تعاطى كثير من الأوساط السياسية والديبلوماسية مع حال الفلتان والفوضى التي شهدها لبنان يوما الأربعاء والخميس الماضيان، على أنها أكثر من مجرد تحرك عفوي وانفعالي من قبل عائلة المقداد رداً على خطف ابنها حسان المقداد في دمشق، وعلى الأنباء التي وقعت فيها محطات تلفزة بطريقة هستيرية ودراماتيكية عن المحتجزين اللبنانيين ال11 في مدينة إعزاز السورية منذ 22 أيار (مايو)، الماضي والتي أشارت إلى مقتلهم أو مقتل 4 منهم في قصف قوات النظام على المدينة. وغلب لدى هذه الأوساط، من خلال مشاهدة وقائع رد الفعل على شاشات التلفزة وما تخللها من اتهامات بأن هذه الفوضى وهذا الفلتان جاءا مقصودين، في منطقة نفوذ «حزب الله» ومعه حركة «أمل» في ضاحية بيروت الجنوبية وأن الحزب ربما أراد توجيه رسائل سياسية عبر ترك الأمور تأخذ هذا المنحى. إلا أن إعلان الأمين العام ل «حزب الله» السيد حسن نصرالله أن الأمور خرجت عن سيطرة الحزب والحركة، في خطابه مساء الجمعة دفع بعض هذه الأوساط إلى عدم الاكتفاء بهذا التفسير الذي ذهبت إليه أكثرية قوى «14 آذار» كما ورد على لسان رئيس الحكومة السابق رئيس كتلة المستقبل النيابية فؤاد السنيورة في مداخلته في هيئة الحوار الوطني عن أن ما حصل «ليس صدفة لحرف الانتباه عن اعتداء سافر على لبنان من قبل اللواء علي المملوك و(الوزير السابق) ميشال سماحة، ولإخضاع اللبنانيين في مسرحية شبيهة بمسرحية القمصان السود». وأيضاً كما ورد على لسان رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع الذي اعتبر «حزب الله» مسؤولاً عما جرى ويقف وراءه. وعليه تعددت القراءات للأحداث التي هزت لبنان وعلاقاته الاقليمية والخليجية، وضربت ما تبقى من هيبة الدولة ويمكن تلخيصها بثلاث قراءات، استناداً إلى الظروف السياسية المحيطة بالوضع اللبناني الحساس داخلياً وبصفته ميداناً للرسائل على الصعيد الإقليمي، كالآتي: 1 - القراءة الأولى تقول إنه على صحة اعتبار قضية المخطوفين مأساة إنسانية، فإن رد الفعل على خطف حسان المقداد، قبل بث إشاعة مقتل المخطوفين في إعزاز، فإنه لا يعقل أن تقوم عائلة المقداد بما قامت به في الشارع من دون «قبة باط» سياسية من «حزب الله» منذ الصباح الباكر في الضاحية الجنوبية. ويرى أصحاب هذه القراءة أن الحزب ترك الأمور تفلت من دون ضبطها لأن سياق تطور الأحداث وآخرها «التجرؤ» على توقيف سماحة وتوجيه التهمة إليه وإلى رئيس مكتب الأمن الوطني اللواء علي المملوك، حفل بالمواقف التي تتحدى سلطة «حزب الله» وحليفه النظام السوري في لبنان، في شكل غير مسبوق. ويقول مصدر سياسي بارز إن «الحزب أراد توجيه رسائل عدة نتيجة لذلك باتجاهات مختلفة، انطلاقاً من قراره تجنب التورط المباشر في أحداث أمنية، كما حصل في 7 أيار (مايو) 2008 لتفادي الانعكاسات المذهبية لذلك. وهي رسائل جرى التعبير عنها بألسنة الآخرين، لأنها تعبر عن مواقف الحزب». انزعاج من سليمان وجنبلاط وفي اعتقاد المصدر نفسه أن الحزب «منزعج من النقلة الجديدة في مواقف أطراف عديدة أبرزها رئيس الجمهورية ميشال سليمان ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، بدءاًَ من تحديد الأول جدول أعمال هيئة الحوار الوطني حول الاستراتيجية الدفاعية وصولاً إلى السلاح المنتشر في المدن». لكن هذا جاء بعد تراكم مواقف عديدة لرئيس الجمهورية تعاكس توجهات الحزب في شأن انعكاسات الأزمة السورية على لبنان، فهو وقف ضد الانتهاكات السورية للأراضي اللبنانية علناً واصطدم بالسفير السوري علي