هكذا قالت الشقراء ماري انطوانيت ملكة فرنسا التي دحرج رأسها جياع فرنسا بمقصلة الثورة الفرنسية. وكنت أظن عهدها قد ولى، لكن أمام بعض الطروحات لا تملك تذكّر تلك العبارات العجيبة التي تلفظت بها تلك المرأة الساذجة التي انتهت مع ابنها الصغير وزوجها بالمقصلة نهاية مأساوية. فعندما سمعت صراخ الجياع حول قصرها الفاخر مطالبين بكسرة خبز يسدون بها رمقهم، أطلت من شرفته وقالت قولتها المشهورة التي لم يحفظ لها التاريخ خيراً منها: يالهم من بلهاء.. إذا لم يجدوا خبزاً فلماذا لا يأكلون بسكويتاً. تذكرت تلك الجملة عندما قرأت ما نشرته جريدة "الرياض" بتاريخ 1429/12/4ه بقلم الدكتور راشد أبا الخيل تعقيباً على ما نُشر في نفس الجريدة بقلم الدكتور عبدالعزيز المقوشي حول اقتراح إلغاء وزارة الصحة، ومع أن الكاتبين قد يكونان قصدا الفكاهة.. إلا أن شر البلية ما يضحك!. لذا أردت التعقيب على ما تفضلا به. وكان الدكتور راشد أكثر قرباً من الشقراء عندما قال إن وزارة الصحة لا تصرف من موازنتها على كل مريض سوى 15.000ريال سنوياً أما بقية موازنتها فتذهب للمباني.. ولم يكمل فيقول: للمكافآت والرواتب والمظاهر الكاذبة ودهاليز البيروقراطية المتفشية والمستحكمة في إدارتها أسوة بغيرها. ولو أن الكاتب الكريم طالب بضبط الموازنة ومراقبتها ليتم صرفها في أوجهها السليمة، فلعله أحرى بالخروج من زمرة الشقراء.. لكن أن يكون العذر لإلغاء وزارة الصحة هو أن الوزارة لا تصرف سوى 15.000ريال من موازنتها على المواطن سنوياً، فهذا عذر يحمل من السذاجة ما لا يبرر. فإذا كان هناك تقصير في أوجه الصرف، مع ما أتاحته الدولة من موازنة سخية لهذا الغرض، فإن المريض غير مسؤول عنه ولا يجب معاقبته على تقصير غيره بإلغاء الوزارة التي مهمتها الأساسية العناية به وبأطفاله. والكاتب الكريم يقر بأن الوزارة تصرف على المواطن 15.000ريال ولا تقوم بما يجب القيام به.. بينما يُصرف في الدول المتقدمة 1500ريال كما يقول (أي عشر ما يصرف لدينا) وتُقَدم هناك خدمات أفضل. فهذه لعمرك حجة عليه وعلى وزارة الصحة.. فإذا كانت الوزارة تصرف عشرة أضعاف ولا تقدم خدمات جيدة.. فأين تذهب هذه المبالغ؟ ومن يجب محاسبته ومعاقبته على ذلك؟ المريض أم سواه! والكاتب الكريم معذور فيما ذهب إليه إذا كان لا يعلم أن الرواتب الشهرية لما يقرب من 30% من المتقاعدين السعوديين أدنى من 1600ريال شهرياً. وأن ما يقرب من 60% من المتقاعدين يتقاضون أدنى من 4000ريال شهرياً. وهؤلاء كبار في السن جار عليهم الزمان إن لم يكن ذوي القربى، فأصبحوا في أمس الحاجة للعلاج.. فمريض ضغط الدم المرتفع مثلاً قد تصل تكاليف علاجه 400ريال شهرياً، هذا إذا حالفه الحظ وخلا من مرض السكري. ناهيك عن ما يتفشى في المجتمع من بطالة وتدن في الرواتب. إن المشكلة في تدني خدمات وزارة الصحة مشكلة مركبة ولعل أهم عناصرها: 1) عدم وجود نظام طبي ذي نظرة استراتيجية بعيدة المدى، وإنما ما لدى وزارة الصحة أفكار نتاج ردَّات فعل آنية.. مما يجعلها أشبه بالعلاج بالمسكنات المؤقتة التي تريح المريض مؤقتاً لكنها قد تقتله لاحقاً. 2) عدم وجود رقابة صارمة.. مما يجعل التسيُّب سمة ظاهرة في المرافق الصحية.. فهناك شبه إجماع بين المختصين بأن هذه المرافق لا تعمل بأكثر من 50% من طاقتها. وهذا ما يفسر الزحام الشديد على أبوابها وقوائم انتظار العمليات وظاهرة البذخ في الرواتب والحراسات والتشجير والسكرتارية المتعددة.. واختباء المسؤولين خلف هذه السكرتارية الغلاظ الشداد الذين لا يعصون مديرهم ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.. إن النظرة إلى مثل هذه الأمور تعطى ولو فكرة بسيطة عن جدية العمل في هذه المرافق وانحرافها عن الهدف الذي أنشئت من أجله. 3) عدم توخي الدقة في إسناد المراكز القيادية الحساسة إلى ذوي الكفاءة المشهود لهم بالاستقامة.. وتدخل المحسوبية في ذلك. وكذلك عدم محاسبة المقصر.. بما يتناسب وتقصيره.. وأن لا يكتفى بنقله من مكان لآخر قد يكون أفضل من سابقه. 