من شحنة الموسيقى وبلاغة العبارة التي تفيض شعرية وفكرا وجزالة وهي ترسم صورها على شكل نبوءة ومصائر وأحداث ونتائج ما كان ويكون .
عبدالله باشراحيل يرينا في نصه ( قروح على جسد الكون ) وعيا فكرياً متجانساً ويصور لنا الحدث العام في خصوصية قصيدة كتبت بتأن ووضوح برغم من صبغتها الفلسفية والجدلية وربما هي تحمل بعض الصفات التي يؤسس عليها الأدب المقارن مناهجه .
فهي بالرغم من حداثة مادتها إلا أنها تعيش العالم كمن يعيش في لجة الشيء ومحنته وعليه أن يحمل ما كان يفسر فيه أرسطو قيمة الشعر ليكون شعرا....!
وفي النهاية فهذه القصيدة بمدلولاتها كلها توصلنا إلى فهم عام بقيمة الإنسان وأثره وتأثره بموجودات العالم .وهي تضع الفواصل القدرية للبشر والتاريخ في آنية واحدة وعلينا أن نشربها من نبع قصيدة الشاعر وهي تفيض بزلالها على عطش أرواحنا :
((سحقتْ أُمَمْ
هضمت رمم
منذ ابتداءاتِ الزمانِ
هي التي لَم تنفطمْ
إلا إذا حانَ القضاءُ
وجاءها يوم العدمْ
فكأننا لم نبتدِ
وكأننا لم نختتمْ
أو أننا حلم جميل
أو كتاب من قِدَمْ
أو أننا سرٌّ من الأسرار
في هذا الهيوليُّ الخِضَمْ..))
اشتغل عبدالله باشراحيل في منجزه الشعري بتفاصيل وأغراض ومذاهب كثيرة فتراه يقود منجزه لما تمليه عليه اللحظة الحياتية وربما يأخذ البعد العاطفي الكثير من رؤاه .فعلى حد قول الشاعر السوري نزار قباني :الشعر أولا وأخيرا هو العاطفة الجياشة .
ويمكن أن نضع أنموذجا لهذه العاطفة في شعر باشراحيل قصيدته الموسومة ( تسقط كالغيم على مدني ) والمنشورة في صحيفة الندوة /السبت 18 صفر 1432 هجرية .
وهذه القصيدة برقتها ووضوح الإيقاع في رقة معانيها تمثل صورة لرؤية الرومانسية الشعرية في شغاف الشاعر وقلبه وربما هي من بعض محطات استراحة الشعر لديه .لتورق في حدائقه صور مشعة بعطر الكلمات والتي تجسد في انتظام سيمفوني وعناوين لها تاريخ ومغزى وسبب .
فهو حتى في عاطفته يدرك الكون الروحي لجوانحه وجوانح من هم معه وقربه ، لهذا فعاطفة الشاعر هنا هي عاطفة تتعدد فيها أغراض الشوق وترسمها ملامح المدرسة الشعرية الواقعية التي ترى في الجمال الصورة الرائعة لتخليد وجودنا الكوني .
وربما هذه القصيدة مثلت تلك الرؤيا بوضوح على تناغم وإيقاع وتصوير مرهف لكل مفردات العالم المحيط وعبر رؤيا الحب الذي يسكن عاطفتنا والذي بقي ومنذ الأبد الموقد الحقيقي للحظة الشعرية .
ففي مقطع القصيدة الأول يرينا دهشة الحنان والوصف المأخوذ بجمال ما نتمناه ونوده . فهو هنا صانع غزل لحظته بصوت عذب .
