في الطريق من مطار رفيق الحريري إلى منطقة الحازمية كان صوت المبدع الرائع جوزيف صقر يرتفع من الراديو ليرسم لوحة ساخرة للوضع اللبناني المحزن والبائس.. قوم فوت نام، وصير احلم أنو بلدنا صارت بلد قوم فوت نام هالأيام حارة بيسكرها ولد هاي بلد، لأ مش بلد. هاي قرطة عالم، مجموعين مجموعين، لأ. مطروحين، لأ. مضروبين، لأ. مقسومين، قوم فوت نام وصير احلم. لبنان أصبح مسرحاً عبثياً للقتل المجاني.. يتجه إلى المجهول ويهدم كل محاولات الترميم النشرة الإخبارية اللبنانية اليومية في كل تليفزيونات لبنان هي تذكير بأن هذا البلد يتجه الى المجهول، ويهدم كل محاولات الترميم الاقتصادي والاجتماعي التي يحاول الوصول إلى شيء منها، إنه وطن يتراجع في كل مناحي حياته، ويتحول الى فضاء عنيف وفوضوي، وبلد غير مستقل وغير سيد كما يحلم جيله الجديد. المجتمع بسياسييه وأفراده وأطيافه ومؤسساته المدنية التي تزعم امتلاكها لمفهوم الديموقراطية، يحفر حفرة في الجحيم وقريباً على ما يبدو لن يبقى أحد ليشاهد هذه النشرة، فهل معنى هذا أن لبنان سيودع زمن الأرز الشامخ؟ وهل قضى اللبنانيون على روح موج شواطئه الذي يزين مرافئه، ويحتضن جبله في عناق مستمر لتتآخى كل الفصول الأربعة في مكان واحد وجغرافيا واحدة؟ وهل أصبحت كل مدينة في لبنان تقف وحدها؟ وكل شارع يمثل نفسه فقط؟ وهل نحن الآن نرثي بيروت وزحلة عروس البقاع، وصيدا عاصمة الجنوب، وجبيل مدينة الأبجدية الأولى، ونسفح الدمع على قمم صنين، ونتذكر مجرد تذكر مواويل الميجنا والعتابا وأبو الزلف في مهرجانات بعلبك مدينة الشمس؟ أسئلة جميعها وأكثر طرأت ببالي في آخر زيارة لي للبنان منذ بضعة أيام. 33 جريحاً في مواجهات بين علويين وسنة شمال لبنان تجربة خاصة بعد العيش في لبنان لمدة 17 سنة والغياب عنها أكثر من خمس سنوات، وصلت إلى مطار رفيق الحريري الدولي متوجسة خائفة مرتبكة لا أعرف ما ينتظرني خارج جدران المطار. سريعاً وضعت جوازي داخل محفظتي لكي لا يشي بهويتي التي أعتز وأفخر بها في كل مكان في هذا العالم، وأتعمد إبراز الجواز في كل موانئ الدول لأنه مصدر أمان لي وتسهيلات أحصل عليها عبره، إلا في تلك اللحظة التي عبرت فيها حرم المطار إلى خارجه. خوف لم ينتبني تحت القصف الإسرائيلي في حرب صيف 2006 التي أحرز فيها حزب الله انتصاراً واهماً بعد أن حمل لبنان خسائر في بناه التحتية قدرت بخمسة عشر مليار دولار، وهجّر أكثر من ألف وخمس مئة مواطن جنوبي، وفقد مليونا وخمس مئة ألف سائح كان من المفترض أن ينعشوا اقتصاده ذلك الصيف، وفُرض عليه حصار جوي وبحري لمدة ستة أشهر، حتى أن حسن نصر الله قال في مقابلة تليفزيونية مع قناة الجديد بثت يوم الأحد27/7/2006 «لو كنت أعلم أن عملية خطف الجنديين الإسرائيليين ستؤدي إلى جولة العنف التي استمرت 34 يوماً لما قمنا بها قطعاً»، ولم ينتبني هذا الخوف تحت القصف الإسرائيلي لمحطات الكهرباء في عام 2000. وكنا ساعتها في برمانا نستمتع ببرودة الجو، ونشاهد من تحتنا محطة بصاليم تحترق بعد القصف، في ذلك الحين كنت على إدراك تام أن العدو