4) عدم وجود عيادات أولية مجهزة تجهيزاً جيداً بكوادر مؤهلة للعمل في أحياء المدن، مختلفة عن ما هو قائم الآن.. بحيث تكسب ثقة المراجع وتفيده.. وما نسمعه من خطط لوزارة الصحة منذ سنين طويلة أصبح مملاً.. ففي دراسة بسيطة وُجد أن ما يقرب من 80% من مراجعي المستشفيات يمكن حل مشكلاتهم في العيادات الأولية لو أُحسن استخدامها. ومثل هذا الإجراء سوف يفرِّع المستشفيات لما صممت له، فعند أبوابها الآن يتكدس مريض الزكام والحساسية مع مريض القلب والسرطان. أما القطاع الطبي الخاص الذي يريد الكاتب إسناد مهمة العلاج إليه، فلا زال يحبو خطواته الأولى.. وإذا كان الكاتب الكريم متخصصاً في الإدارة الصحية.. فأنا أعيش هموم هذا القطاع منذ سنين طويلة.. فالقطاع الطبي الخاص أصبح غابة تتسابق فيها الذئاب لافتراس المريض المسكين بنهم تُحسد عليه في غياب رقابة منضبطة وفي ظل نظام بدائي. ولذا فالمؤسسات الطبية الخاصة بأحجامها وأنواعها.. أصبحت مثل "خياطي النساء" في كل زاوية.. بين كل مؤسسة طبية وأخرى مؤسسة ثالثة يملكها من يعلم ومن لا يعلم أو يؤخرها من الباطن على من هب ودب دون رقابة من ضمير أو أخلاق مهنية. وقد كتبت كما كتب غيري في هذا المجال لمسؤولين عدة وطُرحت بعض الأفكار التي قد تفيد، وهي أفكار لا ندعي اختراعها لكنها نظم معمول بها في دول متقدمة تعلمنا فيها. وأشهد أن الهيئة السعودية للتخصصات الصحية بذلت وتبذل جهوداً كبيرة لتقييم الكوادر العاملة في القطاع الخاص، أعلم هذا عن كثب فأنا أحد الذين يكلفون بتقيِّيم هذه الكوادر.. لكن يُقيَّم أحد العاملين في هذه المراكز ويعطى رتبة صغيرة مثلاً من قبل الهيئة ثم تجده يعمل استشارياً ويقوم بإجراء العمليات الكبرى والصغرى دون حسيب أو رقيب. أما التأمين وما أدرك ما التأمين، فهو شيء يختلف عن التأمين الذي يجري في الدول المتقدمة.. فنحن أمة لا نستورد من الأمم المتقدمة إلا الأسماء فقط خالية من معانيها. فالمهم هنا هو المكسب تحت غطاء التأمين. فالمؤمن عليه لا تُجرى له من الفحوصات إلا أقلها.. ولا يعطى من العلاج إلا أرخصه توفيراً للتكاليف. فأول سؤال يطرح على المريض في هذه المراكز هو مؤمن عليه أم غير مؤمن عليه. فإذا كان مؤمن عليه أُختصر كل شيء.. وإن احتاجه، وإن كان سيدفع نقداً تفتقت عبقرية المختص في طلب ما يلزم من فحوصات وسواها، فضلاً عن المستوى العلمي والمهني للقطاع الخاص الذي لا زال سطحياً وغير عميق بما يكفي للتعامل مع الحالات الصعبة. إن الإعجاب ببعض النظم الغريبة وخصخصة كل شيء.. والذي أرجو أن لا يصل إلى خصخصة الأزواج والزوجات.. قد يكون له ما يبرره في بعض القطاعات.. لكن قطاعي الصحة والتعليم لا بد أن تكون في منأى عن ذلك. ثم لا ننسى أن نظام الخصخصة لم يظهر فجأة في تلك المجتمعات.. وإنما أتى بعد مئات السنين من التطور الاجتماعي والإداري واستقلال المؤسسات المدنية بحيث ملكت قوة الحسم والردع باستقلالية كبيرة.. ولذا فلا يعقل أن نلهث خلف هذه الدول لتقليدها دون أخذ الواقع بعين الاعتبار. وليس صحيحاً أن جميع الدول في الغرب تنهج في مجال الصحة نهج الخصخصة. فهذه بريطانيا لديها خدمات صحية متطورة ترعاها الدولة تحت مظلة NHS التي تشرف عليها، تصل إلى زيارة الحامل في منزلها قبل الولادة لإرشادها عن الوضع والاستعداد له.. ثم زيارتها في منزلها بعد الولادة يومياً لإرشادها كيف تعتني بوليدها وتغذيه. وهذه فرنسا لديها خدمات صحية تشرف عليها الدولة كذلك تقدم الخدمات المنزلية للمرضى. أما النظام الأمريكي فيأتي في أدنى القائمة من النظم الصحية في البلاد المتقدمة حسب تصنيف مجلة National Geography. فلماذا نقطع المحيط الأطلسي بعيداً يا سادة يا كرام! إن ما أراه ليس إلغاء وزارة الصحة وحرمان الطبقات الفقيرة من خدماتها.. ودفعهم إلى من يعتصر جيوبهم الفارغة قبل أجسادهم الهزيلة ويتاجر بمآسيهم وآلامهم، لكن تفعيل ما لدى وزارة الصحة من مؤسسات لم تبخل الدولة عليها بشيء.. ونحن الآن ولله الحمد نملك الكوادر البشرية المؤهلة.. والموارد المالية الكافية والقيم الدينية والأخلاقية العظيمة.. فلا عذر لنا فيما يحدث من قصور.