يناديه ببهجة ما فيه من جمال ويشاركه صناعة اللحظة الحياتية الفاتنة التي تغرس فينا الجمال والأمل والحب. انه هنا يناشد الآخر العذب بأجمل أناشيد الوفاء والعاطفة والغزل ويشيد له أبراجا رائعة من وفاء الكلمات وحسها الرائع :
((في حُسْنِكَ في سحر المُقَلِ
أتنقَّلُ بين البحر الأسود في عَيْنَيكْ
أتعلَّمْ أن أسبحَ فيكَ
ولا أَغرقْ
حتى أصبحتُ الأولى
في فنِ الغزلِ
لكنك تُرهبني تُعجبني
تَجذبني
وأُحاول من زمنٍ أُغريكْ
أُحاول أن أدخل أعماقَكَ
أن يَسبح غيمُك في مُدُني
كي تدخل في زمني..))
فهاو في هذه القصيدة يضع صوتين لعاطفته .صوت الأنا ( أنا الشاعر)..وصوتها ( الأنثى) الذي يعتبره مداماً للقصيدة .( هي) التي ترتدي أثواب كل الصفات ( العشق ، الطهر ، العطر ، الوطن ، المخيلة ، والقصيدة ) يتحدث باسمها عن مفتون يملأ فؤاد القصيدة باشتياق وغزل غريب .
ويتحول إنشادا وغراما لهيام روحها في عطر بدنه لتسجل على هذا الجسد التواريخ والمواقف والقيم العظيمة .
عبدالله باشراحيل في هذه القصيدة يحول الآخر الرقيق إلى شاهد لفتنة تسكنه فيعبر من خلال صوتها إلى ألف بهجة وأمنية وحديقة .ليرينا كيف يكون الشاعر لسان حال معشوقته وهي ترتدي معاطف حياته في كل محطاتها وهمومها وأشواقها :
((أنا بنتُ أناشيد الغربةِ والريحْ
أنا بنتُ الأيامِ الأسرى في قيد الوقتْ
والفارسُ في غزواتي أنتَ ،
فأين الخيلُ وأين الرمحْ ؟
أشعرُ بالدفءِ إذا لملمتُ يدي ما بين يديكَ،
أحسُّ بأن الثلج يذوب على بَدَني
أنا أجملُ فاتنةٍ في وطن الليلْ
وكلٌّ يتمنى أن يصنع عمراً يبهجُني
لكني أتحسَّسُ
فيك الحبَّ وأغلى النبضِ .))
هذا الحس الوجداني يديمه الشاعر بمواقيت حلم يطول .ونراه في المقطع الثاني من القصيدة يتصاعد معه أداء ذلك الوجدان وتشتعل العاطفة بنيران اشد عطرا من سابقتها ويوغل في خلق الشجن الذي يليق بموضوع وكبرياء عاطفة القصيدة إذا يبقى الغيم يسقط أمطاره العطر على مدائن روح الشعر والشاعر .
بل ويتصاعد هذا الأداء بهرمونية رائعة من شغف الكلمات بل ويرينا لهفة واضحة لمعايشة ذلك الكائن الشفيف ليريق عليه عسل الكلمات في عذوبة غنائية بصدى غزلي روحي عذب تقرع فيه موسيقى الكلمات عزفا مميزا يثير رغبة القارئ لسحر الشعر في صدى هكذا إنشاد مميز وبعاطفة مليئة برومانسية الحس والتناغم الصوفي لبهجة أن يتمنى الشاعر لمحبوبته أن يكون الحياة كلها بأعلى وأحلى مظاهرها .لهذا كان الشاعر في المقطع الثاني من غيوم مدنه يطرز الكلمات بأناشيد روحية نرى فيها غرقا واضحا في متاهة الشوق والوصف والانفعال الشفيف ليصل معنا إلى ذروة المعنى في سبك عبارة الشعر لتعبر عن جمالية العشق ومتاهة الغرام بصورته المؤمنة والعفيفة والجميلة :
(( أهواكَ وتهواني
أُدنيكَ لبستاني
وفواكِه رمَّاني
وشفاهٌ تندى
تسألني
عن ذَوْبِ الشهدِ لِتَلْعَقَنِي
تتحدَّث عيني في عينيكْ
وأُريقُ الدَّلَّ لديكَ
بكلِّ عيون الشوقِ
وكلِّ وقارِ الصمتِ عليكْ..))