الاسرائلي يضرب مناطق معينة ولديه أهداف محددة. حتى مع أحداث جامعة بيروت العربية التي أدت الى دخول الجيش الى أكثرية الجامعات في بيروت ومنها الجامعة الأميركية حيث كنا في الصف وداهمنا الجيش بسلاحه مطالباً خروج جميع الطلاب والذهاب الى المنازل لتفادي تفاقم الاشتباكات. مرت علينا اغتيالات كثيرة وبعضها كانت على بعد أمتار قليلة من مكان تواجدنا لكنني لم أشعر بالخوف كما شعرت به وأنا أسلك طريق المطار إلى هذه المدينة الملتبسة والمتوجسة والتي لا تستطيع أن تقرأ اتجاهات مستقبلها، أو تبرر توحش لغة سياسييها. كانت تلك الفترة مشحونة بعدم الاستقرار مع تقلبات سياسية كبيرة في البلد لكن ثورة الأرز كانت تستلهم الأمل بعد أن صدم كل الناس بفاجعة الاغتيال المخيف للرئيس الشهيد رفيق الحريري. وحركت فيهم روح التمرد ومواجهة الاضطهاد ومصادرة الدولة كما كان رفيق الحريري يأمل بثقة أن اللبنانيين جميعاً سيلبون نداء الاعتدال والانفتاح كلما دعاهم الوطن الى ذلك. حيث قال في إحدى كلماته «هنيئاً لبيروت بالجيل الجديد مزوداً بالعلم محصناً بالأخلاق فلا للتناحر ولا لرواسب الحرب ومخلفاتها، نعم للوفاء، نعم للعيش المشترك. عاشت بيروت وعاش لبنان». كان العام 1993 أول سنة لنا في لبنان كاستقرار سكني وحياتي ودراسي، رأيت آثار الحرب الأهلية التي خلفت الويلات والأحزان والأوجاع، وما يقارب ال 150,000 قتيل و200,000 جريح ومعاق والكثير الكثير من المفقودين، رأيت شواهدها تصرخ من على جدران البنايات في بيروت، وفنادقها الباذخة تحولت إلى خرائب موحشة بعد حرب منطقة الفنادق، ومنطقة السوديكو والشياح وعين الرمانة وهي خطوط تماس بين ما كان يسمى بيروتالغربيةوبيروتالشرقية، والطرقات المهدومة، كلها كانت مسرحا عبثياً للقتل المجاني على أيدي المليشيات التي تقاتل نيابة عن الآخرين على أرض لبنان كما شخّص ذلك الصحافي الكبير المرحوم غسان تويني، ولكن مع ذلك كانت لبنان كطائر الفينيق تخرج من تحت الرماد جميلة كحلم ينبع منها روح الصمود والثقافة والتاريخ والتنوير. وقتها ومع نهاية الحرب الأهلية واتفاق الطائف الذي رعته المملكة اعتقدنا أن هذه هي بداية هذا البلد وعودته إلى أدواره التاريخية كما كان مستشفى العالم العربي، ومصرفه، ومطبعته، وجامعته، وصناعة تنويره وثقافته ومعرفته، وملجأ كل المتعبين والمرهقين من ظلم واستبداد أنظمة العسكر وانقلاباتهم الدموية، لكن للأسف مع اغتيال دولة الرئيس رفيق الحريري فلبنان كل يوم يصارع كي يعيش، وعرفنا أن كل اتفاق تسوية في لبنان ماهو إلا هدنة هشة بين حرب وحرب. كانت الفترة الأولى للرئيس الحريري في رئاسة الحكومة من 1992 وحتى 1998، بعد أن أسقط الشارع حكومة عمر كرامي في احتجاجات صاخبة وعنيفة، وقوبل تكليفه آنذاك بحماس كبير من غالبية اللبنانيين. وخلال أيام ارتفعت قيمة العملة اللبنانية بنسبة 15%. ولتحسين الاقتصاد قام بتخفيض الضرائب على الدخل إلى 10% فقط. وقام باقتراض مليارات الدولارات لإعادة تأهيل البنية التحتية والمرافق العامة، وتركزت خطته على إعاده بناء بيروت. وخلال