عبدالكريم علي عند استشهاد المصور في قناة الجديد علي شعبان، ورد على الرسالة السورية إلى مجلس الأمن التي تتهم فريق «المستقبل» بتهريب السلاح والمسلحين والسعودية وقطر بتمويل ذلك، ونفيه الأنباء التي سعى إلى تسويقها فريق 8 آذار عن وجود «القاعدة» في لبنان، وعن تمركز «الجيش السوري الحر» في الشمال، وصولاً إلى إعلانه أن تطبيق معادلة «الجيش والشعب والمقاومة» الذهبية بالنسبة إلى الحزب يتطلب جهة ما تحقق التعاون بين مكوناتها الثلاثة هي الدولة، انتهاء بتغطيته الكاملة لتوقيف سماحة وما قام به فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي غير آبه برد فعل دمشق وحلفائها. ويقول المصدر البارز إن «حزب الله لم يخف انزعاجه من كلام سليمان عن المعادلة الذهبية - أي الجيش والشعب والمقاومة، وأوصل إليه بطرق عدة عدم ارتياحه إلى كلامه»، وكذلك إلى تصريح جنبلاط حين قال انه «لا يمكن تحت شعار الجيش والشعب والمقاومة الاستمرار في هذه الشراكة الغامضة على حساب الجيش والأمن والاقتصاد والمصير...» والذي مهّد فيه للعودة عما وافق عليه في البيان الوزاري للحكومة الائتلافية الحالية والتي سبقها، وهذا يعني أن الفرقاء الذين أخذوا يتمايزون عن الحزب باتوا يستفيدون من ضعف موقع سورية في صوغ السياسة اللبنانية، وتأثير سطوة «حزب الله» كوكيل للمحور السوري - الإيراني على القرار السياسي في لبنان. ويضيف المصدر البارز: «لا يمكن عزل ما حصل على الأرض، عن الجو الإقليمي، إذا اقتنعنا بأن الحزب أراد قول ما يريد بألسنة الآخرين. فالهجوم على السعودية وقطر وتركيا إقليمياً، وعلى سليمان وجنبلاط وزعيم تيار «المستقبل» سعد الحريري من قبل أهالي المخطوفين واختطاف رعايا دول وتهديد آخرين ليس بعيداً عن إمعان هذه الدول في السعي إلى إسقاط النظام السوري، وصولاً إلى تعليق عضوية سورية في منظمة التعاون الإسلامي في مكة، على رغم الاعتراض الإيراني، هذا فضلاً عن استمرار خطف عدد كبير من الإيرانيين في سورية. حزب الله استفاد من الأحداث ويخلص المصدر إلى القول إن «حزب الله» ترك الأمور تتفاعل على الأرض، بموازاة نأيه بنفسه عن الإدلاء بأي موقف في شأن توقيف سماحة، لكن كان متوقعاً أن يقود تسلسل الأحداث إلى رد من جانب الحزب وحلفائه. وما يدفع أصحاب هذه القراءة إلى القول إن «حزب الله» استفاد من الأحداث هو أنه ترك آل المقداد يقومون بما قاموا به، خلال الساعات التي سبقت الأنباء عن مصير المخطوفين ال11 وأنه لم يكن ممكناً لميليشيا عائلية أن تحدد «بنك أهداف» من دون مساعدة جهة ما. ويذهب هؤلاء إلى حد القول إن قادة الحزب غابوا عن السمع لساعات قليلة قبل أن يقرروا مع قادة «أمل» النزول إلى الشارع والتحرك لدى آل المقداد لوقف عمليات الخطف والتراجع عن تهديد الخليجيين وفتح طريق المطار، فإفلات الأمور أدى غرضه من زاوية الرسائل السياسية التي وجّهت. 2 - القراءة الثانية هي التي تأخذ بما قاله السيد نصرالله عن أن الأمور خرجت عن السيطرة، نتيجة الأداء السياسي والإعلامي للحكومة وأطراف سياسيين وإقليميين حيال قضية المخطوفين ولأن الحزب لا يستطيع الوقوف في وجه تحرك أهاليهم بعدما تحولت قضيتهم إلى مأساة إنسانية لم تستطع الدولة تداركها... إيران والحزب مع الاستقرار ويضيف أصحاب هذه القراءة: بات مؤكداً بالملموس أن الحزب حريص على الاستقرار في البلد نتيجة قرار منه ومن إيران بتجنب إغراق ورقة نفوذ طهران في لبنان بأحداث أهلية تستنزفها قبل احتمال حصول مواجهة كبرى في المنطقة في ظل