هاهو الشاعر يكتب أسطورة عشقه يلونها ببهجة ألوان اثنين ( ذاتهُ ) والذات الأخرى .يحاور من خلال الآخر بهجة العشق ويفتح لسماء روحه تساؤلات وجود الحلم عندما يريد أن يجعل من عاطفته تصويرا لفضيلة العاشق والمعشوق .
يدرج صوفيته في متاهة رقة من يتغزل بمساحات الضوء في جسده وعينيه .
يرينا عفوية النقاء وأخلاق المودة وصناعة الشجن السحري في عاطفة اثنين ضمن ما يعتقده عقلا عارفاً وقلبا نابضا بالحب والعطر وأحلام القصيدة .
هو هنا في المقطع الثالث يرينا الحوار الروحي بين صوتين وكل صوت يحمل عاطفته بمغايرة خاصة ولكنهما يلتقيان عند نقطة ضوء واحدة يجتمعان في زاوية نظر تحدد العاطفة في محاولة كل واحد لشرح محاسنه وإمكانياته ورغبته ليمتلك من يود .
إنها ثنائية الذكر والأنثى .الحب والقسوة .القبح والجمال .وعلى عاطفة الشاعر أن تنتصر لهذا الجمال وتخلده بإرادة نبض القلب وأمطار غيوم القصيدة على مدن العشق والحلم .وهذا بعض من رسالة الشاعر في حياته الخاصة والعامة .!
ثنائية يتداول فيها كل واحد بحجته ويظهر رؤاه الحسية في جمالية صورته ورعشة روحه وهي تريد أن تصل إلى بهاء ما تود امتلاكه بين أنثى تسكنها ونمر يسكنه .وكأنه هنا يدرج إحساس الرجولة وغضب عاطفتها عندما تود اللقيا ومداهمة من نود بعطر ما فينا .وردة أو قصيدة أو سيف.
عبدالله باشراحيل أدرك في نصه هذا الحلم بعاطفة جريئة وصفاء ووضوح وموسيقى لنراه يشدو بكلماته في عفوية سماء من غرام الكلمات وأشواقها :
((قد جئتُ أسائلُهُ عني ؟
لم يُخلِفْني ظنِّي
يعرفُ عن فتنةِ حسني وبراءةِ قلبي ورجاحة عقلي
يبحث عن أنثى تسكُنُهُ
أبحث عن نَمِرٍ يسكنني
لا يلمسُني ويعذِّبني
أبحث عن وجهي في المرآةِ
وعن جسمي الناحِلِ كالغُصنِ
أنا كلُّ رجال الأرض تمنُّوا اللمحةَ من نظري..))
المقطع الرابع والأخير من قصيدة ( تسقط كالغيم على مدني ) يرينا الشاعر أداءً متصاعدا من انفعالات شفيفة لروح الشعر .بل يصل بها إلى أقصى مشاعر الإحساس والوصف والتدفق الجميل لسيل الكلمات وعفويتها بل إن مطلع هذا المقطع يذكرني بالدهشة الرومانسية التي سكنت الشعر الانكليزي في مرحلته الكلاسيكية والرومانسية والتي قال عنها الشاعر كوليرج :إننا في هذه المرحلة نصنع زمنا من العشق لنعيش بصفاء مع السماء وأرواحنا.
باشراحيل في إطلالة المقطع الأخير من القصيدة يرينا ذات المشاعر التي أرخت لعصر جديد من الشعر .وهو يتحدث بعاطفة أليفة وحميمة لمن يود أن يكون معه
(( في ليلة أعياد السوسنْ
ناشدتُ حبيبي أن يأتي
كي نحيي الليلة في بيتي
فلعلَّ خفوتَ الضوءِ
وأنفاساً من عطر الحبِّ
وعُرْيِ السحر يشوِّقُهُ
ويتوق إلى لثمِ الوَردِ
أشتاق إليه يُعابثني..))