هذه الفترة ارتفعت نسبة النمو في لبنان إلى 8% بعام 1994، وانخفض التضخم من 131% إلى 29%، واستقرت أسعار صرف الليرة اللبنانية. بيروت التعيسة بواقعها الشوارع التي كانت يوماً تضج بحركة السياح، وتعمر بالمقاهي التي يتوافد اليها المثقفون والصحافيون والسياسيون وتطغى الأحاديث الفكرية في أجوائها مستشرفة المستقبل، هي الآن حزينة وكئيبة تشي بدمعات الأمهات الحرى على فقدان أولادهن الشباب «كشهداء الوطن». ففي كل شارع تمر به ترى صورة شاب في أول عمره خسر حياته في اشتباكات لم تعد طائفية أو فئوية أو ذات قضية دفاعاً عن الوطن. بل بعضها طيش شباب غسلت أدمغتهم بالأيديولوجيا المذهبية أو السياسية كما حدث في 7 أيار واجتياح بيروت من أصحاب القمصان السوداء، وبعضها مفتعل من قوة داخلية وخارجية لتخفيف الضغوط السياسية على نظام يتداعى أو نظام يواجه المجتمع الدولي من أجل برنامجه النووي. محل زهور متواضع جداً في منطقة الطيونه تديره امراة لبنانية في الخمسينيات من عمرها تستقبل يومها بالفرح تبيع الزهور لأن ثقافتها أيام العز تشكلت على مشاهد العشاق والمغرمين يهدون الورد إلى حبيباتهم ويستقبلون الحياة على شواطئ الروشة والمنارة بشيء من الحلم والأمل، اضطرت هذه السيدة الى تغيير مصابيح الإضاءة الخارجية للمحل والتي لا تساوي أكثر من دولار أمريكي واحد (ما يعادل ال 3.75 ريال سعودي) لإضاءة واجهة المحل ليلاً أثناء اغلاقه. لتأتي هذه المرأة في صباح اليوم التالي تبحث عن لقمة عيشها فتجد المصابيح مسروقة. وحتى الحجر الذي تركه خارج المحل لتسند به أحواض الزهور قد سرق. فهل هذه الممارسات والسلوكيات العبثية بدافع الفقر أم بدافع الفوضى والفلتان. بلد الفلتان أصبحت الرؤية في لبنان واضحة جدا بأن شبح الحرب يخيم على سمائه. فلبنان بسهله وجبله، شماله وجنوبه وبقاعه يعاني من فلتان أمني وفوضى عارمة حيث لا دولة ولا مؤسسات حكومية، بل حكومات الطوائف والعشائر والمذاهب والزعران، فكل طرف يتحدث مع نفسه فقط. طرابلس - عاصمة الشمال - مشتعلة ومناظر حرب أليمة تظهر على مبانيها وعلى حياة سكانها. فقد اندلعت معارك عنيفة بين مسلحين من الطائفة السنية وآخرين علويين على خلفية النزاع في سوريا. وتسببت المعارك التي دارت بالأسلحة الأوتوماتيكية وقاذفات الصواريخ في اندلاع حرائق كبيرة في الحيين الواقعين شرقي المدينة الساحلية. سقط اكثر من 13 قتيلا وأصيب أكثر من مئة جريح في المعارك التي اندلعت بين المجموعات العلوية من جبل محسن مناصرة لنظام الرئيس السوري بشار الأسد، وأخرى مناهضة له في حي باب التبانة السني القريب من حي القبة. إلى ذلك؛ شاهدنا طريق المطار وهو وجه البلد والمرفأ الرئيس فيه يغلق بالإطارات المشتعلة وتعمه الفوضى من شباب منفلت خرج من بعض المربعات الأمنية التي يحرّم على الأجهزة الأمنية دخولها، ويتصرفون تصرفاً ينهك اقتصاد البلد ويروع المسافرين والسياح من دون اي رادع لتقوم طائرة فرنسية بتغيير مسارها وتهبط في مطار دمشق بدلاً من مطار رفيق الحريري الدولي بسبب مخاوف عدم تمكن الركاب من مغادرة المطار