استمرار الحديث الإسرائيلي على حرب ضد إيران قد يكون لبنان أحد مسارحها، وللحزب فيها دور أساسي، فإذا كانت طهران تخسر ورقة سورية أو على الأقل تتعرض لضعف هذه الورقة فإنها لا تريد أن يتورط الحزب في مواجهات أهلية تقود إلى إضعاف ورقته اللبنانية. وهو حرص يوازيه الإصرار على بقاء حكومة الرئيس نجيب ميقاتي على ضعفها مخافة أن يضطر إلى اللجوء لتسوية مع الفريق اللبناني الخصم حول حكومة جديدة بشروط مختلفة لن يسهل معها العودة إلى معادلة الجيش والشعب والمقاومة ومقتضياتها. ويرى هؤلاء أنه على صحة الانزعاج من موقفي سليمان وجنبلاط وتزايد الهجوم على سلاح «حزب الله» فإنه ما زال مطمئناً إلى أن ميزان القوى ما زال لمصلحته وهذا ما يجعل السيد نصرالله يقول إنه إذا اعتدي على لبنان لن نطلب إذناً من أجل أن ندافع عنه، مهدداً إسرائيل بإسقاط عشرات آلاف القتلى. ويضيف هؤلاء: كان للحزب ولرئيس البرلمان نبيه بري موقف مميز عن بعض حلفائه في ما يخص توقيف الوزير سماحة، تسبب بانتقادات من بعضهم، حين تجنب الانخراط في الدفاع عنه في انتظار اتضاح المسار القضائي للقضية، بل إن أوساط الحزب وبري لم تخف ضمناً إقرارها بأن هناك قرائن وأدلة إذا صحّت قضائياً، تثبت أن ما قام به الجانب السوري خطأ جسيم. تمايز الأداء مع دمشق 3 - القراءة الثالثة تقول إن النظريتين السالفتين قد تكونان صحيحتين معاً، أي أن الحزب ترك الأمور تفلت لأهداف سياسية، وأنها خرجت عن السيطرة وسعى جهده لضبضبتها، تحت سقف حرصه على الاستقرار لأن تهديده في الظروف الراهنة ليس لمصلحته منعاً للتورط في أحداث أهلية تستنزفه وتضعف موقعه في أي مواجهة، أو تفاوض مقبلين، على ضوء التطورات السورية. ويستند أصحاب هذه القراءة إلى معطيات تفيد بأن هناك تمايزاً بين الحزب والقيادة السورية في إدارة الأمور على الساحة اللبنانية، وأن حرص الحزب على تفادي تصاعد الحساسيات المذهبية في لبنان سبق أن دفعه إلى عدم الاستجابة لرغبات سورية بافتعال أحداث معينة في لبنان. وهو ما يردده حتى بعض عتاة خصوم النظام السوري في لبنان، ويستدل هؤلاء على قضية الوزير سماحة للتأكيد على هذا الاستنتاج، ليخلصوا منه إلى ترجيح لعب الموالين المباشرين للنظام دوراً في التحريض على حال الفلتان والفوضى التي قادتها عائلات وحركتها آلام أهالي المخطوفين وساهم في تحريكها بعض القريبين من النظام (وجود نائب في مجلس الشعب السوري في منزل آل المقداد يشترك، كما قيل في التعريف عن السوريين المنتمين إلى الجيش السوري الحر). وعليه يجب تصديق كلام السيد نصرالله حول «خروج الأمور عن السيطرة» وإذا صحت نظرية التمايز «في الأداء عن الجانب السوري، فهذا يعني أنه أسقط في يد الحزب حين تحركت عائلات وجدت من يرفد ما تقوم به من حلفائه الذين لا يستطيع أن يقف في وجهه. ويمكن القول إن الحزب اضطر للتغاضي عن عمل قد يساهم في توجيه الرسائل التي يريد من قبل جمهوره وفقاً للقراءة الأولى للأحداث من دون أن يتورط هو فيها مباشرة، لكنه اضطر أيضاً للتدخل من أجل وضع حد لذلك حين بلغ مرحلة تؤثر في صورته خصوصاً أن بعض جمهوره لم يكن مرتاحاً أيضاً للفلتان الذي حصل لأنه يضرّ بالحزب وبقدرته على إمساك الأرض. وهو ما ظهر في الخلاف الذي وقع بين آل المقداد وبين النائب عن الحزب المذكور علي المقداد. وفي اختصار يرى أصحاب هذه القراءة أن ما حصل يدل على أن الأزمة السورية وردود الفعل من حلفاء النظام في لبنان أدخلهم جميعاً في مأزق حول طريقة التعاطي مع المرحلة الجديدة من هذه الأزمة...