صورة من المناداة لشوق متخيل وبرئ ولكنه بأجمل أثواب الكلمات .عاطفة من طهر حسي يقول عنه المتصوفة على لسان ابن العربي :انه العشق المليء بسحابة عطر سماوي .
هو ( الشاعر باشراحيل ) يسجل إيقونته الشعرية بهاجس برئ ولكنه شهي ومغرم.
وفيه الكثير من تعبير التوهج الصوفي وتعاظم الإحساس وكأنه يرسم مع من يود آفاقا لجنائن لحظة هاجسها خالد وجمالها مطلق وهو ما ظل يظنه المتصوفة في ابتهاج الغرام في قراءة الصاحب لصاحبه ، انه سلوى في تفاعل التخيل حتى ليسمو الاثنان في سماء الكلام وتصير القصيدة مناجاة الروح لما توده وتهواه.
هذا الخيال الطافح يظهره تألق العبارة وجمال الإنشاد وقراءة القصد الفكري والروحي في محاولته لجمع الشمل والمناوبة في الهوى حتى إنني في قراءتي المتتالية لهذه القصيدة أقف عند قول للنفري المتصوف : صناعة الاشتياق معضلة واندهاش وفكر صعب.........!
((إني أهواكِ كعشقِ الليلِ لنورِ البدرْ
أنا أفقرُ إنسانٍ في الحقدِ
وأَجْهَلُ إنسانٍ في الغدرْ
ورصيدي من آثامي صفرْ
والأغنى بالأحبابِ وجمع الصحبِ ،
وأملك في نفسي قلباً طفلْ
عذري أنْ أبكي من ألمي وحدي
لا تبكيني
ما ذنبُك أنتِ ؟..))
هذا الذنب المؤطر بقراءة فلسفية لإشكالية الغرام في رؤية الشاعر الشاملة لأحبابه ومحبيه وحتى موجودات كونه المتسع بأذرع الحروف في سماء موهبته يرينا فيه الشاعر عبدالله باشراحيل قدرة مهيمنة على الرؤى واشتغالاتها وأثيرها المدثر بعبير الوجدان وطوفان المناجاة في رغبة اللقاء والتصالح والمكاشفة فنراه يكتب لنا نصا مؤثرا يحمل شغاف الحزن والفرح والرغبة بصنع الرؤيا في جسد واحد لروحين .
انه يكتب عن هيام متميز في ذائقة القصيدة ويرينا انفعالا حسيا جميلا في إظهار المعاني الراقية للتقرب من ظل يحسه مكملا له وأثيرا لديه .
وفي النهاية يضع الشاعر تجربته والوسن في دمعة واحدة .ويرينا تجارب الدهر في حياة ممتلئة بالكثير من المحطات لكن شجنها يبقى ساميا وعشقها يظل نبيلا وحقيقيا :
((أحتاج هواكِ كوجه الصبح لنور الشمسْ
ويحنُّ إليك عفيفُ الهمسْ
ناموسُ الكونِ بأن تولد نفسٌ من نفسْ
تستفحل أُنثى الإنس وأُنثى النخل وأنثى النملْ
مولودٌ يا دنيا مقطوعُ النسلْ
إن كنتِ أَضَعْتِ حبيباً
فأنا ضيَّعني الدهرْ...))
هذه النصوص الأربعة هي عينة متعددة الرؤى والأغراض لما نشر من قصائد للشاعر عبدالله باشراحيل في صحيفة الندوة المكية .وهي تمثل جانبا مشرقا من تجربة الشاعر في مسيرته الإبداعية.لتمثل جانبا من إبداع الشاعر عبر مسيرة طويلة من المنتج الشعري والفكري والاجتماعي وربما في هذه القراءة لأجناس شعرية واشتغالات مختلفة نكون قد أضأنا فهما مقربا لما يحمله شعر باشراحيل من رؤى وأفكار وجمالية في البلاغة اللغوية والشعرية والروحية أيضاَ.......!
دوسلدورف في 24 آذار 2011


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.