فى حال هبوط الطائرة. مما أدى الى اتخاذ خطة تقضي بنشر الجيش اللبناني وتسيير دوريات لقوى الأمن الداخلي في شارع المطار وهو مشهد يعبر عن العجز الرسمي والسياسي والأمني في ضبط الساحة الداخلية المتفلتة وحال التسيب والفلتان المسلح وعمليات الخطف. عمليات خطف، وعمليات اغتيال تحدث كل يوم، وعمليات تهريب سلاح ومتفجرات من قبل وزير الإعلام اللبناني الأسبق ميشال سماحة بتكليف من مسؤول الأجهزة الأمنية السورية اللواء علي مملوك. وتوجيه من الرئيس السوري حسب الاعترافات الموثقة، وقد كشفت التحريات أن الوزير الأسبق سماحة نقل متفجرات بسيارته الخاصة من دمشق الى بيروت لتنفيد عدد من العمليات الإرهابية ضد رموز في الطائفتين السنية والمارونية المسيحية لإشعال نيران الفتنة في لبنان. على أنها مجرد حلقة صغيرة في إطار سلسلة كاملة كان تحدث عنها الرئيس السوري بشار الأسد نفسه عندما هدد في بداية الثورة السورية بأن ما يجري في بلده سوف ينتقل الى دول المنطقة كلها، وأن الزلازل المدمرة سوف تضرب الشرق الأوسط بأسره. حكومة آل المقداد عمليات عسكرية «عائلية»، فكل عائلة أو عشيرة في لبنان يحق لها الآن إنشاء مؤسسات خاصة بها، واخذ القرارات السياسية الداخلية والخارجية، والقيام بعمليات عسكرية، وحسب آخر المشاهد المنفلتة التهجم على المستشفيات بالسلاح. حيث دخلت مجموعة مسلحة قسم الطوارئ في مستشفى رفيق الحريري الحكومي ما أثار حالا من الرعب بين صفوف الطاقم الطبي وأغمي على إحدى الممرضات بسبب التهديد بقوة السلاح. لماذا؟ لأن المجموعة المسلحة تريد إدخال المريض من دون اتخاذ الاجراءات الطبية وتسجيل المعلومات الضرورية ومعرفة اسم المريض. هذا وقد أطلقت عشيرة آل المقداد موجة من أعمال الاختطاف، ثم أعلنت عن وقف ما قالت انها «عمليات عسكرية على الأراضي اللبنانية» التي نجم عنها دعوة دول الخليج رعاياها لمغادرة لبنان فوراً لخطورة الوضع وعدم مقدرة الدولة بالسيطرة على الوضع الأمني. فظاهرة آل المقداد تسببت بإطلاق فكرة جديدة عند البعض بخطف الخليجيين ليس لاهداف سياسية بل مالية. وهذا ما شاهدناه بخطف المواطن الكويتي في البقاع منذ أسبوع تقريباً. هنا يتمثل الانهيار الكامل للدولة وعجز الجيش والقوى الأمنية الفاضح في لعب دورها في صد أي اعتداء ولو داخلي على السيادة اللبنانية وتبقى لبنان تحت استقواء السلاح. بلد التناقضات ما صعقني في لبنان في هذه الزيارة هو مدى انفصال بعض المواطنين اللبنانيين ومؤسسات الدولة عن الواقع المزري القائم على الأرض. أناس يصرخون «بدنا نعيش، تروكنا نعيش!» أو «زهقنا من هالبلد بدنا نفل» والبعض الآخر يقوم بمظاهرات واعتصامات لأسباب متعددة وربما لهموم ثانوية. ومع هذا كله يضحك السياسيون عندما يعلنون تمسكهم بالدولة وأنهم لن يسمحوا بمس هيبتها. وهم من دمر هذه الهيبة بمصالحهم واصطفافاتهم ولغتهم الحربية، الهيبة لم تعد لها وجود والدولة لم يعد لها وجود. دولة الرئيس الشهيد رفيق الحريري لم يتحرر سياسيو لبنان من رواسب الحرب ومخلفاتها فهم ينتجونها من جديد، «اشتقنالك دولة الرئيس».